في انتظار أن نصبح برابرة
بلال خبيز
اثناء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، دأبت قناة “الجزيرة” القطرية على تعداد الضحايا من النساء والأطفال المدنيين يوماً بيوم، وساعة بساعة احياناً. كانت الحصيلة مفجعة: الإحصاءات تقول ان اكثر من 55 بالمئة من الضحايا كانوا من الأطفال والنساء.
إحصاء الضحايا بحسب الجنس والعمر ليس جديداً كل الجدة، لكنها المرة الاولى التي ظهر فيها الإصرار على هذا النوع من الإحصاء فاقعاً. فحتى في حرب لبنان عام 2006، وهي الحرب السابقة التي تجاور تلك الحرب في منطقة الشرق الأوسط ولا يفصل بينهما فاصل حربي، حتى في تلك الحرب، كان المقاتل من حزب الله يبقى مقاتلاً ما دام حياً لكنه ما ان يموت حتى يتحول مدنياً وينضم إلى قائمة الضحايا الأبرياء، (من العجائز والنساء والأطفال). مما يعني ان موت الرجال الراشدين والقادرين على السعي استمر حتى تلك الحرب موتاً محركاً للرأي العام العالمي.
لكننا، في حرب غزة، فقدنا هذه الميزة، او على الأقل هذا ما اوحت به قناة الجزيرة وخطب البلاغة المنتصرة في تلك الحرب. بات موت الرجل الراشد مقبولاً وبديهياً ولا يسبب اي نوع من الإحراج او القلق للرأي العام العالمي. وفي ناتج الحساب السياسي والإجتماعي تحول الرجال جميعاً في منظور الإعلام، حتى الإعلام المقاوم (على غرار إعلام حزب الله وحركة حماس وقناة الجزيرة)، من مواطنين إلى مقاتلين، ولم تعد ارض غزة او جنوب لبنان تتسع لرجال راشدين ليسوا مقاومين، تحت طائلة الموت من دون ذكر أو اسف.
على هذا كان مفهوماً ان يلجأ قادة المقاومات في لبنان وفلسطين إلى التأكيد في كل مرة على كون كل طفل وامرأة وعجوز وشيخ هو مقاوم في غزة، (السيد رمضان عبدالله شلح)، والمقاومة ومن ثم التحرير وفك الحصار انما يكون بصدور المصريين عامة، الذين يفترض بهم ان يقتحموا معبر رفح، (السيد حسن نصرالله)، والشعب الفلسطيني يقدم ابهى صور الصمود وهو يتعرض للقصف العنيف والوحشي من دون ان تصدر عنه نأمة او شكوى (السيد خالد مشعل). وفي الخلاصة ان قادة المقاومات هؤلاء حسموا في هذه الحرب واثناءها ان المقاومة انما تكون بالموت المرغوب منا او المقبول على اقل تقدير، والمستفظع والمستنكر من الرأي العام العالمي، بما فيه الرأي العام الإسرائيلي. ولو حدث ان خرج من بين اللبنانيين او الفلسطينيين من يستفظع هذا الموت ويدعو إلى وقف النار فوراً (صائب عريقات مثالاً) لعدّ من المتخاذلين المتعاملين مع العدو الإسرائيلي، ولاعتبر حارس حدود اسرائيل (الإمام الخامنئي). والحق اننا في هذه المعادلة وبحسب منطق قادة المقاومات القاطع في وضوحه، بتنا مهددين بفقدان مواطنيتنا وانتمائنا إلى اهل هذه المنطقة وشعوبها ان ابدينا بعض الحزن او عبرنا عن هول ما يجري، من دون ان نرفق هذا الاستهوال بالتأكيد على النصر البيّن الذي يحققه الشعب الفلسطيني الأعزل في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية.
كانت المعادلة هي التالية: على الغربيين، والإسرائيلين طبعاً، استهوال واستفظاع ما يقوم به الجيش الإسرائيلي، والحزن على الضحايا من النساء والأطفال حصراً، وبالتالي، المحافظة على حقهم في الحزن والشعور بالغصة والدعوة إلى وقف الحرب. اما عن العرب والمسلمين، وخصوصاً اهل لبنان وفلسطين، فيمنع عليهم الحزن او الشعور بالغصة وعليهم ان يظهروا ان موتهم انتصار ودمهم صمود، وليس مقاومة فحسب. بل انه وبمجرد ان تنزلق اسرائيل إلى اهراق الدم البريء ينتصر الدم بصرف النظر عن النتائج السياسية او الاجتماعية او الاقتصادية التي تنجم عن كل هذا الدم. (الأرقام التي صدرت من غزة مفزعة: 84 بالمئة من اهل القطاع يعتمدون في عيشهم اعتماداً كلياً على المعونات التي تقدمها منظمات الإغاثة الدولية، بحسب تقرير اليونيسيف(.
وبهذا تكون هذه المقاومات قد افقدت شعوبها الحق بالحزن على الموتى والحق بالاعتراض على القتل، فيما تركت هذه المهمة لمن هم خارج المسرح جملة وتفصيلاً، اي شعوب العالم المتحضر ومعهم العدو. وغني عن البيان ان دم النساء والأطفال الذي كان يعرض كسلعة ما زالت قابلة للبيع والشراء في سوق الأحزان الدولية كان يحتاج وسيطاً هو التلفزيون. فلم يكن ممكناً لهذا الدم ان يكون ذا قيمة في سوق الرأي العام العالمي من دون عرض سيلانه بكثرة على الشاشات. وحيث ان مواطني هذه البلاد، خصوصاً في لبنان وفلسطين، باتوا ممنوعين من شراء دمهم بأنفسهم او حقنه بأي ثمن، وتحولوا من مستنكرين ومستهولين وحزانى إلى قتلى وجرحى منتصرين وصامدين، فإن الدم الذي كان يباع على الشاشات كان في واقع الامر دم الأحياء والناجين وليس دم الجرحى والقتلى. هكذا حولت المقاومات الناس في هذه البلاد، من مواطنين، نظرياً على الأقل، إلى سلعة معروضة في سوق الدم العالمي. والأفظع من هذا كله، ان ثمة دم الرجال الذي لم يكن له اي قيمة في تلك الحرب، ولا يباع ولا يشرى ولا يجد من يقبل الحزن عليه.
يا للانتصار!
الصورة من دون رجال
بين لوحة اعدامات ايار لغويا ولوحة غيرنيكا لبيكاسو ثمة فارق يحسن بي تبيانه. في لوحة غويا تلك ثمة رجال يعدمون رجالاً، وبكلام آخر يمكننا تعداد القتلة والقتلى في تلك اللوحة وحتى طلقات الرصاص يمكن تعدادها ايضاً. وتالياً يمكننا ان نسمي الناس بأسمائها خصوصاً الضحايا. ذاك ان القتلة ليسوا اكثر من عتلة مزيتة في ماكينة نظام عملاقة ولا عبرة لأسمائهم في هذا المقام. في لوحة غيرنيكا ثمة بكاء وعويل على كثرة الضحايا. كما لو ان البكاء في تلك اللوحة، في الاعناق الممتدة والممسوخة والأفواه التي تعجز عن التسمية والتفريق من طريق اللغة واللسان، تقول ان الموت الذي حصل يمنع اللغة من ان تستأنف سيرها في التفريق والتدقيق والتسمية. وقد” علّم آدم الإسماء كلها”، لكننا امام هول ما تبثه غيرنيكا فينا وتذكرنا به ندرك ان استعادة الأسماء بعد مثل هذه الفاجعة تشبه نسخ كل ما تهدم من المدينة المقصوفة وإعادة اعمارها كما كانت بالضبط. مثل هذا السعي لإعادة اعمار مدينة غارنيكا مثلما كانت من قبل ناقص الناس الذين ماتوا، يكاد يكون في وجه من الوجوه تخففاً من ثقل الموت الذي حل بها، ورغبة معلنة وحادة بأن الأحياء انجزوا كل ما عليهم من طقوس الوفاء للذين ماتوا. لكن مثل هذا السعي لا يتحقق ولم يتحقق ابداً في اي مكان. استعادة الأسماء او تكرار صور الدم على الشاشات او وضع شاشات رقمية تحصي قتلى غزة لحظة بلحظة لا يهدف في حقيقة الأمر إلا إلى استبدال الأصل بالصورة. هذه غزة على الشاشات، اما غزة الحقيقية التي كانت فلم تكن ضرورية ولم تعد ضرورية ايضاً. ويجدر بنا ان نكتفي من تلك المدينة، بوصفها الأصل الذي كان، بالنسخة النظيفة عنها. وهذان السلوك والمسعى لا يتصلان بالوفاء، الذي هو فضيلة برابرة على ما يقول ميشليه، من اي باب، بل يتصلان اتصالاً وثيقاً بالنسيان التام والغفلة وانفاق الدم كله حتى آخر قطرة منه في سوق موازين القوى السياسية والعسكرية.
كل نسخ للمدن المهدمة هو في معنى من المعاني اقامة “ديزني لاند” جديدة، تريد ان تستبدل حيوات الكائنات الهشة والسريعة العطب بجموح المنامات التي تسرف في انفاق المشاعر لسبب او من غير سبب.
ليس الحديث عن تجارة الدم والمجازر جديداً. لكن مصدر الجدة في هذا كله، وفي ما تركته حرب غزة من آثار عميقة، ان قادة المقاومات والمتحمسين لجدواها جعلوا من البلاد التي يقاومون من أجل تحريرها مجرد طبيعة عذراء يجدر بالعقلاء واصحاب السلطات تنظيمها وتشذيب زوائدها من الناس الذين يكونون فائضين عن الحاجة ويجدر بنا تصدير دمهم او عرضه في السوق. والأرجح ان ملاحظة جان بودريار عن سبب انتهاء حرب فييتنام الحقيقي تفيد كثيراً في هذا السياق: حرب فييتنام لم تكن لتنتهي قبل ان يمتلك الفيتناميون الشماليون جيشاً منظماً ومؤسسات منظمة استطراداًً، بصرف النظر عن قسوتها واتجاهاتها، إلا انها تثبت للخصم ان بإمكانها ان تحكم البلاد وترسي نظامها. هكذا تنسحب اميركا من فييتنام ما ان تتيقن ان النظام الذي سيتربع الشيوعيون على قمة هرمه سيكون نظاماً مستقراً. والحال، كان لافتاً على نحو مخز وعار كل العري ان تكرر حركة “حماس” طوال زمن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ان بينتها العسكرية ما زالت سليمة، بل وذهب بعض مسؤوليها إلى التصريح علناً ان مقاتلي الحركة لم يقعوا في فخ الجيش الإسرائيلي الذي كان يستدعيهم للاشتباك عبر قصف المدنيين. ومعنى هذا كله، ان جيش “حماس” لم يحارب لأن وظيفته اثبات انه قادر على الحكم ولم تكن وظيفته اصلاً ان يكون قادراً على التحرير. الأمر نفسه يتضح الآن جلياً في لبنان، حيث لم يكف حزب الله عن اعلان انتصاره منذ انتهاء حرب تموز العام 2006، ذلك ان بنيته العسكرية اصبحت امتن مما كانت عليه قبل الحرب، وتسليحه بات افضل وعديده بات اوفر. اما الذين ماتوا في تلك الحرب او في اي حرب مقبلة فهم الذين جعلوا جيوش المقاومات قادرة على الحكم.
لكننا في الطريق إلى هذا الانتصار الموعود والشائك، فقدنا، نحن رجال هذه البلاد، الحق في ان نكون ابناءً واعماماً وشعراءً واطباءً واساتذةً، وبات اي مولود ذكر في هذه البلاد محكوماً بأن يكون واحداً من اثنين: اما مقاوم واما عدو. على هذا لم تكفّ وسائل إعلام المقاومة في تكرار عادة حربية عربية تعود إلى زمن ما قبل الإسلام، تقضي ببقر بطون الحوامل رمزياً من ابناء الشعب الذي تدعي الدفاع عنه. فلعل الحوامل تحمل في بطونها ذكوراً يصبحون بحكم هذا المنطق مقاومين، لا يؤسف على موتهم او قتلهم، وتالياً لا يمكن بيع دمهم لأن ليس ثمة سعر له. صورة الموتى كان ينقصها الرجال في تلك الحرب. والصورة التي ينقصها الرجال هي صورة لإغراء الذين ما زالوا رجالاً على ما يلاحظ جون برجر وهو يعلق على لوحات الانطباعيين في اوروبا. لكن الرجال الذين تود صورة الدم، المحذوف منها دم الرجال، اغراءهم ليسوا قطعاً الرجال الذين ما زالوا احياءً في هذه البلاد. انهم رجال الرأي العام العالمي الذين ما زالوا يتمتعون بحقهم في ان يستهولوا ما يجري وان يستفظعوا ما حصل تماماً مثلما استفظع بيكاسو ما حصل في اسبانيا على يد منظمات الجنرال فرانكو الفاشية.
في التضامن المتعسر والثقيل
ان نتحول نحن الرجال، غير المقاومين، تفريقاً عن المقاومين، إلى زائدة نافلة في تلك المجتمعات، في غضون اقل من حربين متتاليتين، لا يفصل بينهما زمنياً اكثر من سنتين وبضعة شهور، يعني ان شطراً واسعاً من الشعبين الفلسطيني واللبناني، اللذين يتشاركان المحنة عينها، اصبح بلا قيمة على الإطلاق. وبات موته خافت الدوي ومعدوم الأثر. والأرجح ان الحرب المستمرة في تلك المنطقة بوسائل أخرى على ما يعرّف ميشال فوكو السياسة، بوصفها الحرب بوسائل أخرى، ستعمل على هدر دم فئة اخرى تماماً مثلما تم هدر دم الرجال. ربما حان دور النساء في الحرب المقبلة ليكون موتهن غير قابل للتبادل وغير مرغوب في سوق الرأي العام العالمي. بعدها على الأرجح، وإذا قيض لهذه المنطقة ان تخوض القوى المقررة فيها حروباً اخرى تالية ومحتملة، سيصبح دم الأطفال غير قابل للصرف ايضاً. وحيث اننا لم نعد نملك غير الدم لنبيع ونشتري به “انتصارات” و”عزة” و”كرامة”، نكون في غضون حروب قليلة مقبلة قد استنفدنا كل ما نملكه من رأسمال ومواد اولية، وبذا تتم المقاومات عمل العدو تماماً. صحيح انها تطلق الصواريخ والقذائف على الاسرائيليين مدنيين وعسكريين من دون تفريق، وان قادتها يصرحون تصريحات نارية ضد اسرائيل، انما الحقيقة ان عمل هذه المقاومات في نهاية الأمر ليس إلا استكمالاً باهراً ومدوياً لعمل من يعتبرونه عدوهم. ذلك ان الحرب القادمة، مثلما يبشرنا قادة الجيش الإسرائيلي منذ اليوم، لن تفرق بين المدني والعسكري ادنى تفريق، وستلجأ إلى معاقبة المقاوم بأهله، وسيلة للي ذراعه وكسر شوكته. وهذا لن يكون ممكناً من دون ان تنجز المقاومات عملها تماماً. اي تحويل الشعبين كتلة صماء من دون اسماء. فإذا كان الهول الذي تثبته لوحة غيرنيكا في المشاهد يتعلق بكون الراسم او المستهول او الحزين يعرف اسماء الضحايا، لكنه يعجز عن استعمال اللسان لتكرارها، فإن الشعوب التي قد تتحول كتلاً صماء بلا اسماء لا تعود قادرة على اثارة مثل هذا الهول: هذا الشعب لم يكن يملك اسماء، ولم يكن ثمة قصص تروى. القصة نفسها تتكرر ملايين المرات: هذه الام تزغرد عند استشهاد ابنها: كل الأمهات في هذه البلاد تزغرد عند استشهاد اولادها، وهذا رجل يعمل وينجب اولاداً ليصبحوا مقاومين: كل الرجال مقاومون، وهذا الطفل يلعب لعبة الحرب بوصفها تمريناً لما سيكون عليه حين يشتد عوده ويقوى على حمل السلاح: كل الأطفال هم مشاريع مقاومين. وحيث لا تبقى قصص ولا اسماء يصبح الموتى جميعهم كائناً ما كان عددهم يحملون اسماً واحداً. ذلك انهم يضطلعون جميعاً بوظيفة واحدة، تماماً كذئاب الغابة او نمورها: حيث لا اسماء ولا اعمار، فقط ثمة للنمور كلها وجه واحد هو اشبه بالحجاب، واسم واحد: النمر. في عمل لافت، عرض المصوّر موهرر، صور مشاهير من العالم في عالم الفن والأدب والفكر: اميل سيوران، خورخي لويس بورخيس، محمد عبد الوهاب… الخ، وذيّل كل صورة باسم صاحبها، لكنه في منتصف الكتاب المنشور وعلى امتداد صفحتي المنتصف يصور نمراً ويعلق تحته: الذي لا اسم له. والمعنى ان النمر لا اسم له لأن وظيفته محددة تحديداً دقيقاً، بخلاف البشر المتنوعي الوظائف والأمزجة. كذلك فإن من لا اسم له يصعب التكهن بعمره او مرضه. لن يستطيع موهرر ولا متصفح الكتاب ان يعرف ان كان هذا النمر عجوزاً او فتياً، وان كانت انيابه قادرة على القتل ام كليلة، وقطعاً لن يستطيع احد ان يؤكد إذا كان مصاباً بمرض يقعده عن الحركة او يمنعه من الوثب. النمر يكون جريحاً او ميتاً او قادراً على القتل. حاله مثل حال المقاوم. وحين يصبح الشعب كله مقاوماً على ما يرغب ويؤكد السيد خالد مشعل، يمسي الناس كلهم من دون صفات. وفي انعدام صفاتهم ما يمنع الحزن عليهم وما يجعل دمهم غير قابل للصرف.
غني عن القول إننا اجتهدنا طويلاً وبذلنا بذلاً ثميناً في هذه البلاد في محاولة اثبات اننا اصحاب اسماء وروايات، ونملك اسراراً تموت بموتنا. لكن دأب هذه المقاومات ان تسلبنا قدرتنا على المقاومة، وعلى محاولاتنا في جعل حيواتنا ثمينة ودمنا نفيساً.
لكن هذا لا يمنع من يريد التضامن معنا من محاولة التضامن اصلاً. انما من قال ان التضامن يفضي دائماً إلى اكسابنا صفاتنا وفك عجمة السنتنا ومناداتنا بأسمائنا؟ ثمة انواع من التضامن قد تكون خطيرة جداً على المتضامن معهم والمرجو انقاذهم.
يروي ج. م. كويتزي في رواية “في انتظار البرابرة” حكاية قاض يعمل في احد الاطراف الريفية البعيدة. وهو مرتاح في عمله وينتظر انقضاء سنوات خدمته بهدوء وسكينة. لكن بعض قطاع الطرق من قبائل “البرابرة” السود، اخذوا يغيرون على المسافرين ويسلبونهم ما يملكون، واصبح “البرابرة” هؤلاء حديث الناس اليومي، ومصدر خوفهم المقيم، فلم ينج رجل او امرأة في اطراف الامبراطورية كلها من كابوس راوده بأن البرابرة هاجموه في منزله الآمن وحاولوا سلبه حياته او ماله او اغتصاب زوجته. في النتيجة تنتدب السلطات المركزية كولونيلاً من المكتب الثالث، ليحقق في موضوع البرابرة هؤلاء ويجرد حملة عليهم تمهيداً لاعتقالهم او قتلهم. تنطلق الحملة من البلدة التي يشغل فيها القاضي مركزه، وينتج عنها اعتقال عدد كبير من الناس، رجالاً ونساء واطفالاً بوصفهم برابرة او يعرفون شيئاً عن البرابرة. وشيئاً فشيئاً تسوء احوالهم في الاعتقال ويعانون من الأمراض المعدية والجوع والعطش والقذارة. وسرعان ما يفقدون صفاتهم الانسانية شيئاً فشيئاً، من خلال قسرهم على تعطيل وظائفهم وصفاتهم اولاً، وتحويلهم بلا اي تمييز او تفريق إلى معتقلين، ومن خلال تعريضهم للعيش في اسوأ الظروف الممكنة. القاضي المتعاطف مع هؤلاء والمتضامن معهم سرعان ما يختار من بينهم امرأة شابة تعرضت لتعذيب واهمال فادحين، ففقدت القدرة على استعمال اطرافها، وطبعاً ليس ثمة لسان مشترك بينهما، فيأخذها إلى بيته يغسلها ويطعمها ويعتني بها، ومن ثم يمارس الجنس معها. وطوال الرواية نحن لا نعرف موقف هذه الشابة مما يفعله القاضي معها. فالجنس بالنسبة للكائن البشري عملية مساومة في وجه من الوجوه، علينا ان نعرف موقف الشريك من العملية كل مرة. وعلينا ان نتأكد من انه سيقبل بتكرار العملية مرة اخرى، لسبب ما. لكن الأسباب كلها، اكانت المتعة ام الخضوع ام التسيّد ام الإيلام، ام تقبل الألم… الخ، هي اسباب تتصل باللغة والشخص والشخصية من دون جدال. وحيث ان الشابة لا تبدي اي رد فعل على ما يجري من اي نوع، فإننا لا نعرف فعلاً ان كان القاضي يستعملها كشيء او آلة، ام انه يبثها حباً وهي تتلقاه. الآخرون في معسكر الاعتقال يتحولون شيئاً فشيئاً إلى جثث تتنفس، وتفوح منهم رائحة الجثث المتحللة. وتالياً لا يملك القارئ ولا الكاتب ولا الشخصية الرئيسية في الرواية نفسه عن ابداء الرغبة في انهاء هذه المعاناة، معاناة الجميع. وحيث ان الإصلاح يصبح مستحيلاً فإن الحل الأكثر انسانية الذي يمثل امام القارئ والكاتب والشخصية الرئيسية في الرواية هو تسريع موتهم، بوصفه انهاء لعذاباتهم مثلما يفعل الفارس مع الحصان حين ينكسر عظم ساقه. تسريع الموت قد يكون فعلاً تضامنياً إذا ما عمت رائحة العفن ممالك المقاومات الموعودة. اما الناجون، فهم يشبهون تلك الشابة التي لا تملك لساناً لتعبر به عما يجول في خاطرها، ولا تستطيع ان تسعى وحدها لأن اطرافها تعجز عن مجاراة ما تبتغيه. وحيث انها مقطوعة من سياقاتها وامكنتها الأليفة، فهي بهذا المعنى تتحول منفية بلا امل في العودة من منفاها، بما يجعل اي محاولة لقطع الصمت الذي تلوذ به غير مجدية وغير ذات معنى لأنها لن تعيدها من منفاها إلى حيث كانت.
الأرجح ان التضامن مع هذه البلاد يتحول يوماً بعد يوم إلى عمل شائك وصعب، ونحن نعرف ان الحروب القادمة قد تحولنا إلى برابرة كويتزي، وقد نعجز بعد ذلك عن اي تعبير حتى ولو بالصمت.
المستقبل
تعليق واحد