صفحات العالمما يحدث في لبنان

ورطــة

سليمان تقي الدين
البلد في ورطة. كل القوى السياسية في مأزق. أسوأ أشكال التعاطي هي المكابرة. افشل خطة للمواجهة اللعب على الوقت. الوقت سيف يحزّ في عنق البلد. الدولة مشلولة لأنها ليست مرجعية الحل، لا بشرعيتها ولا بإمكاناتها ولا بتفويضها من قبل الاطراف. القوى السياسية كلها في موقع رد الفعل على مبادرات الخارج. لا يملك أحد رؤية للتعامل مع العاصفة المقبلة، ولا يملك الأدوات. أخطر شيء هو الانتظار حين يكون من أصحاب المسؤولية والقرار. الجميع يتحدث عن حجم التحديات والجميع منصرف إلى جدول أعمال أقل من عادي. حتى شؤون المواطنين اليومية لا تلقى الاهتمام والمعالجة. هناك سياسة إدارة الظهر لكل شيء ودفن الرؤوس بالرمال. المشكلة الأساس اننا لم نعتد الفصل بين الخاص والعام في كل شيء. في المال، في المصلحة، في السياسة، في الإدارة، داخل الدولة والطائفة والحزب والجماعة. لا مفاضلة ولا تفريق بين الوطن والزعامة، بين القضية والشخص، بين المشروع العام والهدف الشخصي الأناني أو الذاتي. كل ما يقال اليوم في معرض ظهور استنتاجات التحقيق الدولي واتجاهاته يبنى على الحساب السياسي الفئوي. كل المواقف تصدر عن رغبة في تبرئة الذات واتهام الآخر. ليس مهماً في عرف أهل السياسة تفادي المشكل، المهم «الحق على مين». تاريخنا يكرر «بوسطة عين الرمانة» وحادثة «صيد الحجل في دير القمر» ولعبة «الكّلة في بيت مري». تاريخنا يكرر «الحلف الثلاثي» و«الرباعي» وسياسات «العزل» ولغة «الإلغاء». الوحدة الوطنية هي الاسم المستعار للتكاذب المشترك. هي الوسيلة لهدنة تذخير الأسلحة وأكل تمر الصنم المسمى دولة.
الفوضى المنظمة هي سمة نظامنا السياسي. معايير المؤسسة الحديثة مفقودة سلفاً. الأولوية ليست للصالح العام ولا حتى لحد من الانسجام والتكامل، بل للشخص، للزعيم، الذي تنتجه ظروف وأوضاع لا علاقة لها بمعايير الدولة الحديثة ومقاييسها. في المركز السياسي اللبناني لا ننتمي إلى نموذج يشبه أي نموذج دولتي في العالم. لسنا دولة بيروقراطية ولا دولة كاريزمية ولا أديولوجية، شمولية أو امامية. لدينا كل هذه النماذج في وقت واحد وفي سلطة واحدة بعدد ممثلي الطوائف وبحسب تطورها السياسي والاجتماعي الداخلي. يستحيل إنتاج سلطة وطنية في لبنان بمعنى التعبير المشترك الحقيقي عن مصالح كل اللبنانيين. المسألة الأساسية عندنا ليست المشكلات وحدها بل عدم وجود أدوات لحل المشكلات. كل حدث طارئ داخلي أو خارجي، كل شأن سياسي بالمعنى الصحيح لكلمة سياسة كإدارة للمجتمع يقع فعله انقساماً بين اللبنانيين. يختلف اللبنانيون في كل شيء ليس لأنهم جماعات طائفية وحسب، بل لأن قاعدة اجتماعهم السياسي لا تقوم على فكرة المواطن وحقوقه وواجباته. تشتغل الطوائف بديلاً عن وظائف الدولة ولا تشتغل بالتكامل معها أو بالتعاون. مجتمع الصراع الطائفي المنظم بالقانون، ينتج الحروب والعنف والاغتيال والظلم والحرمان والتمييز، لا يمكن له ان يقبل حقيقة واحدة وعدالة واحدة. القاتل والمقتول هما على حق، لأن السياسة عندنا مؤامرة وانقلاب ومشروع إلغاء للآخر. هكذا نتقاتل منذ منتصف القرن التاسع عشر وما يزال القتل وجهة نظر. لم نبحث عن الحقيقة والعدالة في العقود الأربعة الماضية ولن نعرفها اليوم. حتى العدو الخارجي الذي ندّعي اتفاقنا حوله لا نسمح له ان يوحدنا في نزاعاتنا الداخلية. هناك مواقف زئبقية تجاه العميل والجاسوس والعدو، وكذلك الأخ والصديق والحليف. كل قضية عندنا لها لب وقشرة. لها نواة تختلف عن المظهر. نغلّف الوطنية بالطائفية أو العكس. نحن باختصار مجتمع مفكك إلى إقطاعات سياسية تستخدم الركائز الدينية والطائفية والجغرافية. نحن مجتمع لديه تناقض عضوي وبنيوي بين حداثته وتقليديته، بين فرديته الجامحة وبطريركيته (الأبوية) المتحكمة بدواعي المصلحة والعصبية والوجدان. نحن لا نعرف ان نجد التوازن بين خصوصيتنا الفردية والمجتمع، بين الذات والجماعة، بين المواطن والدولة، بين الشخص والمؤسسة، بين الزعيم والوطن. الحقيقة حقائق والعدالة مساواة في الظلم والحرية حريات متنابذة. لكن هذه المفاهيم وهذه القيم ليست خاصة بالأفراد بل هي منظومات اجتماعية سياسية وثقافية متصارعة بأدوات سلطوية. لكل جماعة حق النقض أو الفيتو على المجتمع كله إلا في ما توطأت على قبول مرجعية الدولة فيه. وفي الغالب الأعم ما هو مشترك أو متواطؤ فيه ينتج عن ميزان قوى لا عن قناعة أو إرادة أو رغبة أو فهم.
حجم الخصوصيات الطائفية يتزايد على حساب العموميات. وفي كل خصوصية طرف من المقدس. نرسم حدود المقدس كما نشتهي ونعطي سلطة إعلانه لرجل الدين وللزعيم السياسي وللمثقف أحياناً. لبنان البلد الذي لا وجود لمثله، يقوم على لائحة من الممنوعات ولائحة من المسموحات.
المسموحات في لبنان تتخطى كل حدود. في التجارة كل شيء حر حتى في قوت العباد وحياتهم. وفي أمور كثيرة هناك عالم سفلي مظلم وآخر في النور. يتبادل المسموح والممنوع أحياناً لعبة الدعم. الاستبداد الطائفي ينفتح على حرية نقد الآخر، والحرية الطائفية تستبد بقمع الآخر عن حرية التعبير. خسر لبنان بسبب العنف السياسي المساحات المشتركة العابرة للطوائف. تدير القوى الطائفية الصراع السياسي حول العناوين والمواضيع والقضايا الكبرى والخارجية والكليات والعموميات لتلغي تفكير المواطن بيومياته ونمط عيشه. تغطي الطبقة السياسية أزمة نظامها بأخذ الناس إلى عناوين الخلاف والاختلاف وبالتحديد إلى «نقاشات بيزنطية». ينقسم الناس على جنس الملائكة وعلى عناوين «الحقيقة والعدالة والحرية والوطنية والسيادة» وعلى مواريث تاريخية تستحضر بنبش القبور. تتصارع «الجثث» ولا يتصارع الأحياء. لم يعرف اللبنانيون كيف يدفنون موتاهم بعد لأن الطبقة السياسية التي أنتجوها مجموعة من الندّابين بالأجرة وليس فيهم من يحزن ويغضب من أجل لبنان.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى