الانتخابات النيابية اللبنانية.. استمرار المآزق البنيوية
خالد غزال
دخل لبنان عملياً في العملية الانتخابية النيابية المفترض أن تجري في السابع من شهر يونيو (حزيران) المقبل. باتت الحياة السياسية محكومة بهذا الاستحقاق، ومعها كل القضايا المعلقة، كبيرة أكانت أم صغيرة، ولم يعد هناك من حديث على جميع المستويات سوى حديث الانتخابات النيابية. انطلقت الماكينات الانتخابية للقوى المتصارعة في مهرجانات حماسية وتعبوية مجندة المئات من المتطوعين، وانطلقت الترشيحات التقليدية منها وغير التقليدية، ومنها ترشيحات يطرحها أصحابها على سبيل الوجاهات، أو على سبيل الإفادة من القوى الانتخابية «العظمى» التي تغريها للخروج من المعركة. تقدمت البرامج السياسية المتضمنة طرحاً لمطالب آنية واستراتيجية يدرك أصحابها انها مخصصة للإعلام اكثر منها للتنفيذ. يرى كل طرف من أطراف التوازن السائد أنّ المعركة مصيرية وأنّ الربح فيها، أو الخسارة، ستكون له انعكاسات خطيرة على مصير البلد، في سيادته واستقلاله ونموه. لذا يشدد كل طرف على ضمان اكتسابه للأكثرية المقبلة، وأنّ النصر حكما سيكون حليفه. بالتأكيد ستكون لهذه الانتخابات أهمية قد تفوق أية انتخابات جرت في العقود الماضية. لكن بعيدا عن التضخيم والتهويل، يمكن تبيّن معالم المرحلة المقبلة منذ الآن، واستشراف حدود التغيير إذا كان بالإمكان حصوله، ورؤية المآزق البنيوية التي تحكم البلد وتحدد لكل قوة حجم قدرتها على الفعل أو التغيير.
تتصرف جميع القوى المتنافسة، استناداً إلى حصول الانتخابات في موعدها المحدد، ويدعي كل طرف أنه يسعى لإجرائها في ظروف هادئة، ومنع ما يتسبب في تأجيلها، أو الغائها. لذا يتطور الخطاب السياسي للقوى الفاعلة انطلاقاً من هذا التوجه، بحيث باتت لغة التهدئة سائدة إلى حد بعيد، باستثناء قوى ترى أن الخطاب المتشنج مطلوب في ذاته من أجل تعبئة الجمهور وتجييش مشاعره.
لفترة غير بعيدة كانت أجواء التشاؤم في شأن إجراء الانتخابات تغلب على أجواء التفاؤل، وهو أمر ارتبط، ولايزال، بالعوامل الإقليمية الخارجية التي تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على السياسة اللبنانية. تراجعت حدة التشاؤم هذه بعد المصالحات العربية التي جرت، والتي انعكست على خطابات القوى السياسية. لكنّ هذا الانفراج لا يلغي مسألة كون الانتخابات ماتزال في دائرة الخطر، وأنّ احتمالات إجرائها قد تكون موازية لعدمه، بالنظر إلى أنّ المصالحات العربية والتدخلات الخارجية لم تستقر على تمرير الاستحقاق بشكل حاسم، ولأنها لم تحسم بعد الخلافات الأساسية في الوضع العربي وسائر العلاقات الإقليمية.
على الرغم من هذه المحاذير، بدأ الجميع يتصرف على أساس حصول الانتخابات. كما في كل انتخابات لبنانية، تسود تقاليد تحافظ على استمراريتها، تتسم بوصول الاستقطابات الطائفية والسياسية إلى أعلى ذراها، بحيث تشهد البلاد تبلور الانقسامات بشكل حاد، ويتم فرز القوى بما يمنع وجود قوى محايدة، او مستقلة، في حال سعت إلى هذه الاستقلالية. يترافق هذا الانقسام بتوتر يصيب جميع المجالات، فيرتفع منسوب التعبئة الطائفية والمذهبية العارية، وتجري تغذية عصبيات عائلية وقبلية وعشائرية، وترتفع لهجة الخطاب السياسي معبرا عن نفسه بلغة غير سياسية قوامها الشتائم والتجريح الشخصي والإهانات و«نبش القبور»، يترافق ذلك كله مع تقديم خدمات سريعة، أو ابتزاز خدمات في المقابل.
لا تصعب قراءة المشهد اللبناني في حقيقة أمره خلال هذه المعركة، أو في توقعات نتائجها. لم تكن البرامج السياسية التي ترفعها قوى الانتخابات العنصر الحاسم في خوض معركتها. في أي حال يتشابه الكثير من برامج قوى 14 و8 آذار (مارس) وغيرها من القوى لجهة ترصيف المطالب وتعيين الأهداف. كما لا تشكل هذه البرامج أساساً حاسما في توجّه الجمهور اللبناني إلى أقلام الاقتراع، إلاّ في حالات قليلة. لذا تناقش الانتخابات في مقدماتها، وعبر ما بلورته من استقطابات طائفية بشكل عام.
أول التوقعات من هذه المعركة الانتخابية ستكون في أنها لن تسفر عن بروز أكثرية ساحقة، ولا عن أقلية مسحوقة. منذ العام 2005 وحتى اليوم، بقي البلد محكوماً بتوازن قوى يعجز أي طرف من أطراف الصراع تحويله إلى غلبة سياسية، أو شعبية كاسحة، بل يمكن القول في توازن الحشد الشعبي لكلا الطرفين. إن عودة توازن القوى الراهن، الذي قد يشهد بعض التعديلات في المقاعد بشكل محدود لهذا الطرف أو ذاك، سيعني تركيبة للسلطة لا تختلف كثيرا عما هو سائد اليوم. فالمأزق البنيوي الذي يعيشه البلد، والقضايا التأسيسية المفروضة عليه، في النظام السياسي والوضع الاقتصادي والحالة الاجتماعية، وعلاقة لبنان الإقليمية، وموقع لبنان من الصراع العربي الإسرائيلي، والاستراتيجية الدفاعية…وغيرها من القضايا البنيوية، لن تجد حلولا لها سواء نجح فريق 14 آذار أم فريق 8 آذار في تحقيق الفوز بالمقاعد الأكبر.
هذا التلمّس لحجم المآزق البنيوية بدأ يدقّ أبواب الخطاب السياسي لما بعد الانتخابات، وأهم ما فيه تصريحات قوى المعارضة عن حكومة وحدة وطنية ومشاركة القوى جميعها في حكم البلد، وهو موقف يدرك أنّ حجم المعضلات والاستعصاءات البنيوية في البلد تجعل أي طرف عاجزا عن إدارته منفردا. والجديد أنّ قوى الأكثرية الحالية بدأت تميل أيضاً إلى الخطاب إياه في المشاركة في الحكم، كما بدأ خطاب «الانتخابات المصيرية» في الانحسار لمصلحة اعتبار أن الانتخابات محطة من محطات الحياة السياسية البرلمانية التي يقوم عليها النظام اللبناني.. ما يعني عودة لتركيبة الحكم التقليدي في البلد، قد يدخل عليه بعض التعديلات الطفيفة في هذا المجال أو ذاك. أما الحالمون بانقلاب موازين القوى وبالتغيير القادم على أحصنة الطوائف وعرباتها، فلا شك بخيبة أمل تصدم أوهامهم، ليكتشفوا أنّ القديم قد عاد إلى قدمه، وأنّ المعادلات الداخلية والإقليمية تشكل قيدا تتحدد بموجبه إمكانات التحولات «الإستراتيجية» في البلد.
وسط هذه الصورة غير الزاهية لواقع الحال، تعود جرافة الاستقطابات الطائفية لتجرف في طريقها الحدود الدنيا من القوى التي لا ترى لها موقعا بين الطوائف. إذا كان البلد يشهد موجة عداء ضد قوى من صلب النظام السياسي والطائفي، تسعى لأن تكون متمايزة عن معسكري آذار، وتخوض المعركة الانتخابية من دون أن تكون في هذه الجهة أو تلك، فإن من الطبيعي ألا تجد القوى العابرة للطوائف أي مكان تلجأ إليه أو تنتمي إلى خطابه. إن الأسوأ سيكون في خفوت كبير لسماع صوت غير طائفي بعدما وصلت الاستقطابات الطائفية إلى مرحلة من الاندفاع يصعب فيها اختراق «صوت نشاز» عن خطابها القائم، ما يعني أن أي إمكان لتأسيس مشترك خارج هيمنة الطوائف، أمر في منتهى العسر خلال معركة انتخابية لا تسمح لغير الأصوات الطائفية في التعبير عن نفسها.
كاتب من لبنان