صفحات الحوار

اسماعيل كاداريه: قد يكون الأدب حرا فـي الأسر أو أسيرا فـي الحرية

null


حاورته: ديبورا تريسمان

٭ الموقف الذي تصفه في قصتك «اتحاد الكتاب الألبان على وجه امرأة» مأخوذ من أحداث حقيقة في ألبانيا الستينيات، والسطر الأخير من القصة يوحي بأنها سيرية تماما، أهي كذلك؟

ـ إسماعيل كاداريه: نعم هي كذلك. القصة مأخوذة عن أحداث كانت معروفة بين الكتاب بل وتجاوزتهم إلى دوائر أوسع في تيرانا. كانت الحياة ثمة في غاية السخف، كما كانت في جميع عواصم دول الكتلة الشيوعية. ومن هنا كان الجميع يظنون أن ما يحدث داخل أروقة اتحاد الكتاب مثير تماما.

٭ هل كان هناك مارجريت حقيقية؟

ـ نعم. كانت موجودة. ولكن ليست الموصوفة في القصة. دعيني أوضح. في الدول الشيوعية، كانت النساء ذوات المواقف الليبرالية تجاه الحياة عموما والحب خصوصا يعانين من معاملتهن معاملة الفاجرات. ومع ذلك فقد كان بينهن بعض من أكثر الناس إثارة للاهتمام بشكل عام. لطشة «التمرد» التي تجدينها في آرائهن، لو جاز لي استخدام هذه المفردة في هذه السياق، كانت تجعلهن مثيرات تماما.

٭ هل «تم تدويرك» خارج تيرانا وأنت كاتب شاب؟ كيف كانت الحياة في تلك السنوات؟

ـ نعم لقد «تم تدويري» في الحقيقة بالطريقة التي تجدينها في القصة. كان ذلك بين عامي 1967 و1968 حين كانت ألبانيا تحاكي ثورة الصين الثقافية. وكان علي أن أعيش في بيرات وهي مدينة قديمة على بعد مائة كيلومتر من تيرانا. وكانت الحياة فيها شديدة الصعوبة في الحقيقة. وعلى الجانب الآخر، كانت الحياة في ظل الشيوعية مليئة بالكثير من المخاطر والمصاعب مما يجعل من الصعب القول بأن النفي إلى مدينة إقليمية كان مأساة.

٭ تتعامل القصة مع قمع إنفر هوكسا لحرية الأدب بشيء من الطرافة. لقد اصطدت عجرفة الكاتب الشاب بطريقة أراها عالمية، تنطبق على عباقرة الأدب الصاعدين في نيويورك الآن كما كانت تنطبق في ألبانيا آنذاك. ولكنني أظن أن الأمر كان أقل طرافة بالنسبة لك في وقته. هل تشعر أن أعمالك كانت تتعرض في تلك السنوات سواء لرقابة من الخارج أو لكبت من الذات؟

ـ كانت الحياة في ظل الشيوعية إجمالا حياة مأساوية، ولكنها مأساة تتخللها فواصل كوميدية لو لم نقل جروتسكية. يمكن وصف الحياة إجمالا بأنها كانت مأساة كوميدية، تراجيكوميدي كما يقول الاصطلاح.

حين أنظر إلى أعمال كتبها زملاء لي في تلك الفترة، أجد فيها جميعا لمسة من الطرافة، أو السخرية أو التهكم، لمسة تؤكد أن روح الكتاب لم تتحطم تماما في المناخ القاسي الذي كنا نعيشه. تجدين تقريبا كل كتاب دول الكتلة الشيوعية السابقة ـ كميلان كونديرا مثلا ـ يؤكدون أن الضحك والتهكم كانا طريقتين لقول »لا» للعالم.

طبعا، ما حدث معنا لم يكن مزحة. بل على العكس، لا ينبغي أن تتخيلي أن الكتاب ومجتمعاتهم قد تحولوا إلى جثث هامدة مجردة من القدرة على النقد. اسمحي لي ان أوضح ما أعنيه. في عام 1967 ـ الذي تجري فيه أحداث القصة ـ نشرت ثلاثة أعمال نثرية (إلى جانب شعري): روايتا «جنرال الجيش الميت» و«المسخ» وقصة قصيرة بعنوان «أيام المقهى». العملان الأخيران تعرضا للمنع بدعوى «الانحلال»، ولكنهما كانتا معروفتين على نطاق واسع، لأن المنع قد تم بعد صدورهما. نتيجة لمنعهما والتشهير بهما أصبحت أواجه الكثير من المتاعب، ونتيجة لنفس السبب أصبح لي ثقل كبير عند القراء. وكان ذلك أحد أبرز تناقضات ذلك الزمان. من تكن له مشكلات مع الدولة، تحاصره الشكوك، لكن ذلك يضفي عليه مكانة مرموقة في دوائر محددة. وأظن أن ذلك كان سبب عجرفة الكاتب الشاب.

كانت كتاباتنا تتعرض للرقابة، ولكن الأمر الأسوأ من تلك الرقابة كانت الرقابة الذاتية. كان ذلك هو الموت الفعلي للفن. ولحسن الحظ أنني نجوت من التقاط تلك العدوى.

٭ على الرغم من أنك عشت في فرنسا على مدى الخمسة عشر عاما الماضية، إلا أن كتاباتك في الغالب عن ألبانيا. هل البلد الذي شببت فيه عن الطوق يمدك بمادة أدبية أقوى، أم الأمر لا يعدو مجرد أن هذا البلد مطبوع فيك بحيث يصعب عليك أن تكتب عن مكان غيره؟

ـ ليس غريبا في مهنة الكتابة أن يبقى الكاتب مقيدا إلى البلد الذي عاش فيه الشطر الأكبر من حياته، وذلك برغم أنه ليس غريبا أيضا أن ينفصل الكاتب عنه. أنا في موضع ما يقع بين الموقعين.

الحقيقة أن قسما غير قليل من كتابتي لا يحدث في ألبانيا، بل ولا يحكي حكايات عنها. فـ «الهرم» على سبيل المثال، التي صدرت في الولايات المتحدة، تدور في مصر القديمة برغم أنها تتعامل في جوهرها مع فكرة مطلقة هي الدكتاتورية، والتي تندرج في إطارها التنويعة الألبانية. «قصر الأحلام» تدور في القسطنطينية ولي قصص وروايات أخرى تدور في موسكو، وشمال اليونان وفي طروادة خيالية كونتها بخيالي.

أنا لا أبذل أي جهد استثنائي لأبقى بداخل ألبانيا، ولا أعاني أية آلام وأنا أتجول بكتابتي خارجها.

٭ هل صعبت عليك مغادرة ألبانيا حين غادرتها، بينما كان النظام الشيوعي يتداعى؟ هل أنت نادم على عدم وجودك في ألبانيا في سنوات التحول الأولى، أم كانت تلك السنوات أصعب من سابقتها؟ هل تقضي الآن وقتا طويلا في ألبانيا؟

ـ على الرغم من أن فرصا كثيرة قد سنحت لي للهجرة من ألبانيا، إلا أنني ظللت فيها في أحلك وأخطر فتراتها. ولم أكن أتخيل قط أن تسقط الشيوعية في حياتي.

حين قررت الخروج، لم يكن ذلك لأنني كنت في خطر. كان الطاغية قد مات. ولم يعد النظام يعاقب الناس. لقد أوضحت في »الربيع الألباني» أسباب خروجي وظروفه. كنت أتبادل مع رئيس البلاد الشيوعي رسائل مريرة. ومن تلك المراسلات، عرفت أنه برغم المؤشرات الليبرالية التي كان النظام يصدرها، إلا أن السلطات لا تنوي حقيقة تخفيف قبضتها. كانت ألبانيا على شفير التحول إلى كوريا الشمالية أو كوبا أخرى. لم يكن بوسعي أن أخلع قناع النفاق عن وجه الرئيس أو نظامه دونما وسيلة إعلامية ـ محطة إذاعية أو صحيفة. لم يكن هناك سبيل إلى امتلاك منبر من ذلك النوع داخل ألبانيا. فبعثت رسالة إلى ناشري الفرنسي طالبا منه أن يرتب لي جولة لترويج كتبي في باريس تبريرا للقيام برحلة إلى هناك. وقد احتجت إلى خمسة أشهر للحصول على تأشيرة خروج. وقد وفرت لي الخدمة الألبانية في إذاعة «صوت أمريكا» الميكروفون الذي كنت أحتاجه، ومن خلاله حققت هدفي. كان للحديث الذى ألقيته من خلال الإذاعة (والذي أعيد طبعه في «الربيع الألباني») أثر الصاعقة في ألبانيا. انهار النظام بعد ثمانية عشر شهرا، وعدت إلى بلدي كما وعدت في خطابي، والآن أقضي في ألبانيا أكثر من نصف وقتي.

٭ كيف كانت الحياة في الغرب بعد قضاء خمسين عاما في ألبانيا الاشتراكية؟

ـ لم يكن التكيف مع الحياة في الغرب أمرا صعبا. يتمثل سبب صعوبة السنوات الأولى، والتي كانت أحيانا دراماتيكية، وأحيانا سعيدة، في الأخبار التي كانت ترد من ألبانيا. ذلك ما تحكم في إيقاع حياتي في الغرب.

٭ كثير من أعمالك سياسية إما بشكل مباشر أو بشكل رمزي. هل تشعر بالتزام إزاء التعريف بالعالم السياسي من خلال كتاباتك؟

ـ لا أظن أن في أعمالي من السياسة ما يزيد عما في الدراما الإغريقية. أنا لا أخاف من تناولها، ولا من تنحيتها.

لم يحدث أن أجبرني أحد على كتابة شيء سياسي، حتى أثناء سنوات الدكتاتورية القاسية. الالتزام الوحيد، أو الـ »ضريبة» الوحيدة التي كانت مفروضة علي، كانت تنطبق على الجميع. فلكي يكون لشخص الحق في الكتابة عن موضوعات مطلقة أو أساطير، فقد كان لزاما عليه أيضا أن يكتب عملا أو اثنين عن الحياة المعاصرة. هل يبدو ذلك جنونا؟ على أية حال، هكذا جرى الأمر.

ومن لا يدفع الضريبة، يتحتم عليه أن يواجه السؤال في الصحافة والاجتماعات وحيثما يذهب: »أيها الرفيق س لماذا لا تكتب عن حياتنا الاشتراكية؟ ألانك لا تحب هذا النوع من الحياة؟ أم أن هنالك سببا أعمق؟ و»السبب الأعمق» كان يفهم على أنه معارضة سياسية، مما يؤدي بالمرء إما إلى السجن أو إلى كتيبة الإعدام.

٭ ما رؤيتك للأدب الأباني اليوم؟

ـ الأدب الألباني يتطور تطورا طبيعيا، شأنه شأن الأدب في أي بلد حر. ولو أن وهم حدوث معجزة بعد انهيار الشيوعية (وهو وهم أحاق بكل بلاد ما بعد الشيوعية) يبقى مجرد وهم.

للأدب قواعد تطوره الداخلية. فكما يمكن أن يكون حرا في الأسر، يمكن أيضا أن يكون أسيرا في الحرية. والكتاب في العالم الحر يعرفون ذلك.

٭ هناك احتفاء كبير بكتاباتك في فرنسا التي يتم فيها الآن طبع أعمالك الكاملة. هل واجهت مصاعب أكبر في الوصول إلى قراء اللغة الإنجليزية؟

ـ صدرت روايتي الأولى «جنرال الجيش الميت» بالفرنسية عام 1970، وبالإنجليزية عام 1971. أما روايتي الثانية »(Stone in Chronicle) فقد نالت مقالة احتفاء كريمة من ]الكاتب الأمريكي[ جون آبدايك نشرها في «ذي نيويوركر»، ومنذ ذلك الحين صدر لي بالإنجليزية أكثر من عشرة كتب. صحيح أن لي دائرة قراءة أكبر في اللغة الفرنسية، لكن جميع الكتاب الأوربيين واجهوا صعوبات في تحقيق وجود داخل العالم والناطق بالإنجليزية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ


ترجمة ردود كاداريه من لغته (الألبانية) إلى الإنجليزية بقلم: إليدور ميهيل
محررة القصة في مجلة ذي نيويوركر الأمريكية

ترجمة: أحمد شافعي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى