‘داخل مصر.. ارض الفراعنة على حافة الثورة’ لجون برادلي: عن ثلاثية الفساد والقمع والفقر
د.عماد عبد الرازق
‘ في مقابل كل خطوة سارها عبد الناصر الى اليسار، سار السادات خطوة الى اليمين. اما مبارك فهو يقول: لا تتحرك’ .
هذه النكتة التي تتداولها الالسن في الشارع المصري، يوردها الصحافي البريطاني جون برادلي، في كتابه ‘داخل مصر..ارض الفراعنة على حافة الثورة INSIDE EGYPT: THE LAND OF THE PHAROHS ON THE BRINK OF A REVOLUTION’، الذي صدرت طبعته الاولى في ايار (مايو) 2008 عن دار نشر ‘بالغريف ماكميلان’ في الولايات المتحدة.النكتة تلخص في رأيه محنة مصر الحالية، حين يرصد تفشي حالة من السلبية في اوساط المصريين مقرونة بتوقعات ان يمدهم ‘الاخرون’ باحتياجاتهم، ويردها الى عهد عبد الناصر، حيث تم الحط من قيمة المنافسة كمبدأ يستحث الناس على التقدم والابداع والابتكار.في المقابل فان المنافسة التي شجعها السادات بعد تبنيه سياسة الانفتاح، لم تكن تعني الخلق والابتكار، بل الحصول على مزايا من الدولة. والنتيجة النهائية- كما يقول المؤلف – هي ان عهد مبارك يجمع بين اسوأ ما في العالمين او التجربتين، الناصرية والساداتية.
هذه المقارنة التي ترد في الفصل الثامن والاخير من الكتاب بعنوان ‘مصر بعد مبارك’، تشير من ناحية اخرى الى منهج الكتاب الذي ينطلق من تحليل اسباب فشل ثورة 23 يوليو من وجهة نظره في الفصل الاول بعنوان ‘ثورة فاشلة’، ليقفز بعد ذلك سريعا على عهد السادات، الا انه يعود مكررا الى عهد عبد الناصر في مواضع عدة من فصول الكتاب ليرصد منشأ العديد من العلل المصرية الحالية.وهذا في رأينا خلل اساسي في الكتاب، ليس لنقده عصر عبد الناصر وانما لتجاهله تركة السادات، والتي ترسبت وترسخت العديد من اثقالها وعللها في عهد مبارك، خاصة وان السادات كان اول من تحدث عن فكرة ‘التركة’ هذه، حين قال في احدى خطبه ‘ان عبد الناصر ترك له تركة مثقلة’.وهذا ما لم يقله مبارك عن السادات، لاسباب لا تحتاج لشرح او اسهاب، بل انه عمل طوال ربع قرن على تعميق هذا الارث الساداتي وترسيخه على كل صعيد، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.ولنفس هذه الاسباب فان النكتة المصرية اعلاه على طرافتها لا تعبر تماما عن واقع الحال، فليس صحيحا بالمرة ان شعار ‘لا تتحرك’ يعبر عن عهد مبارك، بل العكس تماما. فإلى جانب ترسيخ ميراث السادات وتعميقه، شهد الربع قرن الاخير، تدهورا على كافة صعد الحياة المصرية تقريبا، وهو ـ وللمفارقة – ما يفصله الكتاب ويسهب في شرحه وتحليله بل والتنبؤ باحتمالات المستقبل الحبلى بالتوقعات، وهو بالتأكيد انجازه الاساسي، في وقت تغيب فيه او تندر الكتب التي تتناول الحالة المصرية، ربما باستثناء كتاب ‘ماذا حدث للمصريين؟’ للدكتور جلال امين، استاذ الاقتصاد في الجامعة الامريكية بالقاهرة، والذي يذكره برادلي على نحو عابر.
عصر الضياع وفقدان الكرامة
في الفصل السابع بعنوان ‘الكرامة الضائعة ‘Lost Dignity يسلط المؤلف الضوء على مدينة الاقصر الغنية بالاثار الفرعونية في صعيد مصر، كاشفا جانبا خفيا من الحياة السرية للمدينة وعالم الزيجات الانتهازية غير المتكافئة بين اجنبيات عجائز وشبان مصريين في مقتبل العمر يسعون الى هذه الزيجات بوصفها قارب النجاة الوحيد المتاح امامهم لانتشالهم من الفقر المدقع والبطالة المتفشية.وبعد استعراض كتالوغ من العلاقات المشينة والفضائحية والتي تنتهي بعضها نهايات مأساوية، يخلص الكاتب الى نتيجة مفادها ‘انه اذا كانت عطية ناصر الى المصريين انه منحهم احساسا بالكبرياء والفخر، فان لعنة مبارك تتمثل في انه خلق مناخا ثقافيا باتت الصفات الشخصية الوحيدة الممكنة فيه هي الانتهازية المشينة وافتقاد الكرامة.في بلد تقوم القطط السمان بنهبه على نحو محموم، وباتت فيه فضائح الوزراء الذين ينهبون ملايين الدولارات ويهربونها خارج البلاد الى البنوك الاجنبية روتينا يوميا، تصبح السرقة والخداع هي الطريق الوحيدة للمضي للامام في نظر الكثيرين’.( 195 (.
ويستشهد المؤلف في بداية هذا الفصل بالمخرج الراحل يوسف شاهين الذي كان يكن احتقارا شديدا للنظام العسكري المصري، وينقل عنه قوله في حديث ادلى به لصحيفة الكترونية في المانيا اسمها ‘قنطرة’: ‘نحن نعيش في ظل ديكتاتورية مطلقة’.وعبر شاهين في الحوار ذاته عن فقدانه لأي امل ان تصبح مصر بلدا حرا ومتحررا في المستقبل، واصفا الاجيال الجديدة من الشباب بأنهم حشد من الارواح الضائعة بلا هدف لا هم لهم سوى مغادرة الوطن. ويقول شاهين’ انا اراهم كل يوم مصطفين امام ابواب السفارات الالمانية والفرنسية، الجميع يريدون الهجرة.كنت دائما اقول للشباب لا تهاجروا..اذا كنتم قد تعلمتم فنحن نريدكم هنا.كنت ‘دقة قديمة’ في حينها لا افكر الا في جمال وطني.اليوم اقول لهم ارحلوا، ليس هناك من فرصة امامكم هنا.البلد غارق في الفساد.وببقائكم هنا ستصبحون فاسدين’.
هكذا اصبحت الوطنية قرينا لتفكير ‘عفا عليه الزمن’، وهو اكثر ما يثير الحزن في كلام شاهين، على حد قول المؤلف.والفساد، ذلك الغول المعدي، هو بالضبط ما يصيب العديد من الشباب المصريين الذين تغلق امامهم ابواب الهجرة او الهروب، وهؤلاء هم المحظوظون، اذا جاز التعبير، فالاقل حظا هم هؤلاء العشرات الذين تنتهي بهم محاولاتهم للهروب من الوطن في قاع البحار، كما تشهد بذلك مآسي قوارب المهاجرين الغارقة. في هذا السياق يستعير المؤلف عبارة شكسبير من مسرحية ‘الملك لير’: بأن الأسوأ ليس حقيقة الأسوأ..طالما انه لا يزال بوسعنا القول هذا هو الأسوأ.( 198).
هل مصر دولة فاشلة؟
يخصص المؤلف الفصل السادس للفساد المتفشي في كل نواحي الحياة في مصر تقريبا، وكيف انه يتراوح من سائق التاكسي الذي يتحايل للحصول على بضع جنيهات زائدة عن الاجرة، وليس انتهاء بتزوير الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم الانتخابات عام 2005، والتي فاز فيها الرئيس مبارك الذي يحكم البلاد منذ عام 1981 بدورة رابعة، عن طريق اعادة ترشيح نفسه عبر البرلمان ثم اقرار هذا الترشيح عبر استفتاء دون أي معارضة تذكر.ليس هذا حكم المؤلف، بل تقريرا صادرا عن ‘صندوق السلام FUND FOR PEACE’، وهي منظمة حقوقية مستقلة لابحاث التعليم مقرها واشنطن.نفس هذا الصندوق وضع مصر في المرتبة السادسة والثلاثين من بين 177 دولة اخرى اعتبرت في عداد ‘الدول الفاشلة’.وهو مصطلح يمكن ان يعني اما ان الدولة فقدت السيطرة المادية على اراضي البلد، كما في الصومال وافغانستان، او انها فقدت سلطتها في تنفيذ القرارات وتقديم الخدمات الاساسية لمواطنيها، وان تعمل ككيان متكامل ومتجانس والممثل الوحيد للبلد على الصعيد الدولي.ويضع الصندوق 12 معيارا لقياس مدى فشل الدولة، وقد حصلت مصر على 9 من 10 على معيار تجريم الدولة وافتقارها للشرعية وهو ما يمكن ان يعني ‘تغلغل الفساد على نحو وبائي، او تكسب النخب الحاكمة ومقاومتها للشفافية، والمساءلة والتمثيل السياسي للناس ومصالحهم، وتفشي فقدان الناس في مؤسسات الدولة على نطاق واسع، ونمو وانتشار عصابات اجرامية على صلة بالنخب الحاكمة.كما حصلت مصر على 8.5 من 10 على مقياس تعليق العمل بالقوانين او تطبيقها تعسفيا، وتفشي انتهاكات حقوق الانسان، وتفتت النخب وتشرذمها الى مجموعات نفعية تحكمها ولاءات ومصالح انانية مشتركة، واستخدام الشعارات القومية البلاغية الجوفاء من قبل النخب الحاكمة.وينقل المؤلف عن الصحافي مجدي الجلار، رئيس تحرير ‘المصري اليوم’ قوله في كلمة القاها ضمن ملتقى بحثي بعنوان ‘نحو مزيد من الشفافية في الاسواق المحلية’، ان هناك حالة فساد تسجل كل دقيقتين في مصر، وان نسبة لا تتعدى واحد من عشرة من هذه الانتهاكات يتم ضبطها.
وفي تقرير آخر اعدته جماعة ‘كفاية’ المعارضة في نحو 220 صفحة، يشير المؤلف الى مناحي الفساد العديدة، بدءا من توزيع المبيدات المسرطنة بواسطة وزارة الزراعة في عهد يوسف والي (1981- 2003)، وقائمة باسماء رجال اعمال وبرلمانيين متورطين في قروض بنكية غير قانونية تقدر ببلايين الدولارات، وعمليات تزوير ارقام البطالة والتضخم طوال ربع قرن من سوء ادارة الاقتصاد، فضلا عن تفشي الفساد، والكوارث الطبية في مستشفيات الحكومة نتيجة اهمال الاطباء الذين يتقاضون مرتبات هزيلة.
فضلا عن انتشار التعذيب وظاهرة اطفال الشوارع، وعددهم في القاهرة وحدها يتجاوز مليون طفل. ويصف التقرير الفساد بانه مرض عضال اصاب كل اعضاء المجتمع واجهزته الحيوية، بدءا من الضابط الذي يتقاضى 5 جنيهات ليتغاضى عن مخالفة مرور، وصولا الى اعلى مراتب الدولة وحتى الرئيس نفسه الذي يصفه التقرير بالمفسد الاكبر.
ويختتم المؤلف هذا الفصل الحافل بشهادات وتقارير لمنظمات دولية ومصرية حول حجم الفساد في مصر، بشهادة للكاتب الروائي صنع الله ابراهيم قدمها امام وزير الثقافة ونخبة من المثقفين والادباء بمناسبة منحه جائزة الرواية من ‘نادي القصة’ 2003، والتي قال فيها ‘ليس لدينا مسرح ولا سينما ولا بحث علمي ولا تعليم، لدينا مهرجانات ومؤتمرات وحفنة من الاكاذيب.ليس لدينا صناعة ولا زراعة ولا صحة ولا تعليم ولا عدالة، الفساد والنهب ينتشران وكل من يعترض عليهما يتعرض للمهانة والضرب والتعذيب.وقد القت بنا الاقلية الانتهازية في واقع رهيب’.وقد اعلن ابراهيم في ختام كلمته رفضه تقبل الجائزة لانه صادرة عن حكومة ليس لديها مصداقية تخولها منح الجوائز اصلا، على حد قوله.
التعذيب: ضحاياه وجلادوه..ادواته وطرقه
في الفصل الخامس الذي يخصصه المؤلف للتعذيب، يتتبع وقائع مأساة صبي في الثالثة عشرة من عمره قبض عليه لأنه سرق باكو شاي وتعرض لتعذيب شرس أدى في النهاية الى وفاته.ويستخلص المؤلف من هذه وحوادث وممارسات اخرى عديدة ان هناك ثقافة للتعذيب متفشية في المجتمع وانها’ لا بد وانها كانت موجودة منذ وقت طويل، تحميها ترسانة من القوانين الملتوية، في مقدمتها قانون الطوارئ الذي تحكم به مصر من عدة عقود، ومن ثم باتت ممارسات التعذيب بمعزل تام عن اجراءات تطبيق القانون التي نشأ التعذيب اصلا كأحد وسائله، بل صار التعذيب غاية في حد ذاته’. والاخطر من هذا، يشير المؤلف الى ان دراسات اجريت على جرائم التطهير العرقي والابادة الجماعية، بينت ان اشخاصا عاديين جدا ومواطنين شرفاء وصالحين يمكن ان يتحولوا بمنتهى البساطة الى قتلة ومعذبين اذا ما كان النظام القائم يخلق بيئة تضمن حصانة هؤلاء الذين يتورطون في جرائم من هذا النوع، بل انهم يصيرون اكثر جرأة وشراسة كلما ادركوا انهم فوق القانون.وهذا بالضبط هو ما فعلته الدولة المصرية وساهمت في انتشار التعذيب.
وفي هذا الصدد يكشف المؤلف عن ارقام ذات دلالة هامة، حيث يشير الى ان ميزانية قوات الامن تبلغ 1.5 بليون دولار، اكثر من ميزانية الرعاية الصحية، ويبلغ عدد قوات الامن 1.4 مليون جندي، وهو رقم يبلغ اربعة اضعاف القوات المسلحة.ووفقا لمنظمة حقوق الانسان المصرية، فان عدد السجون تضاعف عشر مرات في الخمسة والعشرين عاما الماضية، في حين ان تعداد السكان لم يتضاعف سوى مرتين في الفترة ذاتها، وفي حين ان عدد المعتقلين لاكثر من عام دون توجيه اتهامات او محاكمة زاد عن عشرين الفا. وذلك وفقا لتقرير منظمة حقوق الانسان المصرية.وعن تقرير اخر للمنظمة نفسها صدر في 2007، نقرأ تفاصيل عن اعداد ضحايا التعذيب الذين يقدرون بالمئات في العقود التالية ‘التعذيب في مصر منهجي ومنتظم، على النقيض تماما من مزاعم وزارة الداخلية، ليس مجرد حالات فردية.وبين عامي 1993 وتموز/يوليو 2007 تم توثيق 567 حالة تعذيب، توفي 167 منهم كنتيجة مباشرة للتعذيب.ولا تمثل هذه الاعداد سوى قمة جبل الجليد، فهناك المزيد من المئات الذين لم يكتب لهم بعد ان يروا ضوء النهار.وفي هذا يشير المؤلف الى ان المعتقلين في مصر- وكما هو متوقع- يحرمون تماما من أي اتصال بالعالم الخارجي، وبالتأكيد بأهلهم وذويهم، بل هناك العديد ممن يعتقلون في سرية تامة. وهؤلاء واولئك نادرا ما يشار الى اعتقالهم، بل كل ما يعرف عنهم هو انهم ‘اختفوا’ فجأة. اما اكثر وسائل التعذيب استخداما في المعتقلات المصرية فتتضمن الضرب المبرح، والصدمات الكهربائية، والتعليق من الرسغين، او الكاحلين، او في اوضاع صعبة لفترات طويلة، الى جانب تهديد المعتقلين اذا لم يعترفوا بان اهاليهم سيتم قتلهم او اغتصابهم او انتهاكهم جنسيا بطرق مختلفة. هذه الوسائل قد تبدو مألوفة جدا للقارئ ‘الغربي’، حسب المؤلف، لسبب بسيط جدا، هو ان هذه الوسائل تحيل مباشرة الى فضيحة التعذيب الكبرى التي صدمت العالم في السنين القليلة الاخيرة، ويعني بها ابو غريب، حيث تابع العالم صور العراقيين عراة، معصوبي العينين، مكومين فوق بعضهم البعض، او تحت تهديد الكلاب، وكأنما لا جديد تحت الشمس. (اخبرني صديق مطلع، ان الذين مارسوا عمليات التعذيب الفعلية في ابو غريب كانوا ضباطا وجنودا عربا، واكتفى الامريكان بالظهور في الصور، والعهدة على الراوي).
وهنا يورد المؤلف شهادة مدهشة ودامغة في الوقت نفسه، ادلى بها وزير الخارجية الامريكية الاسبق كولن باول، وحتى قبل ان تتخذ ‘الحرب على الارهاب’ شكلها المتكامل، عبر فيها عن امتنانه ‘لالتزام مصر الشديد بالعمل معنا من اجل مكافحة افة الارهاب.ومصر- كما نعرف جميعا- سبقتنا اشواطا في هذا المجال.وامامنا الكثير الذي يمكن ان نتعلمه من المصريين، والكثير مما يمكن ان نحققه بالعمل سويا’.ومن ابرز اوجه هذا التعاون، كما تبين لاحقا، في مجال استجواب المعتقلين والمشبوهين وبالاحرى استنطاقهم، وهو ما تم تنفيذه تحت ما يعرف ببرنامج ‘التسليم الاستثنائي’، وهي عبارة مهذبة لاخفاء سياسة ترحيل المعتقلين سرا الى بلدان العالم الثالث من حلفاء امريكا، حتى يتم انتزاع الاعترافات منهم تحت التعذيب، ويكون باستطاعة العم سام ادعاء البراءة بان اميركا لا تمارس التعذيب ولا تقره، وايضا حتى لا يقع ممارسو التعذيب تحت طائلة القانون الامريكي.( هل يكون لدينا ادنى شك بعد ذلك في صحة الزعم بان التعذيب في ابو غريب كان بواسطة اياد عربية ‘كريمة’!).
اما عن ادوات التعذيب، فحدث ولا تخف، اذ يعدد الملف منها حفنة مثل مسدس الصدمة الكهربائية، والمواد الكيميائية، ومحاليل لحث الضحايا على الاعتراف.وقد سجلت منظمة العفو الدولية اكثر من خمسين مصنعا لإنتاج مسدسات الصدمة الكهربائية في الولايات المتحدة، وهؤلاء يواجهون منافسة شديدة من بلدان اخرى في مقدمتها المانيا ( 30 شركة)، تايوان (9) فرنسا (14) وكوريا الجنوبية (13)، والصين (12)، وجنوب افريقيا (9)، واسرائيل (8) والمكسيك (6) وبولندا (4)، وروسيا (4) والبرازيل (3).وبما اننا نتحدث عن منافسة دولية، فلا بد ان كل هذه الشركات تصدر منتجاتها الى العالم الثالث، الذي يتمتع بتراث متخم بأدوات ووسائل التعذيب.
هو ما يجعل مصر دولة بوليسية من الطراز الاول، وفقا للصحافي ابراهيم عيسى، رئيس تحرير ‘الدستور’.
ويشير الكتاب في هذا الصدد الى موقف الولايات المتحدة، حيث يقول ان النظام المصري، ككل الانظمة القمعية، يدرك ان تعاونه النشط في ‘الحرب على الارهاب’ من شأنه ان يضمن له عدم انتقاد الولايات المتحدة لانتهاكاته لحقوق الانسان.ولهذا لم يكن غريبا حين اتهمت منظمة امريكية لحقوق الانسان الحكومة المصرية باستخدام التعذيب لانتزاع اعترافات من المعتقلين في احدى قضايا الارهاب التي اتهم فيها اكثر من عشرين شخصا ينتمون لتنظيم بعينه، تبين لاحقا ان اسماء هؤلاء تم تلفيقها كما لفقت الاتهامات والاعترافات، وكل هذا من اجل تبرير مد العمل بقانون الطوارئ.
ما بعد مبارك
يقول المؤلف ‘ان المصريين لديهم قدرة هائلة على تحمل المعاناة، تثير الاعجاب والاكتئاب في نفس الوقت’. وكأنما لسان حاله يقول الى متى يتحملون كل هذا الشقاء والفساد والتدهور المستمر في كل مناحي حياتهم ونضالهم اليومي من اجل لقمة العيش التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
ويشير جون برادلي في مستهل الفصل الاخير، ان المصريين يشعرون بفخر واعتزاز كبير بتراثهم الحضاري العريق، وان هذا التراث يمنحهم نوعا من التعويض عن مشاعر الضعة والاحباط والحزن للاحوال المزرية التي آلت اليها بلدهم على الكثير من الصعد، ان داخليا او خارجيا.هذا الاحساس يمنحهم نوعا من العزاء بأن إرثهم الحضاري العريق كفيل بان يخرجهم من هذا التدهور الحاصل لهم وإن على المدى الطويل، وان ‘دوام الحال من المحال’، كما يقول المثل المصري.لكنه يضيف ‘قد لا يكون هناك مدى طويل اذا لم يتم التعامل بجدية وصرامة وعلى نحو السرعة، مع جملة من المشاكل والمعضلات التي تواجه مصر حاليا’. ويشير هنا الى حادثة الشائعات التي راجت في ايلول (سبتمبر) 2007 حول مرض الرئيس مبارك ‘الخطير’ بل وربما وفاته.وكيف ان اخبارا وتحليلات عديدة منسوبة الى مصادر مبهمة راحت تتكاثر وتنتشر كالنار في الهشيم وتتصدر الصفحات الاولى لصحف المعارضة، لم يكن المهم في هذا الصدد، غضبة الحكومة على هؤلاء الصحافيين وانزال عقوبات صارمة بالحبس عليهم، تم الغاؤها لاحقا، وانما مزيج المشاعر المتناقضة الذي سيطر على المصريين والذي يعكس المأزق الحالي للنظام، وللشعب في الوقت ذاته.كان مزيجا من الخوف والامل واللايقين.فعلى الرغم من ان الغالبية العظمى من المصريين تتطلع الى الخلاص من ‘الاسرة المباركية الملكية’، بالتعبير الفرعوني، الا ان رحيله الذي بدا وشيكا آنذاك، لم يثر الغبطة والفرح بقدر ما استثار مشاعر الخوف من المجهول، خاصة مع غياب آلية مضمونة لانتقال السلطة، وتربص الابن وجمعية المنتفعين المتحلقة حوله للقفز على السلطة، اذا ما تعذر سيناريو التوريث في حياة الاب.هذا السيناريو ذاته الذي يجري الاعداد له على قدم وساق وبوتيرة متسارعة في العامين الاخيرين، هو المسؤول ربما عما يصفه المؤلف بنوع من التسليم- والاستسلام – لفكرة ان جمال مبارك آت آت لا محالة. وطالما ان سيناريو التوريث وقع بالفعل في سورية، ويجري الاعداد له في ليبيا ( الساعدي او سيف الاسلام)، وليس مستبعدا في اليمن، فضلا عن انه حدث في المغرب وفي الاردن حتى وان كان غطاء ‘النظام الملكي’ يكفل ذلك، الا ان ذلك في حد ذاته ‘يعمم’ اجواء ومناخات التوريث من المحيط الى الخليج.
ويتطرق المؤلف على نحو سريع ومقتضب الى السؤال الذي يحير الكثير من المصريين، وكل من يهتم بالشأن المصري بوجه عام، وهو ذلك المتعلق بدور المؤسسة العسكرية في سياق سيناريو- او سيناريوهات- التوريث او حتى انتقال السلطة بأي شكل كان، وهو ما يقود بالضرورة الى تناول دورها في اطار توازن القوى في اطار النظام القائم.وفي هذا يقول ان الرئيس مبارك يجسد رأس النظام المسؤول عن حكم البلد وادارة شؤونه اليومية ( وان كان الكثيرون باتوا يشككون في حجم انخراط مبارك في ادارة شؤون البلد اليومية مع تقدمه في السن)، فيما السيطرة الفعلية التي تمسك بخيوط الحكم ولكن من وراء الستار،تقع في ايدي المؤسسة العسكرية.ويشير الى ان القوات المسلحة وضعت قطاعات بعينها من الاقتصاد المصري تحت سيطرتها، ومن ثم أصبحت غير متاحة لجماعات رجال الاعمال واتباعهم. وان هذه القطاعات ليست مقصورة على مجالات الانتاج العسكري بل تمتد الى مجالات اخرى مثل شركات مياه معدنية (صافي)، وخدمات جوية، وخدمات امنية، وشركات سفر، ومصانع احذية، ومصانع معدات مطابخ، هذا فضلا عن مساحات من الاراضي ومشاريع عمرانية واسكانية، بل ومراكز للتسوق. ويصف المؤلف اداء المؤسسة العسكرية في هذا الصدد بالحنكة، حيث يتعذر انجاز أي شيء في مصر- خاصة المشروعات والصفقات الكبرى- دون علم وبالضرورة موافقة المؤسستين العسكرية والامنية، ومن ثم حصولهما على حصة من ‘كعكة’ المنافع والامتيازات.ومن هنا الافتراض الشائع بان المؤسسة العسكرية هي العامود الفقري للنظام.وهذا بدوره يقود الى التكهنات حول سيناريو التوريث، والذي يروج اربابه ومؤيدوه فكرة ان جمال مبارك سيكون بمثابة دماء جديدة كأول رئيس من خارج المؤسسة العسكرية. ومن ناحية، اخرى فان ضآلة ما انجزه جمال حتى الان يجعله اقرب الى صفر على الشمال، حسب تعبير المؤلف. ومن هنا تجري المحاولات الدؤوبة دائما لتسويقه كصاحب انجازات ما، ومن هذا مثلا اعلانه في مؤتمر الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم 2006 قرار مصر باستئناف برنامجها النووي المدني، كنموذج على اللحاق بالعصر. وقد تأكدت الطبيعة الاستعراضية لهذا الاعلان في لقاء آخر على هامش المؤتمر ذاته، حين اخبر مبارك الابن زمرة من الصحافيين الاجانب بان مصر لم تعد معنية بالالتزام بمبادرة الرئيس بوش للديموقراطية في الشرق الاوسط، وكرر نفس العبارات المستهلكة التي يلوكها الاعلام الحكومي الدعائي والغوغائي في احيان كثيرة، بان مصر ترفض ‘أي رؤى مفروضة من الخارج تتعارض مع هويتها العربية وقيمها’، وما هي هذه القيم بالضبط؟ المزيد من القمع وتكميم الافواه والتعذيب ونهب موارد البلد في وضح النهار.كلا المحاولتين استهدفتا معالجة اثنتين من ابرز نقاط ضعف جمال، والاولى كونه يمكن ان يكون في حال صعوده الى سدة السلطة، اول رئيس من خارج المؤسسة العسكرية، ومن ثم فان مسألة استئناف البرنامج النووي يمكن ان تقربه من المؤسسة العسكرية.والنقطة الثانية هي كونه، تماما مثل ابيه، في نظر المصريين، مجرد ادوات في يدي الولايات المتحدة، ومن ثم فان تحديه ‘المفترض’ او المسرحي للسياسة الامريكية في المنطقة، يمكن ان يكسبه شعبية في اوساط المصريين. ومع ذلك باءت المحاولتان بالفشل، كما يقول المؤلف وكما تبين من تداعيات شائعات مرض الرئيس ‘لا يزال جمال مبارك مكروها على نطاق واسع بين المصريين، ولا تزال مصر رهينة للسياسة الامريكية في المنطقة’. (مؤخرا اجترح مقاولو التوريث محاولة جديدة لانقاذ هذه لاجراء تنفس صناعي لهذه الشعبية غير الموجودة اصلا. فأثناء حرب اسرائيل الاجرامية على غزة ظل جمال مبارك مختفيا لسبعة عشر يوما، وهو الذي لا يغيب ولا اخباره يوما واحدا عن وسائل الاعلام الحكومية، وفي اليوم الثامن عشر، حين قاربت الحرب على الانتهاء، ظهر فجأة كالعنقاء من تحت الرماد، على رأس وفد من الحزب الحاكم- الذي افاق اخيرا ليرسل بعض التبرعات في محاولة لاسترداد زمام المبادرة من الجماهير والجمعيات الخيرية وبالطبع الاخوان المسلمين- وحاول ان يتقمص دور الزعيم وراح يصرخ لن ترهبنا الصواريخ! ولا احد يدري على من يعود الضمير بالضبط؟ هل يعتبر نفسه من سكان غزة او من مؤيدي حماس؟).
وهنا يتحول الكتاب الى تشخيص مأزق النظام المصري الحقيقي بين الانفتاح السياسي وبين مواصلة الطابع القمعي الاوتوقراطي وتبعات كل منهما.’فالانفتاح السياسي والاقتصادي من شأنه ان يخلق مناخا تنافسيا ويحمل في طياته مخاطر خروج الامور عن السيطرة. ومن ناحية اخرى، فان مواصلة اساليب القمع والترهيب يمكن ان تؤدي لمزيد من تراكم مشاعر الاحباط والظلم والغضب والتي تهدد بالانفجار في اية لحظة على نحو يصعب السيطرة عليه وقد ينتهي بكارثة على النظام والشعب في وقت واحد. وهناك بعد اقتصادي لا يقل اهمية.فما من احد يشكك في قدرة النظام وجلاوزته على قمع أي تمرد يجرؤ على ان يطل برأسه قبل ان يخرج عن السيطرة.لكن هذا لن يحدث بدون ثمن باهظ من رصيد النظام اولا واخيرا، لأن العامود الفقري للاصلاحات التي يتاجر بها النظام ليل نهار، هو الانفتاح الاقتصادي الذي يعتمد على جذب الاستثمارات الخارجية والمعونات والمنح وايضا على المضي في برامج الخصصة وتحرير الاقتصاد بالانتقال الى اقتصاد السوق والتخلص مما عساه تبقى من ارث النظام الاشتراكي او رأسمالية الدولة، ايا كانت التسمية. واهم الشروط الموضوعية لتحقيق هذا على الصعيد الاقتصادي هو توفر الاستقرار والسلام الاجتماعي، فمن دونهما ستهرب رؤوس الاموال الاجنبية بل لن تجيء اصلا.
المعضلة الثانية تتمثل في الدعم الذي يحظى به النظام من الولايات المتحدة.وفي هذا ينقل المؤلف وجهة نظر هشام قاسم، احد المدافعين عن حقوق الانسان، الذي روى كيف انه حين ذهب مع اربعة اخرين في تشرين الاول (اكتوبر) 2007 لتسلم جائزة من ‘الوقف الوطني من اجل الديموقراطية’ تقديرا لنشاطاتهم في بلدانهم، رتب لهم لقاء مع الرئيس الامريكي آنذاك جورج بوش، كجزء من التكريم. ويروي قاسم كيف ان الرئيس كان مهتما بشكل خاص عن مسار الاصلاح في الحزب الحاكم، فأخبره انه ما من اصلاح ‘ولا يحزنون’، تبين ان بوش كان مهتما بكل خاص بوضع الاسلاميين. فأوضح له قاسم ان النظام فعل كل ما في وسعه لجعل ظهور او صعود الاحزاب العلمانية ممكنا ( سواء بقمعها المستمر، او بتخويفها بفزاعة الاسلاميين)، بل ان النظام لا يدخر وسعا في تشويه وتجريم كل من يجرؤ الى تحديه استنادا إلى دعم امريكي، باتهامهم بالعمالة والخيانة وغيرها من قاموس الانحطاط السياسي ( ولنا في ايمن نور وسعد الدين ابراهيم أمثلة واضحة). والنتيجة الحتمية لذلك- حسب قاسم- ان مصر ستتحول الى دولة اسلامية بحلول 2010.وهو ما اصاب بوش بغم واستياء شديد وقال ‘نحن نعطي بلدك 2 بليون كل عام للحفاظ على استقرار البلد وحتى لا تصبح دولة اسلامية’. وبمثل ما كان كلام قاسم مصدر غم واستياء للرئيس، كان رد فعل بوش مصدر غم واستياء ويأس لقاسم، حين تبين له ان هدف بوش والادارة الامريكية من الدعم المستمر لمبارك ونظامه هو الاستقرار لا الاصلاح، والاستقرار في عرفه يعني وقف الاسلاميين.
وفي هذا يكمن مأزق السياسة الامريكية الذي لا يبدو ان صناع السياسة في واشنطن ينتبهون له، او يتعاملون معه بالقدر الكافي من الجدية والتخطيط على المدى الطويل.فالحفاظ على الاستقرار يعني مواصلة الدعم لمبارك ودهاقنة نظامه، وفي الوقت ذاته غض الطرف عن مراكز القوى الحقيقية التي تسيطر على مصر، وتحديدا الجيش وقوات الامن.فهذه القوى آخر ما تفكر او ترغب به هو الاصلاح، لأنه يهدد الامتيازات التي تتمتع بها، ومن بينها اموال الدعم الامريكي، ومن ثم تحرص على استمرار الوضع القائم، وعرقلة كل محاولات الاصلاح، ان وجدت اصلا.
جمهورية الخوف على وشك الانتفاض
يقول المؤلف في الفصل ذاته ان ابشع ما في نظام مبارك هو حالة الافلاس التي وصل اليها، وجعلته يتخبط على غير هدى وعلى نحو اعمى ومضطرب. فليس هناك اطار عقلاني او ايديولوجي يحكم فلسفة النظام او سياساته، وليس هناك حتى من شعارات ـ فما بالنا بالأهداف – حقيقية يمكن له ان يحشد الناس وراءها. فالفكرة القومية العربية او دور مصر الريادي في العالم العربي اخذ في التآكل والتراجع مع صعود قوى اقليمية منافسة لهذا الدور (كما اوضحت الازمات العديدة التي مر بها العالم العربي، من دارفور، الى مأزق البشير، ومرورا بحرب اسرائيل على لبنان وليس انتهاء بحربها على غزة). والمعارضة تبدو في المأزق ذاته، لان البديل الوحيد المطروح عليها هو الاسلاميون، الفصيل الاكثر تنظيما وانضباطا وقدرة على تحريك الشارع. وحتى القليل من الاصلاح الاقتصادي الذي تحقق، لم تعد فوائده الا على ارباب النظام واتباعه من حزب المنتفعين من رجال الاعمال (النهابين) الى اباطرة الاعلام وصبيانه من جنود البروباغندا الحكومية، ودهاقنة الاجهزة الامنية وكبار الضباط في القوات المسلحة، ومع حرمان الغالبية العظمى من هذه الفوائد، تزداد حالات التذمر وتختمر تحت السطح عوامل الاضطراب والتمرد.ويعقد الملف مقارنة بين نظام مبارك وكل من النظام السوفييتي والصيني الشيوعي، وكيف ان كليهما كانت لديه عناصر وانجازات مكنتهما من البقاء عقودا طويلة. لكن المقارنة الحقيقية ينبغي ان تكون بين نظام مبارك وسلفيه، أي النظام الناصري والنظام الساداتي. الاول جاء بشرعية الثورة وحكم بها 18عاما حفلت بانجازات للغالبية وحراك اجتماعي كبير، وصعود سياسي لمصر ودورها عربيا واقليميا ودوليا، وتحالف مع قوى دولية. والثاني اعتمد على شرعية حرب اكتوبر، انجازه الاكبر، ثم سياسة الانفتاح والسلام مع اسرائيل الذي بيع للمصريين على انه المفتاح السحري للرخاء والازدهار اللذين لم يأتيا تماما مثل غودو الذي لم يصل بعد. فماذا حقق نظام مبارك للغالبية العظمى؟ وما هي شرعيته اذا كان قد تخلى تماما عن اعمدة الحقبة الناصرية، وليس له فضل في الانجاز الساداتي، بل ان النظام لا يزال يتسول الشرعية من ثورة 25 ومن انجاز السادات عسكريا وسياسيا، و ما من انجاز له من صنعه حتى الان.
امام هذا الافلاس وافتقاد الشرعية لم يعد امام النظام سوى اساليب بث الخوف والترهيب والقمع، لضمان احكام السيطرة وتواصلها على الشعب والتشبث بالحكم.وما مظاهر توحش اجهزة الشرطة ورجالاتها، وقمع قوات الامن المستمر والعلني للمظاهرات والاحتجاجات والاضرابات، وسجن المعارضين سوى امثلة على ادوات التخويف والارهاب هذه.بهذه الاساليب- يقول المؤلف- نجح النظام في زرع الخوف في نفوس غالبية المصريين وترويعهم وتركيعهم، على حد قوله.
كل هذا قد يتغير، وقد يكون الوقت قد حان لتغييره، وهذا هو بيت القصيد من وراء الكتاب، والخلاصة التي ينتهي اليها المؤلف- وإن على نحو غير يقيني- واختارها عنوانا فرعيا لكتابه، وهى ان المصريين قد يكونون على موعد قريب مع ثورة او انتفاضة جديدة. ويستند المؤلف في استنتاجه الى قراءة لتاريخ مصر في المئة عام الاخيرة، حيث يقول ان النظرة الاستشراقية للمصريين ذهبت الى ان المصريين تم ترويضهم بتجربتهم الطويلة في ان يحكموا بواسطة فرعون له سلطان مطلق ويعد ظلا للاله على الارض، فوق النقد او المساءلة، واجب الطاعة والولاء التام.ولهذا تمكنوا من العيش في سلام عبر تجاهلهم الدولة الغريبة عنهم وسلطتها الباطشة.ومن الصعب مقاومة مقارنة الرئيس مبارك بفراعنة مصر القدماء، خاصة وانه يعد ثالث اطول حكام مصر بقاء في السلطة (بعد رمسيس الثاني ومحمد علي باشا). مثل هذا التحليل، يفتقر الى الدقة كما يقول المؤلف لانه يتجاهل واقع المجتمع المصري في القرن الواحد والعشرين، وطبيعته كمجتمع متعدد الثقافات والديانات والاعراق، والحيوية الدافقة التي يتمتع بها المصريون وتجعلهم دائما قادرين على التجدد والابتكار. وفي المئة عام الاخيرة، لم يعد المصريون ذلك الشعب الوديع المسالم ‘اللامبالي’ المعروف تاريخيا.فقد انتفض المصريون في ثورة 1919 بزعامة سعد زغلول ضد الاحتلال البريطاني، (وقبلها كانت ‘ثورة’ عرابي ضد الخديوي)، ثم انتفاضة كانون الثاني (يناير) 1952 التي ادت الى حرق نصف القاهرة، وكانت بدورها احد الاسباب التي عجلت بثورة الضباط الاحرار في 23 تموز (يوليو) من نفس العام. وفي 1977 في عهد السادات، انتفض المصريون من الاسكندرية في اقصى شمال البلاد الى اقصى جنوبها في اسوان، والتي عرفت بانتفاضة الخبز (وسماها السادات انتفاضة الحرامية)، هذا فضلا عن سلسلة متوالية من الاغتيالات والمظاهرات والاضرابات، والهجمات الارهابية.تاريخ حافل كهذا لا يمكن ان يشير الى شعب ‘لا مبالٍ’ او غير معني بأمور السلطة والسلطان. ويلحظ المؤلف ان الفارق الزمني بين هذه الانتفاضات والثورات، من 1919 الى 1952، ومن 1952 الى 1977، حوالي ثلاثين عاما، وهو أمر لا بد وأن يثير قلق النظام، وقد مرت على اخر انتفاضة (1977) ثلاثين عاما واكثر بقليل. ترى هل نضجت الظروف الموضوعية – والتاريخية – لتضع المصريين على حافة ثورة جديدة، حان أوانها؟ هذا هو السؤال.
القدس العربي