الدكتور طيب تيزيني : النفط السياسي الذي سحق مشروع النهضة العربي..
محمد ديبو
يعدّ الدكتور طيب تيزيني من أهمّ المفكّرين والفلاسفة، الذين أغنوا المكتبة العربية بمشاريع فكرية لا تنتهي. “الأوان” التقت المفكّر في منزله الدمشقيّ، وحاورته حول قضايا عديدة منها العلمانية والعولمة ومشروعه الفكريّ ” من التراث إلى النهضة”.
دكتور طيب كنت ومازلت تشتغل على مشروع كبير بعنوان من “التراث إلى الثورة” ثم استبدلته بعنوان “من التراث إلى النهضة” لماذا استبدلت الثورة بالنهضة؟ ومتى اكتشفت أنّه عليك أن تقوم بهذا الاستبدال؟
أريد أن أصوّب فكرة، تقوم على أن المشروع الذي أنجزته، وما أزال في هذا الطور، ليس مشروعا في الانتقال من التراث إلى الثورة، إنما هو أمر أكثر من ذلك. العنوان هو بداية المشروع، وقد أردته أن يكون مدخلا منهجيا للتأسيس لمشروعٍ وضعت له عنوانا كبيرا لم يُر دائما، أعني: مشروع رؤية للفكر العربي منذ بواكيره حتى المرحلة المعاصرة. الآن وبعد انقضاء ما يقارب ربع قرن على ظهور كتاب” من التراث إلى الثورة”، لاحظت أنّ الأمور أخذت تفرد وضعيات جديدة لا يمكن أن يُسكت عنها وكأن شيئا لم يكن!
أعني بذلك التحوّلات الكبرى التي راحت تخترق العالم كله، أي التحولات التي انطلقت من الأسباب الثلاثة الشهيرة التي كانت مقدّمة لنشأة النظام العالمي الجديد، وأعني: ثورتَيْ المعلومات الاتصالات ونتائج حرب الخليج، ثم التحوّلات التي أخذت تطرح نفسها على صعيد أوروبا وأمريكا وأفضت إلى ما سمّي لاحقا العولمة. هذه التحوّلات بدأتُ بقراءتها، وحاولت أن ألملم أهمّ ما وجدته فيها. واستطعت أن أصل إلى نتائج وجدتها حاسمة على صعيد التحوّل السياسي والفكري والثقافي في العالم العربي. وبهذا المعنى اتضح لي أن مشروع الثورة، بدأ يفقد مسوغاته مع تلك الأحداث الثلاثة. أي أنّ حديثا عن ثورة في العالم العربي أخذ يخفت ويخلي الطريق لأمر جديد ما كان فهمه أمراً محتملا في البدايات. لكني كنت أرصد أن هناك شيئاً ما يحلّ محلّ مكانٍ أصبح فارغا.
هنا نأخذ نظرية الفراغ القائلة: لا يوجد فراغ، وإنّ هذا الفراغ إذا وجد فسوف ينشأ شيء ما ليملأه، وفعلاً لاحقت عميلة التحوّل هذه، واتضح لي أنّ قضية الثورة بأساسها ما كان لها أن تستمر بعد هذه التشكلات الجديدة، ولكن كان هناك ضرورة للبحث عما يمكن أن يؤسس لشيء جديد ، يقوم مقامها ويستجيب لخصوصية التحولات العالمية.
ما هو هذا الشيء الجديد وكيف حددته؟
انطلقت في هذا من أسئلة ثلاثة:
– الأول: ما هو الحامل الاجتماعي لما أخذ يفصح عن نفسه مع تشكّل هذا النظام العالمي الجديد؟
– الثاني: ما هو الحامل السياسي؟
– الثالث: ما هو الحامل الثقافي؟
بدأت أضبط هذه المسائل ضبطا منهجيا ثم نظريا ثم تاريخيا، أي عبر قراءة ما كان موجودا في العام العربي على امتداد أربعين سنة. يعني حاولت أن أستنبط الأجوبة المناسبة، ووجدت أنّ الإجابات قد تكون التالية:
: أنّ المشروع الذي كنت أتحدّث عنه بوصفه مشروعا في الثورة: راح يخلي الساحة لمشروع في النهضة. وتحديدا وصلت إلى ذلك عبر متابعة القراءة للحوامل الثلاثة، فوضعت يدي على أن الحامل الاجتماعي لا يمكن أن يكون إلا كل الأطياف الاجتماعية في المجتمع العربي من أقصاها إلى أقصاها. وأعني هنا بالأقصيين: من أقصى اليمين الوطني والقومي: إلى أقصى اليسار الوطني والقوميّ،ولاحظت أنّ هذين الأقصيين لا بدّ أن يكونا منطلقين من المرجعية الديمقراطية، لذلك ضبطت المسألة أكثر، وقلت إنّ الحامل الاجتماعي لما أشتغل عليه هو ذاك الذي يمتدّ من أقصى اليمين الوطني والقومي الديمقراطي: إلى أقصى اليسار الوطني والقومي الديمقراطي. هنا حاولت أن أقرّب بين ما اعتبر تناقضات مطلقة، خصوصا بعد التحولات التي أخذت تخترق القوى السياسة العربية كلها. يعني في نهاية المطاف، وهي نهاية نسبية، أدركت أنّ مشروع النهضة هو مشروع الأمّة برمتها، في حين أنّ مشروع الثورة هو مشروع طبقيّ، مشروع طبقة أو تحالفات طبقية.. الأمر اختلف اختلافا بينا.
أمّا لماذا هذا التحوّل؟ وصلت إلى أنّ الحامل السياسي أسقط في صيغته النهضوية الجديدة كل المشاريع الانقلابية الحزبية، التي اعتقد أصحابها أنهم يملكون الحقيقة. ووجدت أن كل هذه الأحزاب التي ترى أنها أحزاب شمولية لم تعد تملك حدّا أدنى من الحقيقة. بطبيعة الحال لوحظ أنّ بعض هذه الأحزاب ظلّت حتى الآن تراوغ وتؤكّد أن التاريخ مازال موجودا كما هو، رغم أنها تلقى الضربات العسيرة، ولكنها بوعيها التاريخي الساذج المغلق مازالت تقاتل كما كان دون كيشوت يقاتل الطواحين. المهم أنّ الحامل السياسي بدأت أضع يدي عليه: إنّه كل القوى السياسية اليسارية والقومية والليبرالية والإسلامية، شرط أن يستظلوا بمظلة الوطن، ومفهوم الوطن هنا بوصفه مفهوما تاريخيا وسيسولوجيا وسياسيا، والقبول بالتعددية والديمقراطية ومفهوم التداول السلميّ للسلطة.
دكتور طيب أنت منذ مدة تشتغل على توصيف ما أسميته الحطام العربي، إلى أين وصلت؟ هل حددت ماهية هذا الحطام وكيفية الخروج منه؟
وصلت إلى مفهوم الحطام العربي، وبعدها أكملت هذا المصطلح بأن ضبطته بتوصيف كونه مفتوحا، ذلك لأنه لا يوجد حطام كلي ولا انفتاح كلي. هذه “جدلية المتصل منفصلا والمنفصل متصلا”. وصلت إلى هذه الفكرة منذ السبعينات، أي مرحلة تدفق النفط السياسي، النفط الذي اكتشفه وصنعه وسلبه أولئك الذين سحقوا مشروع النهضة العربي في القرن التاسع عشر. مرحلة السبعينات كانت حاسمة، فتحت المجتمع العربي فتحا هائلا باتجاه الاندماج في النظام الرأسمالي الامبريالي، وهذا كان مهمّا في سبيل إنجاز هذه المهمّة التي كانت موجودة سابقا، ولكن في السبعينات وصلت إلى حدود شبه حاسمة، وتدفّق الأمر باتجاه مجتمع استهلاكي تابع تبعية تامة، مجتمع تفيض فيه سيولة مالية هائلة، هذه السيولة التي ستوظّف بعد حين باتجاه إغلاق الرهانات المحتملة أمام الفعل التاريخي العربي. يعني هذه السيولة أنتجت منتجات اقتصادية وسياسية وثقافية فأنتجت المجتمع الاستهلاكي الذي لم يعد يبحث عن رهانات تؤسس لحالات متقدمة بالمعنى التاريخي، وإنّما أصبح يقبل بالقائم مع تعميقه وتشميله. ثم على الصعيد السياسي بدأ يؤسس لحالة إغلاق التاريخ أمام نشوء علاقات اجتماعية اقتصادية جديدة. وبالتالي كل شيء أُريد له أن يظل في هذه القوقعة التي تكاد أن تكون قد أُغلقت نهائيا، وبدأ الأمر يكتمل عمقا وسطحا مع تساقط الطبقات الوسطى تساقطاً مروّعا، ومعروف أن الفئات الوسطى الميسورة اقتصاديا والمستنيرة عقليا هي التي روهن عليها بالنسبة للتأسيس الثقافي والاجتماعي، وبالتالي هي صاحبة المشاريع. الآن تتساقط دون أن يتاح لها أن تشكل حالة من الاندماج البنيوي مع الطبقات التحتية الأصلية. هؤلاء الوسطويون أرغموا على الانزياح باتجاه الأدنى، إنما دون أن يسهموا في بناء حالة جديدة. ولذلك لن يتم ما تم في بلاد أخرى عندما كانت الفئات الوسطى تتغلغل في الأوساط التحتية وتنشأ حالات جديدة.
المثقفون والسياسيون الذين انتموا للفئات للوسطى لم يستطيعوا أن ينجزوا مهمة كبرى في إطار التحويل الاجتماعي من أسفل القاع، وهذا يجيب عن سؤال كبير : لماذا هذا التقوقع في العالم العربي ؟ لماذا لا نواجه حالات من التدفق السياسي؟ أحيانا يطرح هذا الأمر طرحا عادياً، ويجاب عنه إجابات تقترب من هذه الفكرة، ولكنها لا تحايثها تماما، يعني تقول هناك القمع والنظام الأمني والدولة الأمنية، دون أن يضاف إلى ذلك أن هذا الواقع الجديد هو الذي أنتج حالة لم يعد المثقف والسياسي فيها قادرين على أن يفعلا شيئا تحت ،لأن الجميع بدؤوا يُرغمون في الدخول في بنية واحدة هي بنية الدولة الأمنية وهذا أمر خطير. والحق أنني اكتشفت هذا الأمر بعد أن قمت بعملية واسعة من المقارنات مع الأشكال المتعددة للنظم السياسية، فقاربت فكرة الدولة الأمنية مثلا بفكرة الدولة البوليسية، ووجدت أن الدولة الأمنية غير الدولة البوليسية. وتبيّن لي أن الدولة البوليسية إذا كانت تلاحق خصومها حيثما كانوا، فإن الدولة الأمنية تلاحق المجتمع كله. هذا شيء جديد في التاريخ، أنّ المجتمع يتحوّل رهينة في يد دولة أمنية ترفع شعارها الشهير(يجب أن يفسد من لم يفسد بعد بحيث يصبح الجميع ملوّثين ومدانين تحت الطلب). هذا يعني أن المجتمعات( المدني والأهلي والعمومي) أخذت تتدهور باتجاه الدخول في قبضة الدولة الأمنية.
والشيء الطريف هنا هو أن الدولة الأمنية وصلتها أموال هائلة من المساعدات الخارجية ومن النفط الداخلي الذي ينكر وجوده في البعض البلدان العربية، هذه السيولة الهائلة أسهمت إسهاما كبيرا في بلورة الحطام الذي بدأت الحديث عنه، الحطام الذي يبدأ باستبدال التنمية الاقتصادية بتنمية قائمة على الفساد والإفساد، قائمة على الدعارة والرشوة والمال السياسي واللصوصية. كل ذلك أسقط ما كان عليه أن يكون بداية التحول. لذلك فإنّ الحطام العربي حطام في مشاريعه المستقبلية. صار هناك مشاريع في يد الدولة: كيف تفسد هذه المجموعة أو تلك، سواء كانت حزبا أو مجموعة أو جامعة أو مدرسة؟؟
كيف يؤسس لخراب شامل يعيش الناس فيه من أجسادهم ولصوصيتهم؟ وبالتالي المثل الشهير القائل بأن : الحرّة لا تأكل من ثديها، لم يعد ذا مصداقية. الحرة تأكل من كل شيء .. الحرّة والحرّ. بدأت تتساقط منظومة القيم على سذاجتها. ونعلم جميعا أن رهانا كان يقوم لدى مجموعة من المثقفين، رهان يقوم على الثقافة العربية، حين كانوا يقولون أن الثقافة العربية هي الطود الأخير فلتتطبع النظم العربية ولكن نحن المثقفين لن ننقاد إلى ذلك، واتضح أن المثقفين دخلوا في هذه العملية.
هذه الحالة المعقدة المركبة التي مازالت تتعاظم عمقا وسطحا حتى الآن وبإصرار، تؤسس لما سميناه الحطام العربي، الذي ستكتمل حلقاته نسبيا بمجموعة من الإجراءات السياسية مثل قانون الطوارئ! قانون يقول بأن الحزب الفلاني يقود الدولة والمجتمع! هذه الأمور أسّست لمؤسسات جديدة هي: الدولة الأمنية المغلقة التي لا تفتح شيئا منها إلا إذا كانت أمام معركة كبرى، فهي مصّرة إصرارا كليا على أن يبقى كل شيء مغلقا، اعتقادا منها أن هذا الذي تحكم القبضة عليه إذا ما فتح قليلا فإنه سوف ينفتح كلياً. وهذه نقطة نستمدها من ماركس وهيجل :إن شيئا أحكم إغلاقه إذا ما فتح قليلا فعلا وليس مؤامرة أو لعباً فإنّ الدائرة سوف تنفتح.
نهضة محمد علي اخترقت من قبل تحول الليبرالية الغربية إلى مرحلتها الاستعمارية، والنهضة الثانية اخترقت أيضا بفعل عامل خارجي هو: تكون الامبريالية الصهيونية ومحاولتها اختراق البنية العربية من الداخل. لماذا تبدو محاولتنا دائما مجهضة بفعل خارج ما؟ لِمَ لمْ نستطيع التأسيس لحالة داخلية تسمح بمواجهة هذا الخارج العولمي وحماية مشاريعنا النهضوية من تأثيره؟
هذا الأمر على تعقيده وتركيبه يمكن أن نجد مشروع بداية لفهمه .هذه البداية تتأسس على اللقاء التاريخي غير المتكافئ بين مشروع عربي يكاد أن يكون قد أخذ يفصح عن نفسه، ومشروع أوربي وصل إلى قمة الاستعمار. حينما بدأ المشروع العربي مع الطهطاوي ومن أتى بعده، كانت علاقات العرب مازالت في مهدها بأوربا، ولكن هذه العلاقات ستتعمق وتتدفق كلما اتسعت احتمالات النهوض، وحينما بدأت هذه الاحتمالات تبرز وتفصح عن نفسها جهارا، نلاحظ أن الغرب يأتي ويضع كل شيء في حدوده. ونعرف أن اتفاقية كوتاهية 1841 هي بداية إنهاء أي مشروع نهضوي عربي تأتي فواعله من الداخل. وأيّ تحول اجتماعي لا يمكن أن يبدأ إلا بالداخل. هذا ما نطلق عليه اسم المنهج “جدلية الداخل والخارج “: الخارج لا يفعل شيئا إلا بمقتضى الداخل، ولذلك يحاول دائما أن يركب عليه ويلبس لبوسه. كما حدث مع نابليون، الذي قدم نفسه بوصفه الشيخ نابليون الذي أتي كي ينقذ المسلمين من المماليك الكفار، فالداخل له الأسبقية.
أذكر هنا واقعة بسيطة: حين انتهت الحرب الثانية في العراق قرّرت أوربا وأمريكا أن لا تسمح لطالب عربي لا من العراق ولا غيره، أن يتخصص باختصاصات علمية هامة، حاسمة، على صعيد إنتاج الذرة وغيره. أدركتْ خطورة ذلك مع أن العراق كان قد بدأ بطريقة أو أخرى في هذا الطريق، وإنما لم يستطع فأرغم على أن يعود إلى حيث كان. فقانون اللا تكافؤ مازال يفعل فعله ومحاولة صدام على ما اخترقها من استبداد كان يمكن أن تمثل رهانا ما على اختراق الغرب بطريقة معينة ولكنه أخفق!
منذ الحروب الصليبية كان العالم العربي ساحة مفتوحة، لهذا السبب نجد صعوبة كبرى فعلا في البدء من الداخل. الداخل مستباح ولم تعد هذه الاستباحة متحدرة من الخارج نفسه، بل من الخارج الذي أصبح داخلا. وهنا الخطورة الكبرى، أنت تعتقد أنك تحارب الفاسدين هنا وهناك، وتكتشف بعد فحص مدقق أنك تحارب أيضا ما استجلب من الخارج كي يكون مهيمنا. خذ ظاهرة الأصولية التي نشأت عربيا إسلاميا، ولكن ما إن نشأت واكتُشف أمرها من قبل الغرب، حتى بدأت تتحول إلى مشروع كبير في يد الغرب، توجهه في وجه النظم الداخلية، بحيث أن تلك النظم أخذت تطرح أمامك الرهان التالي، وتقول إنه الوحيد: إما نحن باستبدادنا وإما المشروع الأصولي الظلامي. الإشكالية معقدة ومازالت معقدة وبالتالي من أين نبدأ؟
أنا في ظني الحديث عن مشروع نهضوي يبدأ بالحد الأدنى: من تلك البدايات التي قد تتجسد في خطوات أولية من فتح الدائرة. بعد سقوط بغداد بيوم واحد، وزعت بيانا كان مكتوبا بخط يدي، وقد وزِّع منه عشرات الآلاف من النسخ، كان عنوانه: “ابدؤوا أنتم بفتح الدائرة قبل أن يغلقها الأغيار”. حالة عظمى، هناك فتحت دائرة ولكن لم يفتحها صدام؛ فتحها الأمريكان. وقلت هنا في سوريا وفي العالم العربي ابدؤوا أنتم: افتحوا؟ كيف تفتحون؟ بأن تشتغلوا قليلا على قضايا مثل قانون الطوارئ، وقد يكون شيئا إيجابيا؟ مع الإشارة إلى أن مثل هذه المشاريع ليست مُؤَمّنة مائة بالمائة؟ هي احتمالات مفتوحة قد لا تنجح!
ولكن مع بروز ظاهراتٍ جديدة في العالم الراهن، أخذت نسبة النجاح تتسع أكثر فأكثر، ظاهرة أمريكا اللاتينية وروسيا والصين والبلدان الصغيرة المتعثرة والتي استطاعت أن تفعل شيئا. إذاً نحن قد نفعل شيئا، خصوصا أنّ إرثنا التاريخي واسع ولدينا تجربة عميقة. نحن لا نحفر في البحر، ونستطيع أن ننجز شيئا إذا توفّرت ثلاثة أمور: الإرادة السياسية والوعي السياسي والفعل السياسي. هذه الأمور الثلاثة أستطيع أن أقول إن البدء بها محتمل، لأن أمريكا وأوربا لا تأتيان إلى بلداننا إذا حاولنا أن نفعل شيئا.
لكن ما يبدو حتى الآن، أن الإرادة السياسية غير متوفرة، ربما لسبب أساسيّ وهو: أنّ معظم الدول الأمنية العربية بدأت تعتقد أنها إن بدأت بفتح الدائرة في داخلها فقد يطاح بها، ولكن هذا ليس قطعيا. ولكن البدء من الداخل لم يتم لأسباب كثيرة منها الخارج. بهذا المعنى نحن أمام إشكال أسمّيه بالاصطلاح الفلسفي: إشكال تأسيسي أبيستمولوجي: هل نستطيع أن نفتح شيئا بطاقاتنا المهمشة والمهشّمة والتي ما يزال الآخرون يهيمنون عليها؟ هل نستطيع؟ من الناحية النظرية نعم، ومن الناحية العملية أمر معقّد غاية التعقيد. لكنّ التاريخ لا يمكن أن يغلق، ويبقى أن تكتشف من أين تؤكل الكتف.
كانت العلمانية في الفترة الأخيرة مثار جدل كبير خاصة في سوريا بين من يرى فيها فصل تام بين الدولة والدين من جهة، والمجتمع والدين من جهة أخرى، وهناك فريق يرى فيها مجرّد تنظيم للعلاقة بين الدين والدولة. ولكني لاحظت أن الجدل القائم حول العلمانية لم يكن ينطلق من بنية فكرية بقدر ما كان ينطلق من حسابات سياسية وتحديدا حول السماح للإخوان المسلمين بالعمل السياسي. دكتور طيب كيف تعرّف العلمانية؟ وكيف تقرأ علاقتها مع الديمقراطية من جهة ومع الإسلام من جهة أخرى؟
يعني، فعلا هذه مسألة مازالت تلقي بثقلها على كل المثقفين والسياسيين الآن في العالم العربي، ومؤخرا منذ أيام قرأت مساجلة حول هذا الأمر، فأحدهم يعتبر أن العَلمانية (بفتح العين) إنما هي نمط من الإلحاد، أما العِلمانية (بكسر العين) فهي من العلم فهي شيء ايجابي.
ولنلاحظ هنا في هذا السجال، أنّ من استخدم هذا المصطلح بالصيغتين( الفتح والكسر) أخطأ مرّتين؛ حينما اعتقد أن العلمانية مشتقة من العلم لأنّ العلمانية ليست مشتقة من العلم، العلم نقول عنه العلمية أو العلموية. أما العَلمانية فهي حالة أخرى، تتحرك العلمانية في أفق لا يخرج عن الدنيوة (من الدنيا) أي التعامل النشط العقلاني الديمقراطي المجتمعي الخلاق مع كل ما يواجهه البشر. العلمانية بهذا المعنى هي منظومة من الأفكار تؤسس لوجود البشر الذين يوجدون في مجتمعات قائمة على التعددية الدينية والإثنية والسياسية والطائفية، هي أكثر من أن تكون ناظما لفكرة العلاقة بين الدولة والمجتمع، لأنها تدخل في خصوصيات كل هذه المسائل. إذن، العلمانية هي مصطلح، والمصطلح حينما ينشأ، ما تحمّله إياه يحمله، ولذلك اصطلحت عليه، وبالتالي في المصطلحات يبحث عن البدايات الأولى: ما الذي اصطلح عليه الناس حين استخدموا هذا التعبير أو ذاك؟
اعتُبر هذا الأمر حين اصطلح عليه على أنه ضبط لعلاقة الإنسان بينه وبين ما اعتبر ربّا(إلها فاعلا). وهنا ضبط نمطان من العلاقة الإنسانية الكونية: النمط الأول: يقوم على أساس كونه نمطا شاقوليا، يبدأ بالإنسان وينتهي إلى ما يريده في العلاء، وهي علاقة مغلقة، هذه العلاقة المغلقة هي التي نجحت في آخر الأمر في أوربا حين أُسس لهذه العلاقة مابين البشر وآلهتهم. بهذا المعنى المشروع الأوربي الحداثي الذي أتى في إطار الثورة الرأسمالية البرجوازية، هو الذي أسس لهذه العلاقة الشاقولية التي تعني: أن علاقة الإنسان بربه دون وسيط، بعد أن كانت العلاقة في الفكر الأوربي ما قبل النهضة والتنوير علاقة أفقية، إضافة إلى كونها شاقولية. بل إن العلاقة الأفقية هي الأكثر حسما، أي أن الدين شأن اجتماعي يتدخل فيه الكاهن والبابا تدخلا كاملا كليا. ارتقت العملية حينما أطيح بالبعد الأفقي وأُكّد على البعد الشاقولي، وهذا ما أسس لحالة جديدة هي التنوير والتآخي، ثم تأسيس المجتمع الوطني الذي يجد مرجعيته في الوطن بوصفه قائما على تعددية قد لا تحصى، مع الإقرار بهذه الاختلافات إقرارا أكثر حضورا بوحدة هذه الأمة.
العلمانية عندنا في الفكر العربي بدأت بالتباس، لأننا تأثرنا بالعلمانية الأوربية بعد أن قطعت شوطا متقدما، بعد أن انتقلت من البعد الأفقي إلى البعد الشاقولي. فظهرت لنا وكأنها حالة من الزندقة، والزندقة ليست إلحادا. الزندقة من الخروج، أنهم يخرجون عن القائم، عن الخط المستقيم، عن المألوف. ولكن البعض لأسباب معرفية، ولقصور معرفي ولأسباب سياسية أخرى، وسّع هذه الفكرة فجعل الزندقة إلحادا خصوصا حين لاحظ أن هناك قوى سياسية تأخذ بالعَلمانية وتميل بشكل أو بآخر إلى الزندقة. هذا الالتباس حتى الآن قائم خصوصا حين كرس بعض هؤلاء(الذين أخذوا بفكرة الزندقة) لفكرة العلمانية بوصفها إلحادا. أطرح مسألة طريفة، وبقدر ما هي طريفة وخطيرة هي بسيطة:
المقولة الشائعة على لسان ماركس ” الدين أفيون الشعوب”، ليست من إنتاج ماركس إنها من إنتاج الفيلسوف الألماني كانط، لاحظ هذا الخبل المعرفي المنهجي الذي مرّ به الفكر العربي، وخاصة القوى السياسية الماركسية والشيوعية. ليست له وإنّما استخدمها استخداما وظيفيا حين أراد أن يوظف بحثه الاجتماعي باتجاه الظاهرات الاجتماعية. يعني ماركس لم يطرح مسألة الإلوهية كمسألة لاهوتية. هل الله موجود؟ وإنّما طرحها بوظائفها الاجتماعية، ماذا يفعل الدين؟ ما هي احتمالاته؟ ما هي إمكانات الإنسان المتدين في الفعل الاقتصادي والاجتماعي؟
فعل ماركس كما فعل مفكر أخر هو ماكس فيبر، الذي تحدث عن الدين تحدثا وظيفيا .ماركس وسّع هذه الفكرة ،وسّعها وعمّقها. إذاً العلمانية ليست هي التي دخلت في التباساتها العربية الإسلامية ومع ذلك، لا نقول إن هذا كان لعبة أو احتيال وإنّما الفكر العربي الإسلامي كان يحتمل ذلك، إلى درجة أنه في شقّه الإسلاميّ لم يكتشف أن النبي العظيم محمد وضع يده على فكرة أولية، قد تفضي إذا ما نظرت إليها تاريخيا إلى ما يقترب من(لا أقول العلمانية) مفهوم أحدثه فرح أنطون في مناظرته مع محمد عبده حين تحدث عن الحيادة، أي حيادية الدولة والمؤسسات تجاه الدين واحترام الدين. مسألة العلمانية دخلت مثقلة بهذا الذي كان موجودا.
بهذا المعنى إذا أردنا أن نتحدث عن العلمانية نقول: علينا أن نأخذ المصطلح فعلا كما يدل عليه في وجوده الغربي، الذي لا يعني الإلحاد ولا يعني الزندقة، وإنّما يعني منظومةً من المفاهيم والمصطلحات والأفكار التي تضبط علاقة البشر بمنظوماتهم الطائفية الإثنية المذهبية السلطوية السياسية، وبالتالي لا تسيء لأحد ضمن هذا المنظور العمومي.
هنا يمكن أن تتحدث عن القانون البرجوازي الذي أتى وضبط المجتمع تحت عنوان العقد الاجتماعي. مع أن العقد الاجتماعي أتى على أساس رماد هائل من الصراعات الطبقية والسياسية والاجتماعية، ولكن أتى ليضبط هذه الصراعات ولا يسمح لها أن تتحول إلى صراعات مسلحة. هكذا إذاً، العلمانية إذا ما أردنا أن نتحدث عنها حديث عام لا بدّ أن نحدّد ما يلي: أولا: أن نعيد النظر بالمفاهيم التي كوّناها حين نظرنا إليها من موقع الغرب ولكن كان هناك وسيط بينهما: الالتباسات التي كانت قد نشأت وفرضت نفسها على المنظومة التي كوّناها.
وثانيا : هي الحالة النقدية، إذا ما أردنا فعلا أن ننظر في هذه العلمانية وفي إمكانية الإفادة منها لا بدّ من القراءة النقدية بمقتضى الخصوصيات النسبية التي يؤكدها ويضبطها المعيار المنهجي الذي ننطلق منه نحن الآن راهنا. في هذا الشق الثاني تصبح الأسئلة متعددة، هل العلمانية ضرورية عندنا أم غير ضرورية؟ وهنا نسائل موقعنا؟ هل هناك موقع أخذ ما لهذه العلمانية؟
في كتابي من التراث إلى الثورة وضعت يدي على ثلاثة أنماط من التأثر: أولا :أن نتبنّى شيئا كما هو، بعد أن نكتشف أنه صحيح، يعني على صعيد العلوم الطبية مثلا، على سبيل المثال: الطبّ، فأنت لا تستطيع أن تخضع دراسة القلب لخصوصية عربية أو إسلامية. فنحن هنا أمام علم ناجز حاسم. أما في العلوم الاجتماعية والحالات الاجتماعية هناك خصوصيات تبرز، الخصوصيات التي تفرض نفسها عليك من موقعك الراهن فتسائل نفسك: هل هذا الذي نأخذه مناسب لنا؟ كيف نأخذه؟ هناك إجابة عن هذا السؤال بثلاثة أشكال
أولا :نتبنّاه كما هو. ثانيا :نستلهمه، أي نقرأه نقديا ونكتشف ما يمكن أخذه وما لا يمكن. ثالثا :العزل الوظيفي التاريخي. وبهذه الحال، نحن أحرار فيما نلفظ وفيما نأخذ، بالتالي هذا مشروط بالقراءة النقدية السابقة عليه.
أنا في ظني: أنّ العلمانية فعلا تضبط واقع الحال ليس عندنا، وليس في العالم الغربي فقط، بل في العالم كله. ونحن نجد بعض إرهاصات هذا الفكر المفتوح على التعددية المجتمعية، ممثلا بدستور المدينة الذي أقامه النبي حين دخل المدينة وأوجد مجتمعا جديدا قائما على الصابئي واليهودي هنا كانت نقطة حاسمة هي البحث عما يجمع مع الإقرار بوجود ما لا يجمع، والذي له مرجعياته الداخلية التي لا تتعارض من حيث الأساس العمومي مع الناظم العام.
وإذا ما دققنا في هذا الأمر تحت معايير متعددة من صراعات تحصل الآن في العالم العربي الإسلامي ،نجد أن العلمانية حصيلة تاريخ عالمي وليس أوربيا فقط. ونحن مشاركون بها بقدر ما. فنأخذ بها ونضبط العلاقات ضبطا مناسبا لا يفسد الود مع أي طرف من هذه الأطراف، وتكون بذلك جزءا من المنظومة الديمقراطية، مع أن مناطق أخرى قد لا تحتاج العلمانية بهذا الوضوح لأنّ الإشكالات التي نعيشها ليست موجودة عندها. الديمقراطية هناك يمكن أن تؤسس لما هو قائم عندهم في أوربا.
نحن هنا نحتاج الديمقراطية معلمنةًً والعلمانية ديمقراطيةًً وبهذا المعنى، نكون قد أسسنا لما هو قابل للتبني أو الاستلهام سواء كان علمانيا أو أي فكرة يجري تداولها في الفكر العالمي. وهنا نكون وضعنا يدنا أن الفكر المعاصر في أحد سماته فكر عالمي، مع أنه فكر وطني قومي يركز على الخصوصيات.
موقع الآوان