صفحات سورية

الممانعـة في ليلهـا ونهارهـا

null


نسيم ضاهر

بعد تجوال في معارج الصمود والتصدِّي، انعقد الردّ التاريخي على الممانعة في صيغة مغفلة تعفي من مزيد ايضاح وتعريف. فالممانعة توصيف لحال راهنة وغلاف يسمح بالضم والجرّ بلا حسيب مرجعي أو قيد جغرافي، في فسيح أمة هلامية حدودها الأسطورة ودرعها برنامج نووي قائم على العزة القومية لطرف غير عربي
يطل على حاضر الصراع من علياء الرسالة والرِّيَادة. وفي دائرة المقارنة، تنتصب الممانعة، على نحو التضاد نقيضاً لما يخالفها من موصوم بالاستسلام، وترتاح إلى استواء في موقع الدفع، يجنبها امتحان المواجهة الصريحة المباشرة ، ويهيِّئ لها الانتصارات بمقادير عجائبية ومنطق سحري.

تتشكل جبهة الممانعة من خليط عضوي، على درجات متفاوتة من الكيانية المؤسسية، وتتمظهر صورتها الدولتية في المحور الايراني/ السوري الذي تعصبه طهران وتتظلل به دمشق. كما تفرد مكانة خاصة لمنظمات أهلية عاملة في فلسطين ولبنان اكتسبت مشروعية تمثيلية فئوية عريضة، وتمكّنت من امتلاك السلاح واستيعاب المدد الوافد نهوضاً بمهام ميدانية مباشرة في المواجهة العسكرية ومنازلة مشروع التسوية السلمية، المتعثر أصلاً. هنا، يرتسم حقل المقاومة، على تماس مع كيان العدو الصهيوني، يشاغل ويحرِّك ويصنع المفاجآت ذوات المحمول العاطفي الشعبي، المجبول بجهادية لا تبرأ من استثمار المشاعر الدينية وتغليبها على الدنيوي والحاجات المجتمعية المسقطة من سلم الأولويات. وتقوم هذه الهندسة على قدر من المهارة وإتقان التنسيق بين أصيل ووكيل لغايات التمويه وضبط حدود اللعبة الصراعية، بحيث تبقى الدولتان الراعيتان في منأى عن الاحتكاك والمسؤولية الظاهرة، وتتمتعان بهامش الحركة والمناورة، وربما التفاوض، ويعهد أمر المصادمة والمشاكسة وما يستتبعه من أكلاف وتعقيدات الى فريق بعينه رافض للتسويات.

ترمي الممانعة الى إلقاء عبء إثبات البراءة على خصومها، تحت سيل اتهامات تكال عند كل حدث أو منعطف. وباحتلالها موقع الادّعاء العام، عفويّاً أم عن قصد، إنما تنزّه ذاتها سلفاً من كل مأخذ أو شائبة، وتحشد لنصرة الحق والواجب والثوابت الأصيلة والمقدّسات، وجميعها من مبتديات الوعي الجمعي، أو بالأحرى من مسلّمات اكتسابه ووفرة حصاده بين العامة، دون مجهودات أو بيان لوحة خيارات. فمن كان نصيبه الذود عن الذات ازاء أطماع الغرباء ومؤامراتهم الدائمة، لا حاجة له باختبار النيات وسوق الحجج المقنعة، لأن صحة موقفه تنبع من امتشاقه سيف رفع الظلم والقضاء على منشأ المظلومية من جذوره.

إنّ هذه الحقائق المُبسَّطَة مادة سهلة التوليف، تطرح على المُتلقي من حيث التزام نبض «الشارع» وانعاش ذاكرته، بوصفه مصدر الشرعية السياسية والبديل عن الأنظمة والمؤسسات الدستورية الشكلية، الناطق الفعلي باسم إرادة الجماهير، والمُعبِّر عن مصالحها وأحلامها. ويتكفل بتسويقها والترويج لمواسمها ظهير إعلامي شعبوي بامتياز، يوائم بين الوردية القومية والصحوة الدينية، تؤازره هيئات تحترف تنظيم المؤتمرات والاحتفاليات، اختارت الإقامة الدائمة في كنف منظومة دعائية مهنية ونخبوية الطابع، متزمتة عصبانية في نهجها وقراءتها للمجريات.

طالما استقرت الممانعة على درء المخاطر المعيَّنة وفق مرادها، والمعنونة تبعاً لتوصيفها، سهل عليها مراكمة الانتصارات الزائفة، المخصَّبة معنوياً، والهروب الى الامام باستحضار المزيد من المشاريع المعادية المهيأة للاسقاط. في هذا السياق، يلاحظ المراقب، ويسجل على جبهة حماة الفضيلة والكرامة، سلوك دروب سارت عليها المدارس الشمولية وأورثت تقاليدها، لناحية تعظيم مخططات ومساوئ الآخرين ومراميهم، بالاتكاء على شواهد من دارهم وشهود من أهلهم، يجري اقتطاف المعلومات (المؤكدة) من جعبتهم، واقتناص نقدهم اللاذع وسخطهم على مجتمعاتهم. هكذا يتم الوقوف بالمرصاد وإفشال هجمات الغرباء نتيجة رصد انتقائي مبني على زمالة لا تخلو من عناصر المنفعة والانتفاع، وخطوات استباقية دليلها معلومة شاردة أو تحليل لهامشي، أو حتى حاصل مساءلة أوجبتها آليات الديمقراطية بغية المراجعة وتصحيح الخلل في الأداء.

تتسع خيمة الممانعة لمعتصمين من مشارب مختلفة جامعهم التوجّس من واقع الأسرة الدولية ونصابها، والتبرّم من المعاصرة وإفرازاتها، كما لو أن العالم اجتمع على المعاصي، وتعمَّدت الحداثة النيل من الهوية والذات الأبدية الفريدة.

فللوهلة الأولى، يتعذر، نظرياً، إيجاد قواسم فكرية مشتركة وأرضية تلاق صلبة كفيلة بانتاج قوالب عمل وعلائم مسار، اذ ان التمايز سمة عامة تقيم مبدئياً العوازل بين القوميات، وحصرية الهداية بصحيح الدين جوهر المسائل الخلافية بين الحركات الدينية والمذهبية. إنما يغالط المشهد القائم هذه المقدِّمات المفهمية، ويدعو الى التفكر بالرباط المحكم الذي يشدّ فئات متباينة في أصولها وانتماءاتها، وطبيعته. والحال ان عروة المُناهضة لا تستدعي صوغ برامج مستقبلية وحياكة بدائل متجانسة قابلة للترجمة المدنية مناحي العيش والحياة، بل تكتفي بالتمحور حول مهمات وشعارات تطالب بالقطع مع الجاري الكوني، وتطلب التموضع في فضاء ثقافي/ حضاري نقيض. على هذا النحو، تختص الممانعة برفع الأسوار ورصف الحواجب، تحصيناً لمعسكر هجين في الداخل، يرمى في الخارج كتلة أعداء، وبالتالي ليس المهم تشخيص الدوافع، إنما العناية بالدفاعات، وتغليب الميداني على سواه من اعتبارات.

يشي قاموس الممانعة بعداء شديد للطاغوت العالمي والكيان الصهيوني في آن، شيطان أكبر وأصغر جمعهما الاستكبار والاغتصاب، وبلغة أكثر أناقة وأدلجة، الامبريالية والاستيطان. سوى أن محفظة التاريخ وسجّل الأحداث لا يحتويان ما يرشد الى هذه الخلاصة ومشتقاتها اللفظية لدى الجماعات المنضوية تحت لواء المحور الإقليمي، وفي مقدّمتها الجمهورية الاسلامية في إيران وسوريا الأسد، الدولتان المعنيتان مباشرة بمصيره، والقطبان اللذان انبثق عن تلاحمهما سنده الشعبي الأوسع.

دفنت طهران العهد الشاهاني البائد، مرتكز التحالف الغربي وضلع الحلف المركزي، لكنها نعمت أيضاً بأفضال الحملة الأميركية والأطلسية على العراق وأفغانستان وقطفت ثمارها إزاحة لعدوّين لدوديْن على تخومها الشرقية والغربية. كذلك عرف عن النظام السوري، وليد الحركة التصحيحية بقيادة الرئيس الراحل حافظ الأسد، التزامه الحرفي المديد باتفاقية فصل القوات على جبهة الجولان، واستمراره على العهد لعقود ثلاثة ونيِّف، بشهادة حكومات الاحتلال المتعاقبة. فكأنما شاء توزيع الأدوار الحفاظ على وحدة السيناريو وصبغته التحرّرية، عهدت إلى أهل المواقع الأمامية لزمة الجهاد مثابة فرض عين في تواصل وتكامل مع مصدر القرار والدعم والمدد والحسابات الدقيقة، بينما جلس عموم الأنصار في المقاعد الخلفية حيت تتعالى آيات المديح وصيحات الحرب وتتخذ منحى أسطوريا غير آبه بحقائق موازين القوى وحاجات الدول وصناعة السياسة بشفافية وديمقراطية.

اقتحمت طهران ضفة المتوسط الشرقية من البوابة الفلسطينية، ودخلت حقلاً مزروعاً بالألغام، مُغدِقة الوعود، حاملة حصتها من الذخائر والوقود، المادية والأيديولوجية. ولقد انتظرت الثورة الإيرانية قرابة عقدين قبل وطء الحلبة علانية، والانحياز إلى طرف فلسطيني دون سواه، والانغماس في المعادلة الوضعية الصعبة. بيد أنها هيّأتْ طويلاً لإطلالتها الفلسطينية المتزامنة مع السجال حول برنامجها النووي، عبر حراثة منهجية، دؤوبة مبرمجة، شملت جنوب لبنان والشريحة الشيعية من النسيج اللبناني، المتعاطفة معها مذهبياً والمتجانسة رؤيوياً وتراتبياً مع ولاية الفقيه. ومن النافِل القول ان الحضور الإيراني باتَ يُثقِل على نظام عربي مترهل أصلاً، ويضيف إشكاليات الى حجم المشكلات المزمنة وأسلوب معالجتها من خارج دائرة القرار العربي وأصحابه. المسألة لا تقف عند حدّ نُبـل المقاصد والإفادة من معونة رافد إقليمي صديق، إنما تؤول الى سؤال جوهري مفاده كيفية الإبقاء على الخصوصيَّة في شأن قومي بامتياز، وعدم التفريط بموروث تاريخي جمعي واعادة رسمه وفق خطوط مذهبية وعوامل طارئة تتصل بالحنين الى تاريخ امبراطوري فارسي بلغت أطماعه وأفعاله أرض العرب وديارهم.

فحِيال النخوة الإيرانية الراهنة الأخوية الصادقة في مروءتها ومسعاها ربما، لا يسع الطرف العربي إسقاط التحفظ وإزاحة الشكّ في ضوء اندفاعة طهران العراقية والخليجية بعامة، اضافة الى استيطانها في قلب المشرق العربي، رعاية لحزب الله. ودور مقرر حاسم له في الحياة اللبنانية، وإمساكاً بأوراق فلسطينية بغية عرقلة العملية التفاوضية وإجهاض المبادرة العربية السلميّة من أساسها. ويزيد من المخاوف والمآخذ العربية، إنّ سوريا، حليف إيران في الشدائد وطوال حربها مع العراق المجاور، غادرت عملياً مقام الندِّية في علاقاتها مع إيران، وأضحت على جانب من الالحاق تعاني من ضمور دور الشريك المتكافئ. أي أن ميزان الممانعة يميل طرداً نحو طهران كعاصمة القرار وقاطرة التحالف، فيما تنكفئ مكوّناته العربية، وأخصّها دمشق وترضى بمكانة ثانوية وجوائز ترضية متفرقة.

على كل الصعد، الاستراتيجية والعقدية الخلافية مع نادي الدول الكبرى، تتصدّر المفكرة الايرانية دائرة اهتمام ورهان المتحلقين حولها، وتحدد خريطة طريق الممانعة تبعاً لمصالحها وحراك سياساتها. ففي العراق محادثات ثنائية بين إيران والولايات المتحدة تمهِّد للتهدئة واستقرار الحكم، وفي دمشق تتحوّل زيارات الموفدين الإيرانيين المتتالية الى مناسبات لقاءات موسّعة تستحضر المقاومة في لبنان وفلسطين لتنظيم ودفع المشاغلة الميدانية والضغط على الولايات المتحدة وحلفائها لانتزاع التسويات.

([) كاتب لبناني

السفير – 17/3/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى