إعادة التموضع: “الإخوان المسلمون” نموذجاً
محمد سيد رصاص
في 7 كانون الثاني 2009 أعلنت “جماعة الإخوان المسلمين” في سوريا عن”تعليق أنشطتها المعارضة “للسلطة السورية، وبعد شهر من ذلك أعلن المراقب العام للجماعة السيد علي صدر الدين البيانوني”أننا نعيد تقويم تحالفاتنا بشكل دوري في ضوء المتغيرات والمستجدات” (مقابلة مع “قدس برس”، 12 شباط 2009).
يسدل هذا ستار الخاتمة على فصل طويل من تاريخ “الإخوان المسلمين” السوريين، ومن مسيرة المعارضة السورية بشكل عام، بدأ في 8 أيار2001 لما نُشرت وثيقة “ميثاق شرف وطني” من قبل هذا التنظيم الاسلامي السوري المعارض في”قضايا النهار”، كان من الواضح أنها تمثل انقلاباً فكرياً – مفاهيمياً عند الأصوليين الاسلاميين السوريين، إلى درجة دفعت الأستاذ جهاد الزين (“النهار”، 9 أيار2001)، في مقالته “مقارنة بين وثيقتين سوريتين”، الى اعتبار كاتب النص الإخواني أنه “أكثر غربية من حيث دقة التوصيف لـ (الدولة الحديثة) مما هو كاتب نص (المثقفين السوريين)”، في إشارة الى نص”عقد اجتماعي وطني” (14 نيسان 2001) الذي أصدرته (لجان احياء المجتمع المدني).
هنا، لايمكن فهم تلك الوثيقة الإخوانية فقط أو أساساً من خلال نصها بذاته، بل يجب ملامسة هذا النص من خلال أبعاد أربعة (السلطة – المعارضة – المجتمع – فشل العنف الإخواني في أحداث 1979 – 1982) أتى نص الوثيقة ليحاول تقديم الإخوان المسلمين السوريين في صورة جديدة، تختلف عمّا ظهروا عليه في تلك الأحداث الدامية، لتقديمها إلى تلك الأطراف السورية الثلاثة معاً، أولاً الى السلطة لما انتهجوا مع العهد الجديد، إثر وفاة الرئيس حافظ الأسد في 10 حزيران 2000، سياسة اعتدال وتقرّب، وإلى أطراف المعارضة الأخرى من خلال تبني مقولة الديموقراطية والإبتعاد عن مقولات ومفردات الخطاب الإخواني السوري في السبعينيات، والذي كان أقرب الى سيد قطب (ليس فقط عند الشيخ مروان حديد وإنما أيضاً عند العديد من قيادات التنظيم العام مثل الشيخ سعيد حوا) منه الى اعتدال ووسطية مراقب الإخوان السوريين في الخمسينيات الشيخ مصطفى السباعي، وثالثاً الى المجتمع السوري الذي كانت تنوعاته الدينية والمذهبية واتجاه مسلميه إلى الإنخراط القوي في مظاهر الحياة الحديثة على تناقض مع ذلك الخطاب الإخواني الذي طغى عليه التشدد والتطرف في تلك الأحداث السورية.
نجحت “جماعة الإخوان المسلمين” السوريين في تسويق صورتها الجديدة عند العديد من الأوساط المعارضة خلال السنوات الأربع التالية لتلك الوثيقة، ولم تنجح في ذلك مع السلطة الداخلة في صدام مع واشنطن بعد غزوها للعراق، رغم سياسات الإخوان المسلمين السوريين آنذاك”ضد المراهنة على الأجنبي”، مامثّل حالة تضاد مع سلوكات المعارضين العراقيين في مرحلتي غزو واحتلال 2003، بمن فيهم التنظيم الإخواني العراقي (الحزب الإسلامي) الذي شارك في “مجلس الحكم” الذي أقامه بول برايمر بعد ثلاثة أشهر من سقوط بغداد. والواقع أن اتجاه “جماعة الإخوان المسلمين السوريين” الى نبذ الإعتدال حيال السلطة، منذ بيان قيادتهم في 3 نيسان 2005، قد تلاقى مع اتجاه مماثل للتشدد عند العديد من المعارضين السوريين الآخرين، الذين ظلوا يراهنون لسنوات سابقة على سياسات متمايزة لـ”التيار الإصلاحي” عن التيار المحافظ” في العهد الجديد، وهو تلاقٍ لايمكن تفسيره بعوامل سورية داخلية زادت قوة النظام في المجتمع إثر وقوفه ضد غزو العراق واحتلاله بل بالأوضاع الإقليمية البادئة أولاً بعراق 2003 وصولاً إلى لبنان 2005، ومراهنة أولئك المعارضين السوريين على أن ماحصل في بغداد ضد صدام حسين ثم ضد السلطة السورية ومن والاها في بيروت 2005 لا بد من أن يجد ترجمة “ما” في دمشق.
بدون هذا، لايمكن تفسير سماح إدارة “منتدى جمال الأتاسي” بأن تلقى كلمة أرسلها السيد البيانوني في جلسة المنتدى المنعقدة في شهر أيار 2005 (ما أدى الى قرار السلطة بإغلاق المنتدى)، وبدون هذا أيضاً لايمكن تفسير كيف أن شهر أيار ذاك قد بدأت فيه أولى المسودات، التي قادت في 16 تشرين الأول 2005 إلى الوثيقة التأسيسية لـ”اعلان دمشق”، حيث كانت جماعة الإخوان مشاركة في صياغة المسودات المتتابعة، كتفاً بكتف، منذ البداية، ولواختار الجميع اعلان انضمام “الإخوان” إلى”اعلان دمشق” بعد ساعات قليلة من صدور تلك الوثيقة التي أعطى كاتبوها(وهم ماركسيون سابقون) محتوى اسلامياً لبعض النص يقال (على ذمة البعض) بأنه أكثر مماطلب السيد البيانوني، والتي كانت نبرتها “التغييرية” على تعاكس مع ماصرحت به السيدة كوندوليزا رايس في أيلول السابق بأن واشنطن تبغي”تغيير السياسات لاتغيير النظام”في دمشق، ولوأن الإتجاه العام لتلك الوثيقة، ومجموع القوى السياسية التي أسستها، لايمكن عزله عن اتجاه انتشر آنذاك في المنطقة الممتدة بين دجلة والنيل كان يراهن أصحابه على “القوة التغييرية” للمشروع الأميركي للمنطقة البادىء ببغداد، والذي دخل في تصادم علني مع دمشق منذ أيلول 2004، وحتى في أحيان عديدة مع الرياض والقاهرة في المرحلة اللاحقة للحادي عشر من ايلول 2001.
لم يكن التنظيم العالمي للإخوان المسلمين خارج هذا الجو خلال عام 2005، حيث بدأت آنذاك اتصالات السفارة الأميركية بالقاهرة مع القيادة المصرية لهذا هذا التنظيم، وسط تحول واضح عند الحزب الإسلامي العراقي منذ منتصف تلك السنة للإبتعاد عن قوى المقاومة العراقية بعد تردد استمرت سنتين بينها وبين “العملية السياسية”، وفي وقت أيضاً كانت تتكاثر فيه نصوص أميركية، من مراكز الأبحاث وفي الصحف، تتحدث عن اتجاه أميركي ل”تعميم نموذج أردوغان في العالم الإسلامي” كبديل من الأنظمة القائمة.
في الحقيقة، قاد هذا كله إلى أن يكون علي البيانوني أقرب إلى نموذج طارق الهاشمي منه الى نموذج خالد مشعل طوال عام 2005، وفاقم هذه الصورة (ولم ينقصها) اقترابه في 2006 من نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام وتشكيلهما ل”جبهة الخلاص” (4 حزيران 2006)، حيث لم يختلف النائب السابق عن المسؤولين العراقيين السابقين (مثلاً: حسين كامل المجيد، ووفيق السامرائي) في بحثهم عن “الخارج” للإستقواء به على نظامهم السابق.
ولكن، في نهاية صيف 2006، تغير الجو الشرق الأوسطي على إثر نتائج حرب تموز، ليصبح ملموساً أن مابدأ في 9 نيسان 2003 (يوم سقوط بغداد بيد الأميركيين)، كبوابة ل”إعادة صياغة المنطقة” من قبل واشنطن (وفقاً لتعبير الوزير كولن باول)، فقد قوة اندفاعته الهجومية منذ 14 آب 2006 وبدأ يتحول إلى وضع دفاعي وتراجعي أميركي في مواضع متعددة بالمنطقة خلال 2007 و2008: كان واضحاً، خلال العامين الأخيرين، أن لغة وسياسات السيد البيانوني لم تعد هي نفسها مثلما كانت في2005 و2006، وأنه متلمس للحقائق السياسية الجديدة، وأنه يبحث عن”الخلاص” من تحالفين دخلهما في العامين المذكورين، أصبح يدرك أنهما في حالة “موت سريري”.
لهذا، كانت خطوة “الإخوان المسلمين السوريين” في 7 كانون الثاني 2009 إعادة تموضع لموقعهم في خريطة المعارضة السورية ولو تم تسويغها من قبلهم بـ”رؤية الجماعة لأهمية الدور العملي المناط ببلدنا سوريا الدولة والشعب في مواجهة العدوان، ودعم المقاومة، وتعزيز صمود أهلنا في غزة”، اعادة التموضع ستقود (وقادت خلال شهرين) إلى ابتعادهم عن شركائهم في”اعلان دمشق” و”جبهة الخلاص”، وإلى اقتراب من مواقع أخرى، ربما يكون النظام أحدها، مثلما قاد “تجميد نشاط” حزب الإتحاد الإشتراكي في “اعلان دمشق”، أواخر 2007، إلى إعادة تموضع هذا الحزب عند موقع آخر في المعارضة السورية، باتجاه تأسيس تيار “الخط الثالث” عبر تشارك هذا الحزب مع “تجمع اليسار الماركسي” (تيم) وقوى وشخصيات رافضة ل”اعلان دمشق” ومعارضة للسلطة.
(اللاذقية)
( كاتب سوري)
النهار