جبهة الخلاص الوطني .. بين الإخوان المسلمين وخدام هل وصلت إلى طريق مسدود؟
الطاهر إبراهيم
عندما قبلت جماعة الإخوان المسلمين السورية، ممثلة بشخص مراقبها العام، بأن تنخرط في تحالف مع “عبد الحليم خدام” في “جبهة الخلاص الوطني”في آذار عام 2006 لمعارضة النظام السوري، أثبتت هذه الجماعة للمرة الثانية أنها تفوقت على “كليشيهات” كانت تطبع الأحزاب السورية، كالتقوقع حول أدبيات أيديولوجية أحادية، على سبيل المثال لا الحصر.
كانت المرة الأولى عندما أصدرت جماعة الإخوان المسلمين ميثاق الشرف عام 2001 الذي اعتمدته منهجا لها، بعد مراجعة معمقة لمسيرتها السابقة. ثم أنضجته مع معارضين سوريين آخرين، فيما سمي “ميثاق الشرف الوطني” الذي أعلن من لندن في سبتمبر عام2002. ليتبلور بعد ذلك مرة أخرى في مشروعهم الحضاري الذي أسماه الإخوان “المشروع السياسي لسورية المستقبل” الذي أشهره الإخوان المسلمون في مؤتمر عقدوه في لندن في ديسمبر عام2004. وقد أكد الأخوان في “مشروعهم السياسي لسورية المستقبل” أن المشروع: (يدعو إلى قيام دولة ذات مرجعية تنبثق من هوية الأمة العربية الإسلامية وثوابتها).
قبل أحداث عام 1979 المؤسفة في سورية كان الإخوان المسلمون يُتّهمون بأنهم يقدمون العام على الخاص والإسلامي على السوري. وجاء مشروعهم “السياسي”، ليعتبر المجتمع السوري كحامل لمشروعهم الحضاري. وتم تضييق هامش الاختلاف بين الإخوان وباقي فصائل الشعب السوري من كل الاتجاهات والأعراق. حتى إن مؤتمر لندن الذي انعقد في عام 2002 واعتمد “ميثاق الشرف الوطني”، ضم أكرادا ويساريين ومستقلين، إضافة إلى الإخوان المسلمين.
وعندما تم التوافق مع الأستاذ عبد الحليم خدام على تشكيل “جبهة الخلاص الوطني” المعارضة للنظام السوري قامت دنيا السوريين على الإخوان ولم تقعد، تنديدا بهذا الاتفاق. كان من هؤلاء المنددين، من كان له سابقة في سلطة البعث، ثم أطيح به فخرج ليعمل معارضا للنظام. (كنا لا نرى بأسا بانتقال هؤلاء للمعارضة) وحجتهم أن “خدام” بقي أربعة عقود رمزا فاعلا من رموز النظام السوري. وقد دخلنا في مساجلات إعلامية محتدمة مع هؤلاء المحتجين. وكانت حجتنا: أننا لانستطيع أن نغلق باب العودة في وجه أحدٍ يريد أن يجري مراجعة فكرية عقائدية لماضيه السياسي السابق. تماما كما هو حال من يتوب إلى الله من المعاصي والذنوب. والله يغفر ذنوب من تاب –إلا حقوق العباد- إذا كانت توبته صادقة.
وعندما أعلن الإخوان المسلمون السوريون عن تعليق نشاطهم المعارض للنظام السوري، كانوا
يعرفون أنهم مُقدِمون على تجرع المر والعلقم. فهم لم يتوانوا يوما في تحسين شروط نشاطهم المعارض، وقد فرضت عليهم التضحيات الجليلة. لذلك من غير المقبول عقلا وعرفا أن يعلقوا نشاطهم، هكذا تطوعا! “وما رماهم على المر إلا الأمَرّ منه”. فامتدحت أكثرية الشارع السوري الخطوة تضامنا مع حماس، وإن شذ عنه أقلية من النخب في سورية وخارجها. بعضهم لترف المعارضة، فلا يكادون يتبصرون مآلات هذه الخطوة، وبعضهم يعارضون أية خطوة تخطوها جماعة الإخوان المسلمين. أما من تفاعل مع أحداث غزة، وجدها خطوة في الطريق الصحيح.
ولو أن النخب السورية التي امتدحت المشروع السياسي لسورية المستقبل، أعادت القراءة لهذا
المشروع، لوجدت أن الإخوان اشترطوا فيه أن ألا يتناقض مع مرجعيتهم التي “تنبثق من هوية الأمة العربية الإسلامية وثوابتها”. وعلى رأس هذه الثوابت الوقوف مع الذين استهدفهم الجيش الإسرائيلي كما هو حال حماس وأهل غزة في محرقة غزة الأخيرة.فلم يكن إذن عجبا أن يعلق الإخوان نشاطَهم ضد النظام، وقد ناصر حماس في وقت خذلتها أنظمة عربية أخرى.
كان أشدَّ من انتقد تعليقَ الإخوان المسلمين لنشاطهم المعارض هم شركاؤهم في جبهة الخلاص . وقد نسي هؤلاء أن اشتراك الإخوان المسلمين معهم في جبهة الخلاص، إنما هو اشتراك في أمور يتقاطعون فيها معهم. وتبقى للإخوان المسلمين خصوصيتهم ومرجعيتهم التي يصدرون عنها، وهي الأصل في انتمائهم وتحركهم، ولا مجال للمساومة عليها في سوق السياسة.
فالإخوان عندما قرروا “تعليق” نشاطهم المعارض لم يكن لديهم “وهمٌ” بأن النظام سيستجيب لهم . وما كانوا ينتظرون أن يكافئهم النظام، وقد خبروه على مدى أربعة عقود، حيث كان يرفض أي تسوية مع الإخوان. لا لأن مطالبهم كانت “تعجيزية” كمطالب عجوز “جساس” التي عقر “كليبٌ” ناقتَها فقالت: (إما ناقتي تقوم، أو ملء ثوبي نجوم، أو دم كليب على الساحة يعوم). بل لأن استراتيجية النظام معهم كانت تعتمد على القطع والمفاصلة. وقد بينا ذلك في مقالات سابقة . وإلا فلم تكن مطالبهم أكثر من إلغاء القانون الظالم 49 لعام 1980 الذي يحكم بالإعدام على كل منتمٍ للإخوان المسلمين، وإعادة حقوق المواطنة التي صادرها النظام منهم منذ عام 1979، (وهي كثيرة لا مجال لتعدادها الآن، وقد أشرت إليها في مقالات سابقة).
جبهة العمل الإسلامي، الذراع السياسي للإخوان الأردنيين، أخذت على عاتقها أن تجْسر الهوة العميقة بين إخوان سورية وبين النظام السوري. وقد استوضحت آراءَ الإخوان السوريين الذين بسطوا لها طلباتهم المشار إليها سابقا. زوّار دمشق من أعضاء جبهة العمل الإسلامي – وعلى مدى عشر سنين في عهد الراحل حافظ أسد والعهد الحالي- فاجأهم جدار الرفض الذي قوبلوا به من قبل النظام السوري. وجدت الجبهة نفسها قد وصلت إلى طريق مسدود في وساطتها مع النظام، كان إخوان سورية حذروا من هذه النتيجة المتوقعة عندما بدأ إخوان الأردن وساطتهم.
القيادي في الإخوان المسلمين في مصر الدكتور”عصام العريان” كتب مقالا في تأبين الدكتور “حسن هويدي” يرحمه الله. وفي ثنايا المقال عتب عصام العريان على الإخوان السوريين، أنهم لم يفعلوا ما يكفي للعودة إلى سورية. ولو أنه سألهم لعرف ممارسات النظام، ولما عاتبهم.
ما أردت أن أسترجعه مع القارئ من سيرة الخصومة بين الإخوان المسلمين والنظام السوري، هو أن الإخوان يئسوا من أن يجدوا لدى النظام الحاكم في دمشق، -على الأقل في تركيبته في عهد الراحل “حافظ أسد” وفي تركيبة العهد الحالي- قواسم مشتركة. والأستاذ “عبد الحليم خدام” أكثر من يعرف ذلك معرفة كاملة ويقينية، حيث كان شاهداً في كواليس هذه العلاقة.
ورغم كل ذلك، فإن أعضاءً في جبهة الخلاص يتهمون الإخوان المسلمين بأنهم فعلوا “أمرا إدا” عندما “علقوا” نشاطهم المعارض للنظام السوري. وأنهم فعلوا ما يتناقض مع جبهة الخلاص.
بهذه المناسبة يتوارد على الذهن كيف أن الإخوان المسلمين غضوا الطرف عن سنوات طويلة قضاها بعض أعضاءٍ بجبهة الخلاص في خدمة النظام السوري خدمة فعلية لا شكلية. وعندما رجع هؤلاء رحب بهم الإخوان المسلمون، بل تحملوا النقد من القريب والبعيد لاتفاقهم مع من كان مع النظام. فلماذا إذن يستكثر هؤلاء على الإخوان المسلمين تعليق نشاطهم المعارض مع النظام لبضعة أشهر؟
أخيرا، أجدني هنا مضطرا أن أعيد السؤال المفصلي الذي سألته في مقال سابق: “ماذا لو أن الإخوان المسلمين أعادوا حساباتهم، فأوقفوا مشاركتهم! فهل يبقى هناك جبهة خلاص”؟