اتهامات المحكمة الجنائية.. بين الحقيقة وأكاذيب “أوكامبو”!
الطاهر إبراهيم
“محمد على الأتاسي” واحد من كتاب قلائل أحرص على قراءة مقالاته أنّى وجدتُها في صحيفة النهار أو في المواقع الإلكترونية، رغم اختلاف وجهات النظر بيننا، وهي اختلافات لا تنبع من ترف الاختلاف، بل في أمور جوهرية، وأرجو أن لا تفسد للود قضية.
فعندما اطلعت على المقال الذي نشرته له “النهار” في 24 آذار 2009 تحت عنوان “المحكمة الجنائية الدولية والبشير في: نقد ردود الفعل العربية” وجدت أن هناك ما ينبغي الرد عليه في هذا المقال. ومع أنه بذل مجهوداً في متابعته بعض القوانين الناظمة للموضوع، لكنه للأسف استحضر البعض منها وغض الطرف عن بعض آخر. وحتى التي استحضرها فقد أخذ بمآلات بعضها وأعرض عن مآلات البعض الآخر.
ليسمح لي الأستاذ “الأتاسي” أن أقتبس مما أورده في مقاله، مبتدئاً بالأسباب التي تمنع المحكمة الجنائية من أن يكون لها ولاية على جمهورية السودان، ثم أذكّر بالثغرات التي حاول “لويس مورينو أوكامبو” أن ينفذ من خلالها للإدعاء على الرئيس السوداني “عمر البشير”.
وبحسب الأتاسي، فأول ما يمنع من ملاحقة البشير أن المحكمة الجنائية لا ولاية لها على الدول التي لم توقع على اتفاقية “روما” الناظمة للأساس القانوني لهذه المحكمة. والعجيب أن الأتاسي عندما فوجئ بهذا العائق الذي يمنع من ملاحقة “البشير” كون السودان -هي ومعظم دول المنطقة باستثناء الأردن وجيبوتي – لم يوقع على اتفاقية روما، حاول أن يهرب بقوله (لندع الجواب على هذا التساؤل جانباً). فلماذا هذا الهروب؟ فيما بعد سنحاول أن نعرف لماذا هرب؟
لكن “الأتاسي” لم يستسلم. فعاد ليذكرنا بالحالات التي يستطيع المدعي العام فيها الملاحقة، قال:
(وعليه فإن اختصاص المحكمة وولايتها القانونية التي تبدأ من تاريخ إنشائها في العام 2002 محددة بنقطتين رئيستين: أن يكون المتهم 1-مواطناً في دولة عضو 2- أو أن تكون الجريمة واقعة على أراضي دولة عضو).
ولأن أياً من هذين الشرطين لم يكن متحققاً في حالة السودان كي يسعفاه بالوصول إلى ملاحقة الرئيس “البشير” التي يظهر أن الأتاسي يريدها بأي ثمن ولو كان على حساب الحقيقة، لأسباب سنعرفها فيما بعد، فإنه لجأ إلى الاستثناء وهو بحسب “الأتاسي”: (والاستثناء الوحيد في هذا المجال هو أن يحيل مجلس الأمن إلى المحكمة جريمة واقعة خارج نطاق الدول الأعضاء في المحكمة، وهذا بالضبط هو حال السودان غير الموقع على اتفاقية روما).
وإذ سلّم “الأتاسي” أن السودان غير خاضع لولاية المحكمة الجنائية لفقدان الشرطين اللازمين: (أن يكون المتهم مواطناً في دولة عضو أو أن تكون الجريمة واقعة على أراضي دولة عضو)، حاول أن يلجأ إلى الاستثناء أعلاه. ولأنه يعرف أن هناك أكثر من عشرين دولة متورطة في جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية على رأسها أمريكا و”إسرائيل” (وإن كانتا غير موقعتين على اتفاقية المحكمة الجنائية)، فإن الأتاسي قبل عذر “أوكامبو” عن عدم ملاحقته الإسرائيليين، بأنه قال لقناة العربية في 4 آذار 2009: (السلطة الفلسطينية قدمت طلباً للتحقيق في جرائم الحرب على غزة ونحن ننتظر الأدلة التي يمكن أن توفرها مع الجامعة العربية للمضي قدماً بالتحقيقات وتقييم الوضع، لأن جرائم الحرب في غزة كانت فظيعة). لكن “الأتاسي” نسي أو تناسى أن مندوبين “نروجين” لتقصي الحقائق رفضت مصر السماح لهم أن يعبروا معبر رفح إلى غزة. أما السلطة الفلسطينية فما عدنا نسمع لها صوتاً في متابعة الأمر، وهي على كل حال أمرها بيد واشنطن. فلو كان “أوكامبو” جاداً بملاحقة الإسرائيليين لاعتمد اعترافات الإسرائيليين للإعلام الإسرائيلي حيث أكدوا أن الأوامر أعطيت لهم لاستهداف المدنيين والنساء والأطفال. شهادات هؤلاء أكثر صدقاً من شهادات “فبركتها” لجان الإغاثة الأوروبية في دار فور.
ولأن الرئيس “البشير” يتمتع بحصانة دبلوماسية دولية بحكم منصبه. حاول الأتاسي الوصول إليه باعتباره شخصاً عادياً فماذا قال؟: ((إن المحكمة الجنائية الدولية قامت أساساً لمحاكمة الأفراد لا الدول، وذلك بمعزل عن صفتهم الاعتبارية. ونتيجة لكون هؤلاء الأفراد المتورطين في جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية غالباً ما يتبوءون مناصب قيادية عليا في الدولة أو الجيش أو الجماعات المسلحة، فإن اتفاقية روما أشارت صراحة إلى عدم حصانة رؤساء الدول والقادة العسكريين حيث نصت المادة (27) على عدم الاعتداد بالصفة الرسمية)). لكن الأتاسي قفز فوق المادة (27) فلم يذكر لنا ماذا قالت؟ لنراه يقفز إلى المادة (28) التي (تنص صراحة فقرتاها الرئيسيتين على أن: ((1-يكون القائد العسكري أو الشخص القائم فعلاً بأعمال القائد العسكري مسئولاً مسئولية جنائية عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة والمرتكبة من جانب قوات تخضع لإمرته وسيطرته الفعليتين، أو تخضع لسلطته وسيطرته الفعليتين، حسب الحالة، نتيجة لعدم ممارسة القائد العسكري أو الشخص سيطرته على هذه القوات ممارسة سليمة.
أ) إذا كان ذلك القائد العسكري أو الشخص قد علم، أو يفترض أن يكون قد علم، بسبب الظروف السائدة في ذلك الحين، بأن القوات ترتكب أو تكون على وشك ارتكاب هذه الجرائم.
ب) إذا لم يتخذ ذلك القائد العسكري أو الشخص جميع التدابير اللازمة والمعقولة في حدود سلطته لمنع أو قمع ارتكاب هذه الجرائم، أو لعرض المسألة على السلطات المختصة للتحقيق والمقاضاة)). ونحن نؤكد أن ما ورد في هذه المواد أمور غائمة يفسرها كل محقق على هواه، حيث ليس في ما تقدم ما يشير صراحة إلى مسئولية رئيس الجمهورية من قريب أو بعيد. لذلك رأينا الأتاسي “يلوي” أعناق الكلمات لكي يصل إلى إلباس الرئيس “البشير” التهمة. لنتابع:
((-2 فيما يتصل بعلاقة الرئيس والمرؤوس غير الوارد وصفها في الفقرة (1)، يُسأل الرئيس جنائياً عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة والمرتكبة من جانب مرؤوسين يخضعون لسلطته وسيطرته الفعليتين نتيجة لعدم ممارسة سيطرته على هؤلاء المرؤوسين ممارسة سليمة)) ولا أدري إن كان الكلام بين الهلالين أنفاً كله أو بعضه من فقرات المحكمة أو من عند الأتاسي، مع ذلك فسأعتبر أنها من صلب مواد المحكمة، لنتابع:
((آ- إذا كان الرئيس قد علم أو تجاهل عن وعي أيَّ معلومات تبين بوضوح أن مرؤوسيه يرتكبون أو على وشك أن يرتكبوا هذه الجرائم.
ب) إذا تعلقت الجرائم بأنشطة تندرج في إطار المسؤولية والسيطرة الفعليتين للرئيس.
ج) إذا لم يتخذ الرئيس جميع التدابير اللازمة والمعقولة في حدود سلطته لمنع أو قمع ارتكاب هذه الجرائم أو لعرض المسألة على السلطات المختصة للتحقيق والمقاضاة)).
ما ورد آنفاً من فقرات كلام غائم، يترك للمدعي والقضاة أن يفسروها على هواهم. ولا أدري كيف يمكننا أن نتأكد أن فقرات أ، ب، ج تنطبق على الرئيس “عمر البشير” أو كيف استطاع البوليس السري “أوكامبو” من أن يتأكد أن الجرائم المرتكبة تندرج في إطار مسئولية “البشير” أو أن “البشير” علم أن مرؤوسيه ارتكبوها، وأنه لم يتخذ تدابير لمنعها.
يعقب الأتاسي على ما أورد من مواد فيقول: ((من هنا فإن الاتهامات الخطيرة الموجهة لعمر البشير بارتكاب جرائم ضد الإنسانية من وجهة النظر القانونية، لا تستند فقط إلى وقائع وأدلة ميدانية محددة، ولكنها تبنى كذلك على نصوص قانونية واضحة وصريحة)). هذا كلام خطير واتهامات فظيعة. فكيف تأكد الأتاسي أنها تستند إلى وقائع وأدلة ميدانية محددة؟ أم لعل أوكامبو أطلعه على شهادات الشهود التي استند إليها في اتهامه الرئيس البشير؟ بل الحقيقة أن الأتاسي يحمل في صدره حقداً على كل ما هو إسلامي. وهذا هو سبب هجومه الشرس على “البشير”.
كما أن المواد التي ساقها الأتاسي مواد غائمة، لا يمكن التأكد من نسبتها أو عدمها إلى المتهم.
نذكّر هنا أنه في محكمة “لوكربي” تم الاعتماد على أدلة متهافتة لإثبات التهمة على المواطن الليبي “المقراحي”: فقد (ادعى المحققون الإنجليز والأمريكيون أن القنبلة التي استخدمت في التفجير كانت موضوعة في حقيبة بها ملابس داخلية. كما ادعت أن هذه الملابس لم تحترق في الانفجار، (هذا يذكرني بجواز سفر محمد عطا الذي لم يحترق في تفجيرات برجي التجارة) بل ظلت على ما هي عليه. وأنه بفحص هذه الملابس تبيّن أنها مشتراة من محل تجاري في “مالطا”. وقد قام المحققون بزيارة المحل الذي تم شراء هذه الملابس منه، فالتقوا بصاحبه، وهو رجل عجوز. وقد ادعى هذا العجوز أن الذي اشترى هذه الملابس بذاتها هو شخص ليبي) (يمكن الاطلاع في google على ما أوردناه آنفا، تحت “لوكربي”). وهذا كان دليلاً أساسياً في قناعة القضاة ليحكموا بالسجن المؤبد على “عبد الباسط المقراحي” الذي يقبع في سجنه الآن. وبالتداعي فقد دفع “القذافي” لأهالي قتلى “لوكربي” مليارات الدولارات خوفاً على كرسيه من أن تزيحه عنه واشنطن. أما “المقراحي” المسكين فهو يعاني من السرطان. “البشير” عقوبته عند واشنطن أكبر، فيما لو استطاع “أوكامبو” اعتقاله. لكن من هو “أوكامبو” هذا؟:
فقد ذكرت صحيفة الحياة في 18/7/2008 (أنه متورط بالتحرش الجنسي بصحافية من جنوب أفريقيا، أخذ مفتاح سيارتها ورفض أن يعيده إليها ما لم تقبل بممارسة الجنس معه. “وقد نفت الصحفية أن تكون قد أُرغمت على ممارسة الجنس مع أوكامبو، لكنها لم تنف أنها وافقت على القيام بذلك لكي تسترجع مفاتيحها”). هذا هو “أوكامبو” المدعي العام الذي أخذ “الأتاسي” على محمل الجد: (الاتهامات –أعلاه- الموجهة للرئيس “البشير” بارتكاب جرائم ضد الإنسانية من وجهة النظر القانونية). ورغم تهافت اتهامات الأتاسي فهو يتهم كتاباً عرباً لأنهم لم يصدقوها.
اتهامات خطيرة، ولكن؟:
المطلعون على جوانب الحرب المستعرة في دارفور -بين الأفارقة السودانيين وهم مسلمون، وبين “الجنجويد”، وهم سودانيون مسلمون عرب رعاة- هي حرب مؤسفة، تتدخل فيها أصابع أجنبية تطمع بالبترول والمعادن المكتشفة في دار فور. ومما هو مؤكد أنه إذا اعتقل الرئيس “البشير”، فسوف تلتهب الحرب في دار فور، وسيحاول الجنوبيون الانفصال والاستيلاء على البترول في المناطق المحايدة، وسيتم تقسيم السودان بعد تدخل دولي لإنهاء النزاع.
* كاتب سوري
المركز الإعلامي لجماعة الأخوان المسلمين في سورية