صفحات مختارة

في المخاطر التي تهدد الأمنين الاجتماعي والسياسي العربيين

د. منى فياض
المخاطر تعريفا: هي التعرض لخطر ما، مرتبط بوضعية أو نشاط معين. لكن الاهتمام بالتقليل من المخاطر أمر مختلف عن التقليل من الخطر. ففي ظلّ العولمة اختلفت النظرة الى المخاطر الآن، ولم تعد تدرك كحتمية لا رادّ لها، كما كانت من قبل عندما كانت ترتبط بالكوارث الطبيعية وكان لها طابع قدري.
المخاطر تعيّن إمكانية خطر معين، مرتبط بحدث أو مجموعة أحداث، قابلة للوصف ولا نعرف ما إذا كانت ستحصل أم لا، لكننا نعرف أنها قد تحصل في وضعية معينة.
كرست حقبة التسعينيات من قبل الأمم المتحدة للتقليل من المخاطر، فتكاثرت المنشورات حول إدارتها، وتركز الانتباه على إعادة تعريف المفاهيم والمنهج. وتم الانتقال من الأنموذج الإرشادي، الذي كان يعتبرها كمصادفة ومهددة للمجتمع من خارجه، فصارت تعتبر كمنتج اجتماعي يتمايز بوضوح عن الحادث أو الكارثة.
يمكن أن تدخل عوامل عدة لحجب الإدراك الجماعي للمخاطر في وضعية معينة مثل التفكير الزائف، أو الأوهام. كذلك يدخل عامل البعد النفساني على مستوى الأفراد والبعد الثقافي على مستوى الجماعة. فما هي المخاطر التي تهدد مصيرنا؟
{ أولها خطر الإرهاب: حيث شكلت ردة الفعل المهللة والشامتة في العالم العربي والإسلامي للتفجيرين، اللذين استهدفا برجي التجارة العالمية في 11 سبتمبر، صدمة للمواطنين الأميركيين والغربيين عامة، ما جعل الكثيرين يتساءلون: هل هذه الشعوب محبذة للعنف ومتعطشة للدماء، بحيث إنهم يفرحون لمقتل المئات من الأبرياء، بمن فيهم مواطنون لهم؟ هل ثقافتهم هي ثقافة عدوانية وكراهية وانتقام؟
لا يمكن أن نفهم ردة الفعل هذه إذا قصرنا رؤيتنا على العامل الديني أو الثقافي، وتعاملنا معهما كماهيتين ثابتتين جامدتين، مهملين العوامل المنوّعة الأخرى. لذلك لا يمكن إغفال العوامل السياسية التاريخية والاجتماعية والنفسانية والاقتصادية في محاولتنا لفهم الأمور.
ما الذي جعل إذن ردة الفعل هذه ممكنة؟ ما الذي يحدو بمئات الشبان إلى تحويل أنفسهم قنابل موقوتة يفجرونها وسط أبرياء في غالب الأحيان؟ لكن هل يمكن الحديث عن خطر الإرهاب من دون الإشارة إلى السبب الذي شكل المخاطرة الأولية والأساسية، والذي شكّل الخلفية والحاضنة لهذا الإرهاب؟ وهل يمكن أن نواظب على الخلط بين الإرهاب الذي يطول أبرياء والمقاومة المشروعة التي تتوجه لأهداف عسكرية؟
{ الاحتلال كمهد للمخاطر: تجدر الإشارة إلى أن أزمة الهوية الوجودية عند العرب ليست طارئة، بل هي مطروحة بشدة في العالم العربي منذ تفكك الإمبراطورية العثمانية، حيث أصيب الفكر الإسلامي بصدمة عنيفة بعد انهيار الخلافة الإسلامية. ويظل حلم العودة إلى الإمبراطورية العربية أو الإسلامية قائما، ويشكل أسطورة مؤسسة فاعلة. وجاءت صدمة احتلال فلسطين لتزيد من أزمة الهوية هذه.
شكّل هذا الاحتلال أكبر تحدٍّ للأنظمة العربية التي أظهرت عجزا فاضحا عن تحرير الأرض، كما في عدم القدرة على تدعيم استقلالها ونموها وتطوير بلدانها.
ولطالما يشكّل هذا تحدياً كبيراً للوجود العربي على المستوى الثقافي والرمزي، ويقف عائقاً حقيقياً أمام التطور، ولن يستطيع العالم العربي الإفلات من تداعياته بسهولة. إن عدوانية إسرائيل واستمرار احتلال الأراضي الفلسطينية، تشكل أحد أهم العوائق أمام التقدم في العالم العربي، الأمر الذي تنتج عنه مخاطر جسيمة على صعيد السلم العالمي.
{ من نتائج الاحتلال: هناك استغراب في العالم العربي والإسلامي من ألا تنطبق المعايير نفسها على الجميع، بما فيها إسرائيل! فتظل فلسطين محتلة، وشعبها مشرداً، ويُقبَل اغتيال قادتها من دون اعتراض أو محاسبة، بينما تطبق قرارات الأمم المتحدة في أماكن أخرى!!
لقد شكّل احتلال فلسطين الذريعة الدائمة والسهلة لتفسير الجمود الذي عمّ العالم العربي، ولجعله ينوء تحت ثقل الأنظمة الاستبدادية والأمنية وشبه العسكرية، وذلك من أجل هدف تحرير الأرض المحتلة، فكان على الشعوب العربية أن تؤجّل الانتخابات النزيهة، وأن تؤجّل التنمية والإصلاح الإداري، فتقبل تنامي نسب الأمية والبطالة وتتغاضى عن تفشي الفساد، وتؤجّل حصول المواطن على أبسط أنواع الحرية، أو الحاجات الأساسية، وأهملت قضية المرأة والاعتراف بحقوقها المساوية للرجل، متجاهلين انعكاس ذلك على تأخر التنمية للمجتمعات العربية ككل.
ربما لذلك كله نجد أن منطقة الشرق الأوسط من أكثر المناطق معاناة للصراعات المسلحة. فهناك 10 بلدان عربية تعاني، إما من حرب أهلية وإما من نزاع مسلّح، ما يزيد من مخاطر الفرص الضائعة في التعليم والنتائج الكارثية لها.. وكذلك ما ينتج عنها بحسب تقرير التنمية للعام 2005: «يكوّن التعليم إحدى لبنات التنمية البشرية. فهو ليس مجرد حق أساسي، بل هو الأساس للتقدم في مجالات أخرى؛ بما في ذلك الصحة والتغذية وتطوير المؤسسات والمجتمع الديمقراطي. غير أن النزاعات تقوّض هذه الأسس، وتسهم في خلق الظروف التي تؤبّد العنف». يزداد الأمر سوءا عندما تتزايد أعداد العاطلين عن العمل لكي تبلغ في إحصاءات منظمات الأمم المتحدة 40 مليونا قبل الأزمة الاقتصادية العالمية. ويشكّل الشباب أكبر نسبة بينهم. ومن مخاطر البطالة أنها تؤدي إلى التهميش والاستبعاد والإحباط وتدنّي احترام الذات، ما يؤدي إلى خلق أعباء ثقيلة على المجتمع وإمكانية تطوره.
{ الأصوليات والحركات الإسلامية: كرامة العربي المهدرة تجعل الهروب من الواقع الأليم واللجوء إلى الدين الإسلامي مصدراً لإثبات الذات والهوية. فالهوية مرتبطة «بالاعتراف»؛ وتزيد العولمة من الحاجة إلى هذا الاعتراف من الآخر، وإلا فإن غيابه يعد انتقاصا من احترام الآخر لحامل هذه الهوية، وتعدياً رمزياً يعمل كدينامو من أجل تأجيج الضغينة وطلب الثأر. يؤدي ذلك كله إلى سلوك متعصّب متشنّج يزداد ابتعاداً عن التسامح الذي كان بعداً أساسياً للدين الإسلامي في مرحلة ازدهاره، ويشكل أرضية لنمو الأصوليات.
وبهذا ينسد الأفق ويعم اليأس في ظل غياب أي جهد جدي للسعي لتسوية عادلة للقضية الفلسطينية، ويصبح خيار الفلسطيني المتاح، إما الإذعان أمام احتلال إسرائيل، وإما الفوضى والفقر والهجرة والتحول إلى ورقة في صراعات الآخرين.
وتتكرر صورة المفاضلة الإلزامية بين الخيارات السيئة لتطول معظم دول المنطقة العربية، فيصبح الأفق المسدود يتراوح بين: خيار استقرار الدول والأوطان تحت ظل سلطات مستبدة، تمارس البطش والعنف الداخلي، فتشرف على توزيع ما تستغني عنه لبعض الموالين لها، مهمّشة أوسع فئات شعبها، بعيدا عن أي مشاركة سياسية وأي مساهمة في التنمية والتقدم الاقتصادي.
وخيار آخر، هو سيادة منطق الجماعات السياسية الدينية والدعوة إلى القطيعة مع العالم، ومعاداة قيم حقوق الإنسان الفرد، والاحتكام للانتخابات الشكلية باقتراع الجماعات ككتل صماء انطلاقا من هويتها المذهبية وانتماءاتها العصبية.
باختصار، يتأرجح مستقبل العالم العربي بين فخّي الاستبداد، وهاوية الأصولية الظلامية، وتعيش المجتمعات العربية أسيرة التناوب المر بين الاحتلال والاستبداد والاحتراب الأهلي.

كاتبة من لبنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى