جوليا كريستيفا :السياسي لا يعرف كيف يفسح مكانا للإبداع
حوار: آنيت ليفي – فيار
ترجمة: أحمد عثمان
جوليا كريستيفا.. باحثة وناقدة ومحللة نفسانية، ولدت في بلغاريا، مؤلفة ثلاثين كتابا تقريبا (من بينها: العبقرية النسائية، 1999 – ،2002 حول – بالتعاقب – هنا آرندت، وميلاني كلاين وكوليت). جوليا كريستيفا، التي تحيا وتدرس في فرنسا، مثقفة معروفة عالميا، دكتوراه شرفية من جامعات هارفارد، نيو سكول فور سوشيال ريزرش، تورنتو وصوفيا.
كرستيفا معروفة كثيراً بمساهمتها من أجل الاختلاف الجنسي. فقد طوّرت في كتاباتها سلاسل قوية، عن طريق المزج بين الماركسية والفنيومينولوجيا والتحليل النفسي ونظرية الأدب. من بين مؤلفاتها البارزة: ثورة في اللغة الشعرية.
حازت في ديسمبر 2006 جائزة هنا آرندت عن الفكر السياسي، وفي هذا الحوار، الذي أجري معها مؤخرا بجريدة (ليبراسيون) الفرنسية، تشرح لنا أن فلسفة تفاهة الشر والتوتاليتارية والتوتاليتاريون موجودة عن ذي قبل.
فيلسوفة، وكاتبة، ومحللة نفسانية، حزت مؤخرا على جائزة هنا آرندت عن الفكر السياسي.
أشعر بأن هنا آرندت تصاحبني منذ فترة طويلة، منذ اهتممت بالفلسفة والسياسة والمرأة. تلك حكاية طويلة. غير أنني رأيتها كرفيقة حياة بدون أن أفكر في الكتابة عنها. كانت تحب أن تدون قصيدة شيللر (الشاعر الألماني) لأنها كانت تقول أنها قادمة من هناك، مثلي تماما، بجذوري البلقانية، وهذا الخليط من اليهودية والمسيحية. أعرف اجتيازاتها للحدود، للبلاد، للأقسام، والهويات. هي ذي الكوزموبوليتانية. لم تعرف هنا آرندت ضمن أب طائفة، ولكنها لا تنكر أي طائفة. بدون إهمال أسس جذورها وتقاليدها الثقافية، ولكن بدون أن ترتبط بها كمطلقات، تستجوبها هنا بدون أن تلتحق بها. هذا يتبدى لي راهنيا في العالم الذي نعيشه: لا يوجد سوى غرباء وبالنتيجة لا شيء غريب.
المجتمعات الإنسانية
ابتكرت هنا آرندت مفهوم «التوتاليتارية» ووصفت «إمبراطورية الشر»، هل تجدين لفكرها صدى مع صعود التطرف والتعصب الدينيين؟
دوما اعتبرنا أن مرسلة هنا آرندت تتعلق بلحظة معينة من تاريخ أوروبا حيث التوجهين التوتاليتاريين، النازية والستالينية بدءا في تدمير إمكانية تفكير الفكر فارضا عقائد معادية للسامية، توتاليتارية، ستالينية، شيوعية، نازية وشعبوية. وبالتالي هذا النقض للفكر تبلور في احتقان الحياة. قالت هنا آرندت «بسطحية الحياة الإنسانية». بالنسبة لها كان الشر جذريا. فردان مثل هتلر وستالين وإيديولوجيتهما قررا أن الحياة «غير مجدية» للبعض، وبذا يجب أن يموتوا. في هذا السياق، من الممكن تصفيتهم ولا أحد يعترض. قالت هذا في اللحظة التي اعتقد الناس فيها بوجود حرب بين العقيديتين النازية والستالينية. ومع ذلك، أوضحت هنا آرندت كيف تتشابه هاتان العقيدتان خاصة على مستوى تدمير الفكر والحياة الإنسانية. هذا مهم جدا بالنسبة لتاريخ الثقافة، وأيضا لأن الظاهرة لا تتحدد بسنوات 1930 – 1940 فقط، حتى وان كانت هناك انعكاسات حول هذه المرحلة، يبقى من الواجب أخذ العبر ورؤية الأبعاد. فكر هنا آرندت إذا راهني، التاريخ لا يتكرر ولكن هناك نزعات في المجتمعات الإنسانية، لدى الكائن البشري، في تكتل حقد الذات والآخر. هذه النزعة تأخذ أشكال تحديد الفكر والحياة. في هذا السياق المعاصر، أيا كانت الأسباب اقتصادية، تاريخية، سياسية، أيا كان الظلم، نستنتج أن الأديان تنهض. وهي ذي الحالة التي انبثقت من الإسلام، والتي نطلق عليها الأصولية والتي تتأسس على الضيق الإنساني. وهنا آرندت رأت هذا، وناضلت ضد التوتاليتارية باسم الحياة، والقدرة «التي لا تقاوم» للبقاء. بالنسبة لهنا آرندت، «تحيا» أي تتجذر في «بهجة» الفكر والحكم.
هل ترى مثل هنا آرندت بضرورة إعطاء مكان «للرأي»؟
نعم، يتعلق الأمر بسياسة رد الاعتبار للفرد. أعتقد، اليوم، أننا شوهنا الرأي. غير أنه في الوقت نفسه، قالت هنا آرندت أن الرأي هو المقاوم الوحيد للعنف. كانت الديمقراطية الإغريقية وساحة روما تسكناها، الساحة العامة التي من الممكن أن يظهر كل فرد فيها. »الظهور« يبني الفكر والحكم في أن معا. وجدت أن هذا عبقري للغاية لأنها فكرت في أن الشجاعة الكبرى تنبنى على أن يتكلم كل فرد عن ما عاشه بصورة استثنائية عاملا على تحريض الآخرين، في السياسة، والاتجاه إلى اجتياز الذات. هذا «الظهور في السياسة» نوعي للغاية لدى آرندت. خلقت من هذه الفكرة، فكرة الظهور، رهانا سياسيا، وليس رهانا دينيا أو شعريا. ولكن في الوقت نفسه لديها هموم عميقة للغاية لكي تقول إن الديني والشعري لم يتلاشيا، وأننا نستطيع أن نجد لهما وجودا في السياسة. بالتأكيد، هذا من قبيل الحلم وأنتقدها البعض بالمثالية. ولكنها قالت بدقة: إن – في هذا النداء للفردية ولاجتياز الذات، هناك عناصر لمقاومة البربرية. بداية لأنه نداء إلى شخص، إلى فرد، للخروج من الجماعات السياسية، الاقتصادية، العرقية أو غيرها التي تتحد جميعها وتنتهي بتأكيد رأيها في جماعات تأثير وسلطة. وبالتالي، كما ترى، حينما يفكر هذا الفرد في قول ما يجتازه، توجد إبداعية من قلب العنف: «أنا ضد، أنا فرد، ليس هناك فرد سواي.. ولكنني أحكي رغباتي وأتقاسمها مع الآخرين». الساحة العامة أصبحت نوعا من الخليط بين الفردية العظمى والتقسيم الكبير. وهذا اختزلني أيضا لأن في العالم المعاصر الذي لم تعشه آرندت، وهي توفيت في ،1975 نرى أناسا غير مترهلين أو ينتظرون الفرصة للخروج من ترهلهم لكي يقولوا ويسألوا. هذا من الممكن أن يكون غير دال، ولكنه احترام، هم نداء إبداعات معينة. يجب أن يفتح السياسيون آذانهم، وبالتأكيد، ويؤدون أدوارهم. غير أن الأمر يتعلق بحد فاصل يقوم حاليا بين المصلحة العامة والظهور الفردي. إذا كنت في مكان آرندت اليوم، سأقول أن وسائل الاتصال تمنح اليوم رؤية عريضة عن الساحة الإغريقية، ولكن سياسيينا لا يعرفون كيف يفسحون مكانا للإبداعية.
أيقونة نسوية
ترفضين، مثلها، النسوية؟
منذ سنوات، أصبحت، وعلى وجه الخصوص في الولايات المتحدة، أيقونة النسوية وأنا لا أجد نفسي في كل هذا. بالنسبة لي، النسوية ساعدت كثيرا في تحرير المرأة، ولكنها اندرجت في كافة حركات التحرير التي أصبحت فيما بعد توتاليتارية. لقد اقترحن عليّ أن أكتب كتابا أشرح فيه النسوية. قررت عندئذ أن أكتب كتابا عن المغامرات الفردية للنساء لأنني أجد أن هذه الثقافة الأوروبية ترتكن إلى فكرة أنه لا حرية بدون معرفة الفرد، بدون استقبال المدينة. فضلا عن ذلك، أنها لازمة من لازمات آرندت. تقول إن مركز السياسة يتمثل في ظهور الفرد في تعددية الروابط. ترى المصير الفردي للرجل أو المرأة، بدون تراتبية، في قلب ديمقراطية الرأي. اخترت كتابا عن العبقرية النسوية، نوعا من الاستدعاء لأن العباقرة، في العادة، ذكور. وحينما تتوفر العبقريات النسائية، نجد أنهن خارج التصنيف. فكرت أنه من الضروري أن أجد امرأة تمثل جوهر الصراع التاريخي للحياة السياسية ومغامرة الفكر خلال القرن العشرين : فرضت هنا آرندت نفسها عليّ. وفي هذا المنظور كرست لها الجزء الأول من «العبقرية النسوية: هنا آرندت أو الفعل كميلاد وكغرابة». كان القرن العشرون قرن صراع بين الحياة والموت اجتازته بنتاجتها.
أشكال التوتاليتارية
لماذا اخترت منح جائزة هنا آرندت إلى جمعية تساعد النساء الأفغانيات اللائي أصبن بضرر بالحرق؟
لما كنت أعد نصي لاستلام الجائزة، رأيت بالمصادفة فيلما في الجامعة التي أدرس فيها، وهي نيو سكول فور سوشيال ريزرش، في نيويورك، التي تأسست في العشرينيات من قبل أناس من أقصى اليسار. هذه الجامعة استقبلت ليفي – ستروس خلال الحرب ثم هنا آرندت لما غادرت أوروبا، بعد هروبها من معسكر جورس حيث كانت معتقلة في فرنسا. تساءلت كيف يمكن عصرنة فكر هنا آرندت، وحينما رأيت هذا الفيلم الفرنسي الوثائقي الذي يحكي عن نساء أفغانيات يعانين من آثار الحرق. نساء يرتدين البرقع، لا نراهن، وهن ضحايا مختلف الأشكال من العنف وبالأخص الزوجي وليس لديهن الحق في التعبير عن شكواهن على الملأ. لا فكر سياسي ينجدهن والوسيلة الوحيدة للاحتجاج هي سكب البنزين وإشعال ثقاب، حتى يحترقن. أظهر الفيلم بوضوح عائلات الأزواج وهن ترى المشهد بدون أن يهتز لها جفن. أحيانا يخرج البعض ويحملهن إلى المشفى، إذا توفرت واحدة، وهناك يحاولوا معالجتها بالمسكنات والمضادات الحيوية. وبالعودة إلى فرنسا، وجدت عبر أصدقاء جمعية في مارسيليا «هوماني تيرا»، بنت بمساعدة الأمريكيين مشفى في حيرات، بأفغانستان، يعالج الحرائق الكبرى ومن ثم يعتني بمن يبقين أحياء وأصبحن معوقات. من الضروري الاستمرار في مساعدتهن، تعليمهن مهنة، مسح سوسيو – تربوي لهن ولوسطهن، وعمل سياسي للإدماج. قلت في نفسي أنه من اللازم منح هذه الجائزة لهؤلاء النسوة لأن هذا يماثل، في فكري، مقابلة بين هم هنا آرندت في احترام الفرد في السياسة والاحتفال بمائة وخمسين عاما على مولد فرويد البعيد للغاية عن آرندت. كانت تكره التحليل النفساني. أعتقد أن لها أسبابا شخصية لاحتقاره وبالأخص لا تعرفها. بالنسبة لها، أنه نوع من الخطاب الذي يضع الناس في إطار من الروسم.. بدون أن يقيس البعد الشعري. وهذا يتناسب مع فكرها. هذه الحركة السياسية تهدف إلى أن تعيين الفردانيات الذكورية والنسوية خاصة، بالبرقع، «بحق الظهور».
عمان – فبراير 2008