صفحات العالم

مؤتمر جنيف لمناهضة العنصرية: فرصة من أجل ماذا؟

نهلة الشهال
يحيط توتر هائل بالمؤتمر الدولي الرابع الذي تعقده الأمم المتحدة حول العنصرية في جنيف، بتاريخ 20-24 نيسان (ابريل) المقبل… بدءاً من تسميته المغرضة بـ»ديربان الثاني»، استحضاراً لما جرى في المؤتمر الدولي السابق المعقود في مدينة ديربان الجنوب افريقية في 2001، حيث طغت على كافة بنود المؤتمر، في شقه المدني وليس الرسمي، نقطتان هما ما يتعلق بفلسطين وبمسألة العبودية، بينما الموضوعات التي يفترض أن يقاربها المؤتمر تشتمل على دوائر أوسع من تلك، تخص كل تمظهرات وميادين العنصرية.
في ديربان، وفي إطار مؤتمر المنظمات المدنية الموازي للمؤتمر الرسمي، تركزت جهود المشاركين على إقرار إدانة للصهيونية بوصفها حركة عنصرية، وعلى إقرار توصية بالتعويض المادي لضحايا العبودية. بينما خرج المؤتمر الرسمي بنص وافق عليه بالإجماع مندوبو الدول الـ161 المشاركة، يعرب عن «القلق على مصير الشعب الفلسطيني الذي يعيش في ظل احتلال أجنبي»، ولكنه يقر لإسرائيل بالحق في «الأمان». اليوم، تقود الحملة ضد «ديربان الثاني» إسرائيل والمجموعات الصهيونية بالدرجة الأولى، تساندها الولايات المتحدة التي أعلنت انسحابها من الاجتماع، وكذلك كندا وايطاليا، بينما تجري ضغوط حثيثة لدفع الاتحاد الأوروبي، كمنظمة، الى إعلان انسحابه. وقد التزم رئيس الوزراء الفرنسي، خلال المأدبة السنوية لـ»المنظمات المدنية اليهودية في فرنسا» بمجابهة «كل ما يمس سمعة إسرائيل»، في إشارة الى هذا المؤتمر، كما الى الأجواء المدينة لإسرائيل التي سادت الرأي العام عقب العدوان على غزة.
لكن وظيفة المؤتمر الدولي ضد العنصرية أكثر تعقيــــداً مــــن هذه النقاط. إنها محاولة لرسم أو تعيين مستوى التوافق الدولي حول تعريف العنصرية. وقد يبدو ذلك بديهيا، ولكنه في الواقع يخص مفهوم عالمية أو شمولية حقوق الإنسان، التي يفترض أن الإعلان العالمي العائد لها، وكذلك شرعة الأمم المتحدة، قد أقرتها. سوى أن هذا الإقرار يتبدى على شكلية قاتلة متى ما تمت مقارنته بالواقع. إذ تستمر، بل تتكاثر، الحروب الكولونيالية، ومعسكرات الاعتقال والتعذيب السرية (فغوانتانامو ليس سوى رأس جبل الجليد كما بات معروفاً)، وتستقر معالجة أمنية بحتة للأزمات الاجتماعية والفوارق الاثنية وقضايا الهجرة، القائمة داخل البلدان الغنية نفسها. ويشكل كل ذلك انتكاساً لتعريف حقوق الإنسان، وانتهاكا عمليا لتلك الحقوق، بات يجري ليس تبريره فحسب، بل التنظير له، والإمعان به عبر إقرار قوانين «الاستثناء» المشرعة بحجة مكافحة الإرهاب، والتي تقيم في واقع الحال ازدواجية حقوقية خطرة، تمثل طريقا واسعا للعسف. علاوة على الخاصية «الرخوة» لتلك الازدواجية، أي قابليتها للتأويل والتشكيل. وهي غالبا ما تطبق على المتحدرين من الهجرة، والمواطنين الملونين، ولكنها تجنح أحيانا إلى الوقوع في إغراء صناعة المزيد من «الأعداء الداخليين» الوهميين، كالتلويح بعودة المجموعات اليسارية العنفية الخ…
وبشكل محسوس أكثر، واجهت اجتماعات اللجنة التحضيرية الرسمية لمؤتمر جنيف عواصف بدأت بما اعتبر رئاسة إشكالية لليبيا، ثم بالانزعاج من الوثيقة التمهيدية الكبيرة الحجم (148 صفحة) والتي وصفت بأنها «خُرج» مليء بكل شيء. وارتسمت خطوط الخلاف على الصعيد الرسمي حول مسألة «التشهير بالأديان» التي أرادت دول، إسلامية خصوصاً، إدراجها كتعبير عن العنصرية، ورفضتها الدول الغربية بحجة صون حرية الرأي، ثم مسألة التعويض المادي عن العبودية التي أرادت دول افريقية الدفع لإقراره ورفضته الدول الغربية بحجة أنها لا ترضى تعيينها كوريث لتلك الممارسة، وان المسؤولية عنها قد سوّاها التاريخ. وعلى هذا الصعيد نفسه، كان لمسألة توصيف إسرائيل نصيب مهم. وقد اختفت من الوثيقة التحضيرية الثانية (المختصرة بشدة، والتي عمل على صياغتها ديبلوماسي روسي وُصف بأنه منقذ اللحظة الأخيرة)، اختفت المقاطع التي تشير إلى إسرائيل! وقد كان هذا شرطا غربيا صارما، «نقطة قطيعة» كما أسموها، بحجة أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة المذكورة بالاسم، مما يشكل مساً بها!
وهكذا أصبحت الوثيقة التوافقية الجديدة بلا طعم ولا رائحة، إنقاذا لمؤتمر جنيف من الخطر الذي يتربص به، والمتمثل بانسحاب الغربيين منه، بحيث يسقط كإطار دولي، وتسقط معه إحدى مؤسسات الأمم المتحدة. وهذا نتيجته الانحدار درجة أكبر في منحنى التخفف من وجود مرجعيات ضابطة لتعريف العنصرية بكل أشكالها… حرية تريدها الدول الغربية خصوصا، ولكنها تطابق الممارسة الواقعية القائمة، كما يقول بعض المنظّرين لدفع الأمور نحو الأسوأ، بحجة أنه المخرج من حالة الرياء والتزييف السائدة.
ولكن المعركة الطاحنة الأخرى تجري على مستوى المنظمات غير الحكومية، التي تعقد مؤتمرا موازيا. ويمكن هنا ملاحظة النشاط غير المسبوق للمنظمات الصهيونية، وأيضا لمنظمات «علمانية» أوروبية. والطرفان يتفقان على الرغبة في إفشال الاجتماع سلفاً، لأن إسرائيل لا تمتلك هنا الأدوات القائمة على الصعيد الرسمي للدول، ولا يمكن أن تحول دون إدانة صريحة لها، خاصة بعد العدوان على غزة، والتهجير الجاري في القدس، واكتمال جدار الفصل، إلى آخر التطورات التي حدثت بين ديربان 2001 واليوم. أما المنظمات الثانية، فتستمر في حملتها على الإسلام، والتي أصبحت العمود الفقري لنشاطها، والستارة التي تخفي غيابها عن القضايا الفعلية لمجتمعاتها، وانهيار فعاليتها المستقلة عن النظام المهيمن، بكل تجلياته.
وأما المنظمات غير الحكومية المناهضة لـ»النظام المهيمن» ذاك، بمعناه الشامل، ومنه إسرائيل، فكالعادة، لم تتهيأ للمهمة، على الأقل بشكل مفكَّر وجماعي، يدرك الفارق الجوهري بين الإصرار على الإعلانات المبدئية والقدرة على تسجيل أثر في الواقع، أي بلورة استراتيجيات العمل من أجل تحقيق تقدم، وتعيين أدواته وتكتيكاته. والخطر هنا مزدوج: أن تسود «واقعية» تدفع للتخلي عن الرابط بين تلك المبادئ و«الانجازات القابلة للتحقيق»، والتي تصبح، والحال تلك، هي الأخرى بلا طعم ولا رائحة. أو أن يُكتفى بالصراخ بتلك المبادئ، وبالرضا عن النفس لأنه «قلتُ كذا وكيت». بينما تمثل هذه المناسبات فرصة لتحقيق تقاطع، مفهومي كما عملي، بين ممثلي كل الجماعات المتضررة من «النظام المهيمن»، أي أكثرية الناس. من جديد، إنه الفارق بين الوعي بذاته، والوعي من أجل الذات!
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى