صفحات سوريةعبد الرزاق عيد

النظام السوري : عطالة البنية واستحالة الإصلاح

null
د. عبد الرزاق عيد
الجزء الأول
النص الأصلي العربي للمداخلة التي قدمها الكاتب في معهد هيدسون الأمريكي في العاصمة واشنطن، وذلك في سياق المناقشات والحوارات الجارية-اليوم- حول ممكنات إصلاح النظام السوري ومن ثم مراهنة بعض الأوساط الأمريكية على عقد صفقة مع هذا النظام
أيتها السيدات والسادة :
لابد أنكم تعرفون أن بلدنا سوريا لم يكن منذ نصف قرن بلدا استثنائيا مثلما هو عليه اليوم، بل كان دولة تستند إلى الشرعية الدستورية التي يعود دستورها إلى سنة 1928، وكان يقوم نظامها على أسس نظام ديموقراطي برلماني، حيث الانتخابات الحرة ووجود برلمان حقيقي ممثل لكل أطياف المجتمع السوري،حيث تعدد الأحزاب والنقابات وقوانين ناظمة لوجودها، وصحف حرة ، وفصل للسلطات الثلاث، وحيث دولة القانون والقضاء المستقل: أي كان هناك مجتمع مدني ديموقراطي يسير باتجاه مزيد من الحداثة والانخراط في العالم من خلال التعددية والاعتراف بالآخر المختلف سياسيا واجتماعيا ودينيا ومذهبيا ، وذلك قبل الانتقال إلى ما سمي بالشرعيات الثورية الانقلابية التي قادها العسكر من أبناء الأرياف ضد المدينة والمجتمع المدني وقيم الحداثة والديموقراطية، منذ بداية الستينات مع انقلاب حزب البعث الذي يتأسس فكريا ونظريا على منظومتين شموليتين:
الأولى : قومية تقوم على تخيل ثقافي للماضي وفق نموذج عروبي عنصري قبلي، حيث نموذج ( البطولة الفتح والتوسع الامبراطوري) في الماضي العربي يعاد إنتاجها في الممارسة القومية البعثية في صيغة الغزو البيني كمعادل لثقافة الفتنة الداخلية عندما تعجز الأنا القومية عن المواجهة الخارجية ، وقد كان تشخيصه المعاصر في غزو (صدام حسين للكويت –غزو حافظ الأسد للبنان) بوصفه رسالة خالدة، وهذا ما يفسر لنا طموح النظام للتدخل في الجوار والإمساك بأوراقه :الورقة الفلسطينية واللبنانية ومن ثم العراقية ، وقد ودفع الفلسطينيون واللبنانيون والعراقيون ثمنا باهظا من الضحايا لا يقل عن ما قدمه الشعب السوري من عشرات آلاف القتلى (ألف30-40 ألف) ضحايا حماة، والمعتقلين والمساجين الذين لا يقلون عن هذا الرقم ، والمفقودين الذين يبلغ تعدادهم لوحدهم فقط 18ألف مفقودا… والمفهوم القومي لم يستند إلى ميراث الحركات القومية الديموقراطية كما عرفها التاريخ الغربي في صورة قيام الدولة الوطنية الديموقراطية الحديثة المؤسسة على مفهوم المواطنة والحريات ومبدأ استقلال وفصل السلطات، بل على مفهوم الدولة القومية الانقلابية العسكرية الريفية (الاستبدادية) التي تتعرف على ذاتها من خلال تعارضها مع الخارج، وما يتأسس على ذلك من ثقافة العداء للآخر ورفضه عبر تفعيل ثقافة الكراهية الموروثة من مراحل الهيمنة الاستعمارية ومن ثم استمرارها حتى بعد الاستقلال وخروج الاستعمار، وذلك لتشريع انقلابهم (الثوري) على الأنظمة الليبرالية(الرجعية) التي كانت ترفض الغرب استعماريا، لكنها تقبله تتعايش معه وتتفاعل حضاريا وثقافيا ومدنيا كونيا، وذلك هو المبدأ الأول الذي أسس لإلغاء السياسة ومن ثم اضمحلال الدولة لصالح تغول السلطة وتهميش المجتمع عبر تحطيم حراكه الاجتماعي بتحطيم طبقاته الوسطى والذي مؤداه القضاء على الكفاءات ومن ثم هجرة الأدمغة لصالح الموالين للنظام حزبيا ومن ثم عشائريا وعائليا وراثيا وطائفيا، يترتب على ذلك هيمنة روح العزوف واليأس التي مؤداها انتشار ثقافة العنف والكراهية والخوف والانتقام وفي المآل ثقافة الإرهاب … ولعل هذا ما يفسر لنا سر انخراط النظام في الجرائم الدموية ضد شعبه والمحيط المجاور(سلسلة الاغتيالات في لبنان بدءا من المغدور الحريري وصولا إلى إرسال الانتحاريين للعراق خوفا من مستقبله الديموقراطي)، بل ورفضه للعدالة الدولية وتشجيعه المجرمين الآخرين (البشير) على رفضها باسم السيادة القومية القائمة على مفهوم تعريف سيادة الذات برفض الآخر وعداوته، وليس مفهوم السيادة المستمد من الشرعية الدستورية وتمثيل الشعب عبر المؤسسات الديموقراطية …تلك هي قوة النظام التي تتداولها بعض الأوساط الأمريكية والغربية في دعوتها للدفع بالمسار التفاوضي السوري على حساب المحور الفلسطيني الذي يفترض أنه ضعيف حسب أراء بعض النخب الأمريكية …إن قوة النظام السوري هي قوة نظام أمني –عسكري –طائفي لا يختلف عن طبيعة قوة نظام صدام حسين الأمنية –العسكرية- الطائفية التي انهارت بأيام … وهي أقل بكثير من القوة العسكرية والأمنية السوفيتية التي سقطت أمام بضعة مئات بسبب التآكل الداخلي فسادا والعطالة الداخلية ركودا كما يحدث في سوريا،
فالنظام السوري لا يمثل أية قوة اجتماعية أو شعبية أو تمثيلية …لماذا لا يمتحن العالم قوته المدعاة بمطالبته بالبرهان: عبر القبول بالانتخابات بمراقبة الأمم المتحدة للتأكد من صحة قوته الشعبية الدستورية وليست قوته الأمنية والعنفية عبر رعايته لكل المنظمات الإرهابية في المنطقة وتهديده الدائم للأمن والاستقرار في المنطقة لابتزاز المجتمع الدولي والدول العربية، مما يبدو في عين بعض المراقبين الخارجيين الداعين لسياسة الصفقات أنها قوة النظام وليست إرهابيته ….
-والمنظومة الشمولية الثانية التي استند إليها النظام: اشتراكية وجدت في النموذج الستاليني مثالها ونموذجها المستقبلي الأعلى، عبر دمجه بالشمولية القومية التي استلهمت من النموذج (الفاشي) خلال الحرب العالمية الثانية ، والمفارقة هنا أن جذور شجرة التجربة الاشتراكية الستالينية التي جفت وتيبست في النموذج الأصل (السوفييتي)، ظل النظام الشمولي مصرا على اعتبار نفسه غصنا قابلا للحياة رغم جفاف الجذور في التربة الأصل، ولعل هذه المفارقة هي التي تفسر الموت العنيف للنموذج البعثي العراقي الصدامي الذي رفض موته الطبيعي، وهو الموت الذي يهدد النظام به الشعب السوري من المصير العراقي، فهو لا يقبل الموت الطبيعي لنموذجه الهالك، بل يهدد الناس بعواقب موته في صورة الدمار العراقي … وهكذا يكون على شعوبنا أن تعيش في ظل كوابيس رعب ممارسات النظام وما يمكن أن يجره هذا النظام على رأس شعبه من ويلات الحروب بسبب سياساته الخارجة على القانون الطبيعي للحياة والموت، والخارجة على القانون الدولي الذي ينظم شؤون المجتمع الدولي، والذي أصبح الخيار الوحيد أمام شعوب العالم تجاه التغول الفظيع للأنظمة الديكتاتورية التي تخوض حروب الإبادة الشاملة ضد شعوبها كما هو عليه وضع النظام السوري الذي يحبس عددا من الشباب لتأليفهم جمعية للدفاع عن البيئة والنظافة(قضية شباب داريا) !
إن كلتا الشموليتين كانتا متكاملتين ومن ثم متطابقتين، وذلك لأن التطلع بإعجاب وحنين استلهامي إلى نموذج بطولة الغزو الإمبراطوري (العربي- الأموي) الذي انحل إلى مستوى غزو داخلي باسم (التوحيد القومي كمثال (احتلال الكويت ولبنان قوميا بعثيا) على اعتبار أن النظامين لا يعترفون بكيان الدولة العربية الوطنية … فأتت المنظومة الشمولية الاشتراكية الستالينية لتعزز أوهام المتخيل العروبي القومي بالمتخيل الاشتراكي الطبقي في صناعة ثقافة الكراهية للعالم الحديث في صورة الغرب، لتضيف هذه الشمولية إلى برنامجها في صناعة العدو القومي، صناعة عدو طبقي يضاف إلى العدو الاستعماري، حيث في النموذج الأول سيتبدى الغرب بوصفه (استعمارا) وفي الثانية سيتبدى الغرب بمثابته (امبريالية).
-المنظومة الشمولية الإسلامية : حيث أن البعث الذي فقد فعالية التعبئة والشحن الايديولوجي في صناعة العدو القومي والطبقي ، سيلجأ لاحقا إلى المنظومة الشمولية للإسلام : (الجهادي والتكفيري ) ليضيفها إلى ترسيمته الفكرية في صناعة صورة العدو الضروري دائما لقمع أية معارضة ديموقراطية داخلية، هذه الإضافة ستبدو ضرورية كتعويض عن فتو رقوة الدفع للشموليتين السابقتين : القومية العنصرية والاشتراكية الستالينية ، ليكتسب الغرب(العالم) بعدا جديدا للعداوة والكراهية، حيث سيتمثل البعد الإسلاموي الشمولي التكفيري الجديد في صيغة الغرب : (الصليبي- الكافر- دار الحرب)، وهكذا سيغدو لدينا مركب ثقافي عدواني هائل في درجة امتلائه بثقافة الكراهية نحو الآخر في صورة الغرب الذي ستصبح له صفات ثلاث : استعمار قومي – امبريالية طبقية- عدو ديني صليبي كافر ليس بيننا وبينه سوى الحرب ، وهذا ما يفسر موقف الحركات الاسلامية في دعمها للنظامين البعثيين في العراق سابقا وسوريا لاحقا في صيغة (المؤتمر القومي الإسلامي) ، وهذا ما يؤكد كذبة تهديد النظام السوري بأن بديله هو الأصولية في حين أن حلفاءه اليوم هو كل الأصوليات القومية والإسلامية )
وإذا كان الغرب يمثل عبر ثلاثة قرون المنظومة الليبرالية الديموقراطية ، حيث حريات التعبير والتفكير تنهض فيه انطلاقا من مبدأ الاعتراف بذات الفرد بوصفها نواة أي نظرة للجماعة، عندها فإن هذه المفاهيم الديموقراطية ستشكل العدو الأكبر للايديولوجيا البعثية : ( قوميا وطبقيا ودينيا)، ولذلك فهي تبدأ حربها الضروس ضد مبادئ الحريات والديموقراطية وحقوق الانسان في بلادها، أي محاربة أي مظهر من مظاهر حضور الغرب الليبرالي الديموقراطي التعددي في النسيج الثقافي والسياسي لمجتمعاتها، وهي إذ تمارس هذا التطهير (العرقي) الثقافي الايديولوجي عبر تنمية (ثقافة الكراهية) فإنما هي تقوم بحرب تعويضية عن هزائمها السياسية والثقافية والحضارية أمام حداثة الغرب الذي راح منذ قرون يتحول إلى حاضرة كونية …
-المنظومة الشمولية الطائفية : كان لابد للنظام الشمولي القومي الذي لا يعترف بالدولة الوطنية القائمة على مبدأ المواطنة الحقوقية الديموقراطية، من أن يحل مبدأ العقائدية الحزبية والعسكرية والطبقية الاشتراكية محل مبدأ المواطنة المؤسس لمفهوم دولة القانون الحديثة، فكان لابد أن تحل الجزئية الحزبية محل الكلية الوطنية، والجزئية الريفية والطائفية (طبقيا) محل الكلية المجتمعية (وطنيا)، وباسم هذه المنظومة تم تطهير الجيش السوري وقوى الأمن من أبناء المدينة (البورجوازية) ليغدو جيشا عقائديا، فأصبح جيشا طائفيا لم يعد يخوض سوى معارك الداخل ضد الشعب السوري وضد الجوار اللبناني والفلسطيني وكل من لا ينصاع لسياساته التسلطية ومشاريع إمساكه كل الخيوط الإقليمية في المنطقة وذلك بالتعاون والتنسيق مع اسرائيل التي تدعمها الولايات المتحدة دعما مطلقا، ولذلك فإن أي مشروع ديموقراطي جدي في المنطقة يجب أن يبدأ بموقف امريكي حاسم إلى جانب الشعب السوري والعربي لفك هذا الارتباط والتحالف السري بين النظام السوري والإسرائيلي في محاربة طموحات شعوبنا للتحرر والانعتاق من الديكتاتوريات، وذلك من خلال تواطئهما تحت صيغة : ضمان أمن النظام مقابل التخلي عن السيادة السورية على الجولان، ومن ثم ضمان عدم اقلاق الاحتلال الإسرائيلي عبر منع الشعب السوري من امتلاك سيادته الدستورية والوطنية على أراضيه، لأن اليمين الاسرائيلي المتطرف يعتبر أن مكسب الديموقراطية العالمي والإنساني ينبغي أن يبقى امتيازا إسرائيليا يتيح لها التفوق الدائم على محيطها العربي المتخلف ومنع شعوبنا دون هذا الخيار لضمان تفوقها الدائم أبدا …
إن المنظومة الشمولية الطائفية هي الوجه التفتيتي الآخر للكلية (القوموية) الشمولية التي ترفض مفهوم المواطنة إذ تحفر تحت مفهوم الدولة الوطنية أو تسبح في سديم ما فوق الدولة، وهي في استنادها إلى هذا المنظور إنما تفعّل الصراعات المذهبية مع حليفها الإيراني بحثا عن قواعد طائفية يستند إليها في حماية بقائه بعد أن غدا عبئا على الوطن والمجتمع الوطني والعربي والدولي، بل وعلى طائفته ذاتها التي يدفعها إلى تحالفاته الطائفية مع نظام ولاية الفقيه في إيران ولبنان، لزج الطائفة الشيعية في لبنان بمعركة لتحقيق رغباته في الفرارمن العدالة الدولية (المحكمة الدولية :واغتيال الحريري)، والمطامح الإقليمية الإيرانية، عندما أوعز للطائفة الشيعية ممثلة بحزب الله في احتلاله الطائفي لبيروت، وكما يفعل في سوريا من خلال تخويف طائفته (العلوية) الكريمة من محيطها الوطني، ومحاولته لربط مصيرها مع مصيره الآيل للسقوط الحتمي لما راح يتبدى عنه من سلوك شاذ وإستثنائي في نادي المجتمع الدولي، إذن يسعى النظام لربط مصير طائفته بمصيره المشؤوم، بالضد من وحدة مصيرها الوطني مع أهلها ومجتمعها وشعبها من الطوائف الأخرى …!
الجزء الثاني
إن هذه التوجهات العدوانية والممارسات التخريبية وإشاعة مناخات العنف والقهر والفساد المعمم وتهشيم الوحدة الوطنية عبر الممارسات الطائفية والعائلية على مستوى الداخل في مجتمعاتها هي التي ستمهد لثقافة (الإرهاب) تجاه العالم الخارجي وبالخصوص تجاه (الغرب الديموقراطي) .
ومع الأسف فإن الغرب وقف محايدا بل وفي أكثر الأحيان داعما ومساندا لهذه الأنظمة الشمولية المستبدة مادامت لم تصله شرورها الطغانية ، وذلك باسم الحفاظ على الاستقرار في البلدان النامية ، لكن في الحقيقة كانت مواقف الغرب تتحدد بدافع مصالحه المؤقتة والراهنية السريعة التي تجاهلت حقيقة أن هذه الأنظمة تشكل التربة الخصبة لازدهار أزهار الشر والعنف والتطرف والكراهية والإرهاب، هذه الحيادية الغربية استغلتها هذه الأنظمة لتقوية مخالب الطغم والعصابات التي شكلتها على حساب انحلال الدول الوطنية التي قامت بعد الاستقلال، بعد أن تحولت عصابات اللصوص والفساد إلى سلطات غاشمة تمارس العدوان والابادة في الداخل والإرهاب في الخارج.
لقد كانت نظرة شعوب المنطقة العربية إلى العالم الغربي في مرحلة ما قبل الاستعمار وما بعد الاستقلال، أي : قبل انتشار وباء هذه الفاشيات المحلية المتعددة المشارب (قومية –دينية –طبقية)، نقول: لقد كانت نظرة جدلية ترى الوجوه المتعددة للغرب : فهناك وجه الغرب الاستعماري المرفوض، وهناك الوجه الحداثي والديموقراطي المرغوب، بل نظر مفكرو المرحلة الوطنية الليبرالية إلى الاستعمار الغربي بوصفه تحديا حضاريا لا يمكن الانتصار في معركته إلا بامتلاك تفوقه، أي تفوق الغرب السياسي (الديموقراطي الليبرالي) والثقافي (العقلاني الحداثي) والعلمي (التقني والتجريبي) ، أي اللقاح بميكروب أوربا للحاق بأوربا وتجنب الاستلاب تجاهها في آن معا، عبر انتاج الجدل الحضاري معها كما كان يعبر الفكر النهضوي الليبرالي العلماني (طه حسين مثلا ) والإصلاحي الإسلامي (الإمام محمد عبده مثلا) .
ولهذا ما أن خرج الاستعمار من بلادنا، حتى شرعت النخب الوطنية التي قادت النضال من أجل الاستقلال في بناء الدولة الحديثة : القانونية الديموقراطية البرلمانية القائمة على الشرعية الدستورية ، ومن ثم فصل السلطات واحترام الحريات السياسية وحقوق الإنسان، والتداول السلمي للسلطة عبر صندوق الاقتراع، ومن ثم الانتظام في إطار الشرعية الدولية، دون عقد الدونية القومية، أو التعالي (الشوفيني) العنصري، أو الانخراط في أحلاف تؤجج العداوات الإقليمية والقومية، كل ذلك الاعتدال والعقلانية كانا يمارسان في ظل التأكيد على الثوابت الوطنية والقومية قبل أن تقوضها (الهمروجات) الشعارية الغوغائية الانقلابية الشعبوية الرثة.
هذه المنظومة من المفاهيم هي ما سعى المثقفون السوريون في إطار حركة المعارضة الديموقراطية أن يتبنوها من خلال البيان 99، ومن ثم ما سمي بوثيقة الألف التي أطلقتها لجان إحياء المجتمع المدني منذ سبع سنوات بعد موت الديكتاتور الجنرال حافظ الأسد ، الذي أتاح موته المراهنة على ممكنات الإصلاح والانتقال السلمي المتدرج إلى الديموقراطية والقطع مع الاستبداد ، وأخيرا من خلال الدور الفاعل للمثقفين في انعقاد المجلس الوطني لـ ( اعلان دمشق) من أجل التغيير الوطني الديموقراطي، لكن الأبناء الوارثين للسلطة لم يثبتوا أنهم يختلفون عن آبائهم إلا في طيشهم وسفههم وحمقهم في إدارة الاستبداد والعنف ضد المجتمع الأهلي والمدني عبر الاعتقالات التي لم تتوقف حتى اليوم، وفتح أبواب السجون واللجوء إلى حالة الطوارئ على المستوى الداخلي، أما على المستوى الخارجي فقد جددت العصابات الوارثة للسلطة سلوك آبائها في تحطيم لبنان، سيادة واستقلالا وكرامة من خلال موجة اغتيالات بدأت بالرئيس الشهيد رفيق الحريري وتواصلت إلى اليوم عبر المزيد من التوغل في الجريمة عندما استشعر القتلة أنهم لن يفلتوا بجريمتهم كما فلت الطاغية الأب من قبل في تصفية رموز لبنان السيادة والاستقلال والحرية والديموقراطية عبر سلسلة من التصفيات بدأت منذ ثلاثة عقود بالزعيم الوطني كمال جنبلاط الذي سيواصل الأبناء مسيرة الأب فيما نسميه بسلسلة الاغتيالات التي بدأت بالزعيم الوطني رفيق الحريري ، لتطال لاحقا العشرات من المثقفين والصحفيين والسياسيين الديموقراطيين من تحالف 14 آذار.
لم يكتف النظام العصبوي الطائفي العائلي الأمني في سوريا بتصدير عنفه الداخلي ضد مجتمعه إلى لبنان الشقيق فحسب، بل قام وبالتحالف العضوي مع النظام الثيوقراطي المذهبي الظلامي (الايراني) الذي يتوهم ممكنات تصدير التشييع إلى العالم الاسلامي، بتصدير الإرهاب إلى العراق لمنع الشعب العراقي من امتلاك حرياته في أن يدخل نادي الدول الديموقراطية المدنية والمسالمة والمتحضرة، كما قام بتشجيع حماس على تقسيم الشعب الفلسطيني وتقسيم ما تبقى له من الأراضي الفلسطينية من خلال اللجوء إلى العنف والانقلاب على السلطة التشريعية، وذلك بالتوافق والتقاطع مع النظامين الإرهابيين السوري- الايراني اللذين يتلاعبان بالقضية الفلسطينية عبر حماس ذات الطموحات السلطوية التي يدفع شعب غزة الأعزل ثمنها غاليا على أيدي الجيش الإسرائيلي .
لقد توجت عصبة النظام السوري ماضيها الدموي الإجرامي بحملتها الأمنية المتوحشة الأخيرة التي شنتها منذ سنة ونصف تقريبا على أعضاء المجلس الوطني لإعلان دمشق، فلم يتورع عن اعتقال سيدة فاضلة طبيبة ( أم وجدُة )، وابنة أحد الرموز الصانعة لتاريخ سوريا السياسي، ومناضلة في سبيل الحريات الديموقراطية، المنتخبة رئيسة للمجلس الوطني لإعلان دمشق الدكتورة فداء حوراني مع اثني عشر مثقفا : كتابا وصحفيين (أكرم البني –علي عبد الله-فائز سارة –طلال أبو دان ) بالإضافة إلى معتقلي اعلان بيروت-دمشق (- أنور البني- ميشيل كيلو ) وناشطين عديدين من شتى الاتجاهات الفكرية والسياسية ( جبر الشوفي- محمد حاجي درويش – د. ياسر العيتي –د. أحمد طعمة ، د . وليد البني –مروان العش ) مع عدد آخر سابق من المثقفين د. كمال لبواني – فراس سعد –حبيب صالح وآخرهم الناشط الكردي المعروف مشعل التمو، وناشطين في المجتمع المدني وفي سبيل حقوق الإنسان ، وكان قد قضى بعض منهم في السجون وأقبية المخابرات والزنزانات المنفردة عشرات السنوات، بل ولم تؤثر بضمائرهم كل العرائض والمناشدات الدولية للسماح لنائب دمشق السابق رياض سيف رئيس الأمانة العامة لإعلان دمشق في الخروج – وبكفالات دولية – للعلاج من مرض السرطان ، بل وأقدموا بكل همجية ووحشية على اعتقاله رغم مرضه العضال بعد أن كان قد أمضى خمس سنوات في السجن .
ويضطر ( رياض الترك ) الذي قضى ما مجموعه عشرين سنة بالمنفردة مع المجموعة المتبقية من قيادة الإعلان – حتى اليوم- إلى التخفي من ملاحقة العصابات الأمنية ، ونهجر نحن –والآلاف منا عن أوطاننا بعد أن بلغت بهم هستيريا الخوف من مستقبل الديموقراطية ونتائج حالة العزلة الاقليمية والعربية والدولية إلى تهديد عائلاتنا، وذلك بالضغوط على زوجاتنا ومحاربة أبنائنا في جامعاتهم ومن ثم استدعاءاتهم الأمنية ، رغم أن ليس لهم من تهم سوى أنهم أبناؤنا .
إن الهستيريا التي تجتاح عصابات النظام الطائفي العائلي من عقد المجلس الوطني لإعلان دمشق ، تعود إلى أن انعقاد المجلس هذا أتى برهانا للشعب السوري والعربي والعالمي بأن البديل للنظام ليس الفوضى أو التطرف الإسلامي كما يشيع إعلام السلطة، بل إن المنظومتين (القوموية والاسلاموية السياسوية) تشدهما وتوحدهما مسألة الهويات العتيقة ( دينية وقومية شمولية ) على حساب المسائل الوطنية المتصلة بالمواطنة والحريات وبناء دولة القانون الحديثة، وهاهم يلتقون فعليا بعد إعلان الاخوان المسلمين تعليق معارضتهم ضد النظام رغم تاريخ الدم بين الاثنين ، لتسقط ورقة التهديد بأن بديلهم هو الأصولية الإسلامية، بل هما صنوان ومن عائلة واحدة وهذا ما نشهده على المستوى العربي حيث تلتقي الأصوليتان القومية والدينية في الالتفاف حول محور النظامين الشموليين (الايراني –السوري) الذي يتوهم الكثيرون في الأوساط الغربية والأمريكية أنه يمكن الفصل بينهما، فالوحدة الشمولية (الدينية والقومية) ما بعد الوطنية تتأسس في وحداتها الاجتماعية الصغرى على البنى ما تحت الوطنية أو منظومات ما بعد الدولة الوطنية : وهي الوحدات (الطائفية) والعشائرية والعائلية ، حيث تستمد الطائفية المتسلطة في سوريا شرعية الانتماء إلى المذهب الشيعي الايراني بعد أن أفتى لهم الخميني بقبولهم طائفيا في طائفته وفي حمى الطائفية التي أيقظها الخميني وثورته القروسطية…
وعلى هذا فقد غدا البديل –بالنسبة للمعارضة الديموقراطية السورية- يتمثل في قوى ديموقراطية مختلفة ومتنوعة ( ليبرالية-قومية – يسارية – إسلامية ) تتلفع بـ (فضاءات ليبرالية ثقافية) قائمة على مبدأ التسامح والتعايش والتعدد والقبول بالآخر والدعوة إلى التغيير ونبذ العنف ومن ثم التداول السلمي للسلطة ، عبر الإجماع على الانتقال السلمي التدريجي إلى الديموقراطية ، بعد أن تأكد للقوى الديموقراطية بأن الإصلاح غدا مستحيلا مع نظام على هذه الدرجة من التخشب والعطالة الداخلية البنيوية : أي أن تداول مفردة “الممانعة” لم تتكشف إلا عن معنى وحيد وهو “ممانعة ” أية إمكانية للإصلاح سيما بعد المفاوضات غيرالمباشرة والمباشرة مع اسرائيل عبر الوسيط التركي التي لم تكن رغبة حقيقية في السلام المزعوم بل أملا بأن إسرائيل ستؤمن لهم بوابة عبور نحو الولايات المتحدة الأمريكية التي يراهن النظام السوري على ممكنات أمريكا في انتشاله من المساءلة القانونية الدولية على جرائمه في لبنان من خلال المحكمة الدولية ، وعلى هذا فإن الخطر يتهدد مستقبل سيادة سوريا من خلال استعداد النظام لبيع سيادة الوطن مقابل شراء بقائه الكابوسي على صدر الشعب السوري واللبناني.
إن هذا النظام المعزول شعبيا وإقليميا ودوليا آن أوان تغييره ، وإلا فإن سوريا المهددة بالحرب الأهلية الداخلية كما تتكهن بعض الأوساط الإسرائيلية ستكون ساحة تفجير للحروب الأهلية في لبنان وفلسطين والعراق لو بقيت تحت ظل هذا النظام الذي يتخبط ويترنح ناشرا الشر والعدوانية والكراهية والإرهاب داخليا وخارجيا، وهو مستعد لإغراق المنطقة في الدم، إذا ظل المجتمع الدولي مصرا على احترام القانون الدولي في عقد المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري، الذي تشير كل الدلائل السياسية واللوجستية والتحقيقية إلى التورط المفضوح للنظام فيها، وأنه كلما اقتربت استحقاقاتها كلما ازداد شراسة ووحشية ضد شعبه الذي لا يمر يوم على سوريا دون اعتقالات : بعربها وكردها الذين لكثرتهم لم نعد قادرين على ذكر أسمائهم وفاء لشجاعتهم، ومن كل التيارات والأطياف والحساسيات السياسية : القومية واليسارية والإسلامية والليبرالية، الذين توحدهم معركة الحرية والديموقراطية ضد نظام الاستبداد الأمني والطائفي ، العائلي والوراثي ، القمعي والإرهابي .
إننا باسم المثقفين السوريين في السجون والمعتقلات والمنافي نناشد مؤسسات المجتمع المدني والأوساط السياسية الديموقراطية التي برهنت على نضج عالمي مميز في انتخاباتها الأخيرة التي حسمت خيار الشعب الأمريكي باتجاه المراهنة على ذروة المشروعية العليا في فضائل القيم البشرية التي تترفع عن الجنس والهوية واللون … إن شعبنا الذي يئن تحت وحشية الأحكام العرفية وعصابات فالتة من أية سلطة قانونية أو قضائية بما لا يوازيه كل التاريخ الكولونيالي للأنظمة الاستعمارية الغربية القديمة ، إننا نهيب بكم وندعوكم أن تقفوا إلى جانب الشعب السوري واللبناني والفلسطيني والعراقي في كبح جماح عدوانية وإرهاب هذا النظام الخارج على القانون، وإلا فإن عدوانيته الهمجية لن تتوقف عند حدود إخضاع وإذلال شعبه وجيرانه فحسب، بل ويتطلع إلى أن يدفع العالم كله ثمن إرهابه الذي غدا إرهابا احترافيا يتعيش النظام على رعايته وإدارته الداخلية والخارجية والعالمية بعد أن استولى على كل مقدرات البلاد الاقتصادية والمالية ليضعها في خدمة الإرهاب الذي غدا –بدوره- خيارا استراتيجيا لا يمكن للنظام الطائفي الأقلوي والعائلي أن يمسك بزمام السلطة بدون التحكم بمصير شعبه وشعوب المنطقة ليتمكن من فرض نفسه على العالم كأمر واقع، بجعل الشعب السوري واللبناني والفلسطيني والعراقي بمثابة رهائن يساوم عليها المجتمع الدولي لكي يقبل بوجوده انطلاقا من الرغبة في اتقاء شره وفق الحكمة النبوية الاسلامية التي تتقاطع معها القيم البشرية المدنية : داروا سفهاءكم …!
هذا النظام غير قابل للإصلاح ولا لتغيير السلوك ولا لإعادة التأهيل، فقد أصبح محكوما بطبيعته الإجرامية، فلا بد من تضافر الجهود العالمية لإنقاذ سوريا والمنطقة العربية والعالم من شروره .
والسلام لسوريا وطنا لكل أبنائه ….
نشر على جزئين في الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى