صفحات سورية

سوريا.. ورياح الخماسين

null
مروان سليم حمزة
إلى د. عبد الله حنا / جريدة النور
بالعودة إلى مطلع العام الحالي وعلى حلقات (رمضانية مكثفة) قرأنا تحفة الكتابات للدكتور عبد الله حنا / تحت عنوان (دعوة لتدوين معاناة سجناء المزة وبطولاتهم) من (1959- 1961) في جريدة الحزب الشيوعي السوري / قطاع يوسف فيصل (النور- العدد 371 (7/1/2009) وطبعاً للذين لا يعرفون نفيدهم : بأن هذا الحزب تابع للجبهة الوطنية التقدمية في سوريا، بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي القائد للدولة والمجتمع، وكل شيء في البلد، ورغم محاولات الكثير من أفراد هذا الحزب بالنأي قليلا عن توجهات قادته (التاريخيين) أو التقرب من سياسات السلطة الحاكمة، لكن تبقى السمة العامة لتوجهاته مكتوبة على صفحات الجريدة الرسمية التابعة لهم والتي تطبع في مطابع مؤسسة دار الوحدة الحكومية.
بدأ السيد حنا (توثيقه) بالمقدمة التالية: (ليل 31 كانون الأول 1959 شنّت المخابرات السلطانية في الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة حملة اعتقالات واسعة شملت المئات من أعضاء الحزب الشيوعي السوري وأصدقائه. ولم تتوقف هذه الحملة الشعواء، التي طالت الآلاف من الشيوعيين وأصدقائهم طوال حياة هذه الجمهورية، حتى قيام الانفصال وعودة الجمهورية السورية من جديد في 28 أيلول 1961).
وكمقدمة موضوعية لابد منها للحديث. نحن ضد أي نوع من أنواع الاعتقال السياسي بسبب رأي مخالف، ومهما كان هذا الرأي، وبأي فترة حصلت، وفي أي دولة كانت، لان الدول الحقيقية لا تبنى إلا بمجموع أفرادها وآرائهم المتنوعة والتي تشكل نسيجاً متكاملاً يزهو بتألق واضح في سماء من الحرية والديمقراطية والمواطنة الصحيحة.
ولكن أود أن أسأل الدكتور (المؤرخ) الأسئلة التالية: لماذا حصرت قصة (البطولات) والمعاناة للسجناء في تلك الفترة بالذات، وهل الاعتقالات السياسية في سوريا توقفت بعد الانفصال؟ حيث من المفيد للجميع بألا ندخل في (محاججة) بيزنطية نعرف نهايتها، مع العلم بأن وحدة 1958كان لها مشروع نهضوي للأمة مازلنا نفتخر به بغض النظر عما حصل لهذا المشروع من تشوهات بالتنفيذ على الأرض، فما هو بالمقابل مشروع النظم الحليفة للأحزاب الشيوعية اليوم؟ وبين من كان في تلك الأيام مع الوحدة؟ ومن كان ضدها؟. وبالتالي من هم الأصدقاء؟ ومن هم الأعداء لها؟ وأين أصبحت مصداقية الأسباب التي بنى الحزب الشيوعي السوري عليها موقفه المعادي للوحدة حينها، تحت ذرائع لم يعد يؤمنون بها اليوم؟ حيث أن ما يعيبه الدكتور عبد الله حنا على نظام الوحدة، تكمن جذوره في النظام الأم للتجربة الشيوعية عامة !
لن نناقش الأفكار التي أوردتها في الحلقة الأولى وما بعدها، لكنني سألت بعض العارفين السؤال التالي: هل أصيب عبد الله حنا بصدمة فرح عامرة وحالة نفسية وعصبية عالية المزاج على أثر انفصال الوحدة في 28/9/1961، أدت به إلى فقدان الذاكرة ما يقارب الأربعين عاماً، ليستفيق بعدها ولم يكن في باله غير السجون والمساجين للرفاق الشيوعيين!! وكأن كل الحوادث التي حصلت بعد الانفصال إلى الآن، كانت تحصيل حاصل خارج نطاق عقله، وأظن, بأنه يحتاج كعلاج تقليدي، لصدمة جديدة وقوية ليستفيق مما هو فيه، وليعرف من جديد بان حالة الطوارئ والأحكام العرفية والقوانين الاستثنائية مستمرة منذ 8/3/1963 إلى الآن دون استراحة تذكر، وبأن السجون والمعتقلات السياسية في سوريا لم تتوقف ولم تمتنع يوماً عن استقبال زوار جدد كل يوم منذ ذلك التاريخ، ولكن الفرق بين الزمنيين هو إن الثلاث أشهر في أيام الوحدة أصبحت في أوج السبعينات والثمانينات مثلا وما بعدها حوالي 120شهراً وحدها الأعظمي 200 شهراً وأكثر.
وهذه الاعتقالات المتنوعة بعد تاريخه، طالت الكثير من رفاق حزبك (العظيم) أيام زمان يا دكتور. ولعلمك أن كنت لا تعلم: في السجون الآن، ونحن في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، معتقلون من كل ألوان الطيف السياسي في سوريا، من قيادات إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، من بينهم السيدة فداء الحوراني، وآخرون كثر غيرهم، منهم ميشيل كيلو ومحمود عيسى وأنور البني وحبيب صالح و… و… والكثيرون الذين قد لا استطيع تذكّرهم. وكل يوم هناك أسماء جديدة تضاف على قائمة معتقلي الرأي.
نرجو من الله أن تستفيق من الصدمة أو الأزمة التي أنت فيها، لترى الحقيقة كاملة، ولتعلم بأن الشمس لا يمكن أن تحجب بغربال…
ولا بأس، بأن نذكر دكتورنا العزيز بالعمل التلفزيوني الرائع مسلسل رياح الخماسين، الذي أظن بأنه لمشاغله الكثيرة لم يتسن له الوقت ليراه. حيث نثمن فيه عالياً أداء فريق العمل، الذي تضافرت فيه كل جهود أفراده من ورش الإنتاج والإخراج، وفوق ذلك دقة متناهية في ادوار كل الذين شاركوا في تجسيد شخصيات هذا المسلسل. عندها ندرك كم كانت سمية تلك الرياح التي اجتاحت بلادنا في عصر مضى!!
عميقة تلك الجروح، التي تفتحت في هذا الوقت، بعد العودة بالتاريخ إلى عقدين أو أكثر من الزمن. إلى عصور كان فيه الإنسان ارخص سلعة في السوق، حيث يباع ويشترى مثل العبيد في سوق النخاسة، ولا يساوي قيمة الحذاء الذي يلبسه..
نحن الآن في عصر أصبحت فيه قدرة (إعلام السلطات من تلفزيون, وصحف), أقوى من كل أصوات صفوف المعارضة للأسف، وأضف كذلك كل أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية يا دكتور، وكأن الذي نراه من مسلسلات درامية جريئة, ولوحات فنية رائعة مثل (بقعة ضوء، غزلان في غابة الذئاب، رسائل الحب والحرب، كل أجزاء مرايا) وغير ذلك الكثير من أعمال وصور مدهشة، عالجت مختلف وجوه حياتنا التي نعيشها، في ظل سياسة الفساد المتجذرة في واقعنا المعاش، والتسلط، والاستزلام، والفردية، والظلم والقوانين الجائرة، والأحكام السوداء، والتي يسمح النظام عن طريق عرض بعض الأعمال الدرامية، لإقناعنا موارباً بأنه (جاد) في مسح صفحة الماضي و(الاعتذار المبطن) عن كل ما أفسدته الأجهزة الأمنية على مر التاريخ.
لسنا هنا في صدد مناقشة مسلسل رياح الخماسين فنياً, فتلك أكبر من قدرتنا على ذلك، ولكن ما نسعى إليه هو الإسقاطات الرائعة التي لامست مفاصل حياتنا اليومية بكل دقائقها, وكم حاولنا إقناع أنفسنا بان تلك الفترة المغلقة والسوداء قد أصبحت وراءنا, ولن تعود البتة الآن، لما فيها من قسوة تنوء من حملها الجبال، فمن عاصر تلك الأيام في شبابه أصبح حاليا في عقد الأربعينات أو الخمسينات من عمره ولسان حاله يقول : متسامحاً (تنذكر ولا تنعاد) ليس من باب صعوبة عودتها, ولكن من باب تهوين المصاب, حيث الذي نعيشه الآن قد يكون مشابها لتلك الفترة, ولكن بأسلوب مختلف وقد يكون أكثر حداثة وتطويراً!! وأكثر تأثيراً على النفوس, من حيث الذي كنا نقبل به سابقاً مجبرين، أصبح من الصعوبة التكيف معه حالياً.
ففي تلك السنوات السابقة كانت الاعتقالات على الشبهة, وبالجملة، وبالقرابة أو الصداقة، أو السكن مع الشخص المطلوب، كفيلة بأن يكون الشخص في عداد المعتقلين، أو المفقودين بعد حين, ليس بالضرورة انه يعمل في أي مجال محظور من وجهة نظر السلطات، بل لأنه قد يمت بصلة إلى المطلوب. وهذه الحالات الكثيرة قد تم تصويرها بكل دقة في المسلسل، أما الآن فقد تطورت تلك الأساليب بحكم تأثير التكنولوجيا المتقدمة في دول العالم المتحضر, والتي نحن في ركابها، حيث تسخّر تلك التكنولوجيا / فقط / في بلادنا للامساك بالذين يعملون في السياسة أو أي مجال في منظمات حقوق الإنسان أو في الشأن العام, وإن مكالمة هاتفية، أو رسالة بريد الكتروني، أو قول رأي ناقد للحكومة أو مخالف لرأي المحيطين في مكان عام أو خاص أصبح سبباً مباشراً في أن يوضع اسمه وكل أفراد عائلته على القائمة السوداء. أمام احتمالات كثيرة منها السجن، أو الفصل، أو النقل التعسفي، أو معاقبة أولاده وأقاربه في التوظيف أو المسابقات. متناسين مسلسلات الفساد العفنة، والتي أزكمت الأنوف وأصابت عامة الشعب بالإحباط، أمام شعارات فارغة منذ سنوات لمحاربة الفساد والفاسدين، وفاضت قريحة أبناء شعبنا للتندر والسخرية على ما يجري، بحسرة أمام منظر أكداس العملات المتنوعة (في فيلم حسن مخلوف والمصاري !) حيث ساهمت (تكنولوجيا الاتصالات في نشرها السريع والواسع) والتي فاقت قيمتها النقدية بالتصريف على العملة السورية حوالي ميزانية عامين متتاليين، وكانت الجرأة لدى بعض (الحالمين) في اقتسام غنائم السرقات بشكل اشتراكي بين كل أفراد الشعب السوري كمجموع عام موزعين على كل فرد حوالي النصف مليون ليرة سورية أو يزيد… ومنهم بالطبع الدكتور عبد الله حنا…………..
ملاحظة: كنا نود من الرفاق في جريدة النور نشر هذه المادة، لكنهم اعتذروا لأسباب كثيرة قد تفهم من سياق الموضوع.

نيسان 2009 السويداء – شهبا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى