صفحات مختارة

تفكيك الديكتاتور

خيري منصور
يُقال ان الديكتاتور لم يكن ذات يوم طفلاً، فقد ولد بالغاً وبشاربين، لأن المرور بمرحلة الطفولة البريئة، يشكل بالنسبة للبشر احتياطياً أخلاقياً.
وما نشر مؤخراً عن موسوليني، بأنه كان في شبابه عميلاً للمخابرات البريطانية بأجر لا يتجاوز مائة جنيه استرليني يفتح الباب على مصراعيه، لتقصّي السير الذاتية لطغاة، تصوروا بأنهم خالدون ومعصومون، لكن الحقيقة التاريخية والسايكولوجية لهؤلاء، قد تقع على النقيض من كل ما زعموه عن أنفسهم، لأنهم عندما كتبوا مذكراتهم أعادوا إنتاج ماضيهم، ومنهم من اخترع طفولة استثنائية تليق بما انتهى إليه، وثمة فارق كبير بين أن يكتب الديكتاتور عن نفسه وما يكتبه عنه الآخرون، وغالباً ما يستشهد في هذا السياق بما كتبه اسحق دويتشر عن ستالين في مجلدين كبيرين، فستالين مثلاً ديكتاتور وطاغية اقترن اسمه بالجدار الفولاذي الذي شيده حول نظام شمولي رغم أن هناك من المؤرخين من يرى أنه عالم لغوي موهوب، ومناضل ضحّى بابنه الوحيد من أجل روسيا. إنه ككل الشخصيات المماثلة متعدد، وقابل لعدة قراءات فما قاله عنه دويتشر يوشك أن يكون مناقضاً لما كتبه عنه الشاعر نفيتشنكو في كتابه الشاعر في الثلاثين.
حتى أدولف هتلر لم يعدم المدافعين عنه والمعجبين به، ومن المثير بالفعل أن يقال عن المغني الراحل مايكل جاكسون بأنه كان مفتوناً بهتلر، وتلك بالطبع حكاية تطول، وقد نتيه في شعابها، ما يعنينا هنا هو الكشف عن مواقف مجهولة لموسوليني بعد مرور كل هذه الأعوام على رحيله وبالشكل المأساوي الذي تم فيه ذلك الرحيل، كيف يمكن لزعيم يتطلع إلى حكم العالم وإلى الخلود أن يبتدئ جاسوساً؟ وما هو التفسير السايكولوجي لهذه الظاهرة المزمنة في التاريخ.
إن الديكتاتور نرجسي بالضرورة، ويعاني من تورم في الذات، ولا يرى في الآخرين إلا صدى لوجوده، لهذا فهو لا يطيق الاختلاف حتى لو كان في وجهة نظر تحدد نسبة الانحناء في حضرته.. وقد كتب فنان روسي متضرر من الفترة الستالينية يقول ان هذا الديكتاتور لو استطاع أن يحشو الناس بدلاً من التبغ في غليونه لفعل، ورغم وفرة الروايات والأفلام السينمائية والمسرحيات عن الطاغية إلا أن تكوينه يبقى مثاراً لسجالات لا آخر لها، فلعلماء الاجتماع والنفس أطروحاتهم الشهيرة في هذه المسألة، وإن كان الناس العاديون يصعب عليهم التصديق بأن من ملأوا بيوتهم بالأشباح وناموا ملء جفونهم عن الشوارد ليسوا سوى مرضى، وضحايا طفولات شقية وحرمان تحول بمرور الوقت إلى مديونيات يتعذر تسديدها، لهذا رضخ الديكتاتور لامرأة عشقها وتحول إلى ظل لها. كما حدث لنابليون مع جوزفين، وموسوليني مع المرأة التي تزوجها سراً. لقد دفع الإنسان ثمناً باهظاً بسبب تورطه بطغاة حولوه إلى مطيّة لأحلامهم وباسم الحرية شنقوا الأحرار، وباسم العدالة عمموا الشقاء، وباسم الديمقراطية احتكروا السلطة وحاولوا ربطها كحيوان إلى قوائم مقاعدهم أو أسِرّتهم.
فهل ما مرّ من ألفيات من هذا التاريخ يكفي لبلوغ البشرية رشدها، بحيث تعلن الفطام عن هذا الحليب الأسود السام؟
لقد كان الديكتاتور في الماضي القريب صندوقاً مغلقاً ومفعماً بالأسرار، لكنه الآن أشبه بالمعيّدي الذي قال أسلافنا العرب ان السماع باسمه خير من رؤيته.. والطفل الذي افتضح عري الامبراطور في قصة اندرسون الشهيرة، على أبيه الآن أن يفتضح عري الديكتاتور.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى