غسيل دماغ قومجي… غسيل دماغ غربي
زين الشامي
لا أستطيع التخلص من إحساسي بالحزن والشفقة على صديقي الذي هاجر وترك سورية، متوجهاً إلى فرنسا منذ عامين، فكلما التقيته على «الماسنجر» أو «الشات» أو بعث إلي رسالة على «الهوتميل»، أشعر أنني خسرته وإلى الأبد جراء ما يتعرض إليه من غسيل دماغ هناك، وما يحز في القلب شعوري بأنني أخسر صديقي يوماً بعد يوم ورسالة بعد رسالة.
آخر مرة، وحين كنت أحدثه عن الانتصارات التي نعيشها في بلدنا جراء ثباتنا على مواقفنا، واعتراف الدول العظمى كلها بأهمية دورنا الإقليمي، ومن ثم بعودة جميع الدول «الاستعمارية والمتغطرسة» إلينا، وفشل خططهم ومخططاتهم بعزلنا، فما كان منه إلا أن رد عليّ بطريقة استعلائية، كما لو أنه ليس مواطناً عربياً سورياً أصيلاً، لا بل راح يتفّه من شأني وطريقة تفكيري ويحدثني بطريقة لا تخلو من شفقة على مقامي، كما لو أنني أعيش في بلاد «الواق واق» وليس في سورية قلب العرب النابض والصخرة التي تحطمت عليها المؤمرات الداخلية والخارجية كلها. ولما احتديت بسبب ذلك وسمحت لنفسي بكل أدب أن أصف حالته المرضية تلك بنوع من «غسيل الدماغ» الذي يتعرض إليه عموم العرب في تلك الدولة وغيرها من الدول الغربية، فما كان منه إلا أن رد هذه التهمة نحوي هازئاً، ضاحكاً، ساخراً. وهذا جزء مما قاله، أعرضه عليكم لأنني بت مقتنعاً الآن لما تحرص حكومتنا كل الحرص على اتخاذ إجراء منع السفر بحق البعض من السوريين وتسجن بعضهم الآخر. إنه الحرص الأبوي الطبيعي على سلامة الأبناء. وإليكم بعضاً مما جاء في رسالة صديقي حتى تعرفوا ما تعرض إليه من «غسيل دماغ»:
«إني أشفق عليكم جميعاً بسبب ما تعيشونه، لا بل إني نادم على سنوات عمري التي ضاعت في وطني، هنا بت أستطيع أن أقرأ مئة صحيفة أو مئتين تصدر في فرنسا ومن مختلف أنحاء العالم، لكن في سورية كنت أقرأ ثلاث صحف فقط، مختلفة في الاسم لكنها واحدة في المضمون، أما الصحف العربية فيوم كان يسمح بدخولها وعشرة لا، وإذا وصلت تلك الصحف العربية، فثمة صفحات ممزقة، وهي غالباً صفحات الرأي.
هنا أستيطع ، وخلال ثوانٍ معدودات، ان أدخل على أي موقع الكتروني مختص بسورية، لكن عندما كنت في دمشق فلا أستطيع أن أدخل إلا على موقعين أو ثلاثة مقربين جداً من الحكومة، وهنا يستطيع ابني الوحيد أن يرتدي ما يشاء عند الذهاب إلى المدرسة، وهو غير مقيد بلباس موحد كما لو أنه في ثكنة عسكرية، وهنا لا يعلق على الجدران في الصفوف الدراسية خمسة أو عشرة صور للرئيس نيكولا ساركوزي بحيث يجده ابني يراقبه كلما حاول الالتفات يميناً أو شمالاً، أيضاً هنا ابني وإذا ما شعر بامتعاض من الحكومة الفرنسية ومن ساركوزي نفسه، فيستطيع التعبير عن رأيه ويستطيع شتمه على مرأى من المدرس والمدير.
وتقول لي إنني تعرضت إلى عملية (غسيل دماغ). إن كلامك هذا يضحكني كثيراً، فأنا اليوم، وعلى عكس ما كنت عليه سابقاً قبل سفري، أستطيع أن أفكر من دون خوف، وأمشي في الشارع من دون خوف، وأنام وبالي مطمئن، لا أخشى من رقيب يجلس خلفي أو محاذاتي في المقهى، ولا أخشى من رنين هاتفي النقال إذا رن صباحاً أو مساء أو في أي وقت، ولا من قرع الباب على شقتي، بينما كنت أعيش حالة من الجنون عندما كنت في الوطن. أنا أذكر أني في أيامي الأخيرة وقبل السفر، كنت أخشى من كل شيء، كنت أشك بالأصدقاء، وأشك بأهلي وأخوتي، وأخاف من البقال جارنا أبو مصطفى، ومن الحلاق عبد السميع، ومن مختار الحي، وكان أكثر ما يثير هلعي عندما يرن هاتفي ويطلب من محادثي أن أحضر إلى (الفرع) لتناول فنجان قهوة.
وتقول (غسيل دماغ؟). هنا تقرأ في الصحف أن الوزير الفلاني أخطأ أو ارتشى أو ارتكب المعاصي ولا أحد يتفاجأ إذا شاهده في المحكمة في اليوم التالي، وهنا تسمع الانتقادات ليلاً ونهاراً موجهة ضد الرئيس ساركوزي، وتشاهد على المحطات الفضائية الأخبار كلها المتعلقة بزوجته، هنا تتناول وسائل الإعلام مثل هذه القضايا ليس على أساس أنها قضايا اجتماعية وإنسانية تهم الفرنسيين كلهم.
وهنا تستطيع أن تتظاهر في أي وقت، وهنا ترى الجميع يتظاهر، جماعة الأحزاب السياسية، وجماعة الخضر وأنصار البيئة، والمثليين، ومن هم ضد الإجهاض أو معه، ومن هم أنصار القضية الفلسطينية، ومن هم أنصار إسرائيل. هنا يا صديقي تستطيع أن تنضم إلى تظاهرة أو مجموعة ولا أحد يلاحقك بالهراوات أو يضعك في السجن أو يتهمك (بوهن نفسية الأمة الفرنسية).
هنا، لا أحد يكتب شعارات سياسية للحزب القائد على جدار بيتك، أو جدران المدرسة، أو على جدران المتحف وحتى على حجارة القلاع التاريخية أو النوادي الليلة، وهنا لا يضعون صوراً على سيارات الأجرة أو سيارات القطاع العام للرئيس ساركوزي أو يرغمون على وضعها في حوانيتهم او مكاتبهم.
هنا، لا يوجد مثل بلدكم عشرات القنوات الفضائية التي تبشّر ليلاً ونهاراً بعذاب القبر وتعتقد أنها تدلك على الصراط المستقيم، ولا توجد محطات لفك الفال، أو جلب الحظ، هنا توجد محطات سياسية واجتماعية واقتصادية وسياحية وتاريخية ومحطات للأطفال والمراهقين والنساء، لكن لم أجد أي واحدة منها تحاول أن تفرض عليّ
سياستها أو شعاراتها الخالدة أو حقائقها التي لا يرقى إليها الشك.
هنا، في المدارس لا يحشون أدمغة الطلاب باللغو ومآثر الأجداد وانتصاراتهم، هنا تستطيع أن تقرأ في كتب التاريخ أن الجيش الفرنسي هزم مرة هنا، وانتصر مرة هناك، ووجهت له صفعة في ذلك البلد البعيد، وتستطيع أن تقرأ مئات الدراسات وتشاهد مئات البرامج عن نابليون بونابرت بعضها يشكك في رجولته وفحولته، هنا الزعيم التاريخي أو البطل القومي هو مجرد إنسان.
وتقول لي إنني أتعرض لغسيل دماغ… أنا حقاً كنت أحتاج إلى مثل هذا الغسيل حتى أنظف من الأكاذيب كلها التي تعرضت إليها منذ كنت طليعياً في طفولتي، وشبيبياً في مراهقتي، ورفيقاً في شبابي».
زين الشامي