علي زراقط: على الشعر واللغة أن يوثقا للعادي… هناك الكثير من الشعراء والقليل من الشعر
عناية جابر
علي زراقط، شاعر لبناني شاب، أصدر مجموعتين شعريتين، كما درس السينما في الألبا وطلع منها بذخيرة فيلمية من ستة أفلام وثائقية وقصيرة. عن كتابته، مفهومه للشعر، وعلاقته بالفنون كافة كان هذا الحديث.
«كانت الحياة رخوة» من إصدارات «دار النهضة العربية» هي مجموعتك الثانية بعد «كتاب فارغ» عن «منشورات إكس أو». هل من إضافة برأيك على مجموعتك الأولى؟ وكيف كان استقبال النقد للمجموعتين؟
} نعم. هناك إضافة. من الممكن اعتبار المجموعة الأولى، كتابا فارغا، كتابا تجريبيا على صعيد اللغة ونمط الطباعة والتوزيع. الكتاب الاول قد يكون أكثر جرأة من الثاني، من ناحية أنه يحاول الدمج بين النص الكتابي «الشعر»، والنص البصري الصورة. حيث أن التجربة الاولى كانت محاولة لاقتراح النص الشعري من كونه نصاً بصرياً، أي أنه نص حروفي، يمكن دمجه مع النص البصري الرسومات والاقتراح البصري في التوزيع على مساحة الصفحة البيضاء. هو باختصار كتاب شخصي، يشابه إلى حد بعيد الدفاتر الخاصة التي نرسم عليها خربشاتنا، من كلام ورسوم، هذه الدفاتر التي تفضح أكثر مما تؤلّف. الدفاتر التي تدخل إلى الشخصي إلى عمق التخيلات الفردية. لذلك كان توزيعه محدوداً وعلى صعيد شخصي. هو كتاب ينتظر الكتب الأخرى كي يكتسب أهميته المرجوة.
أما الكتاب الثاني فهو مختلف تماماً عن الأول، من حيث أنه اقتراح لقصيدة طويلة، لنوع من النشيد الشعري الذي يحمل في طياته غنائية فردية ترحل من باب الفردي إلى العام ومن باب العام إلى الفردي. هو كتاب لقصائد تستمد قوتها من الكلمات، ومن محاولة صياغة جديدة للمعاني تعتمد على إدخال العادي في سياق الشعري. في مدينة يحكمها الشعر في جميع مقارباتها الحياتية. حيث أن السياسة تبلغ حد الشعر، والاقتصاد هو اقتصاد شعري، والعلاقات الاجتماعية هي علاقات شعرية، يصبح من الضروري على الشعر وعلى اللغة أن يوثقا للعادي. هي محاولة لاقتراح شعري ينتحي باب السرد لليوميات، من باب الحنين لأن يمضي يوماً لا نسمع فيه خطاباً سياسياً، لا يحمل في طياته الشعر، من باب أننا نطمح لعلاقة بين رجل وأنثى لا ترتكز على الحلم فانتازيا العلاقات الشعرية. نحن نعيش في مكان، وزمان شعريين بالكامل، لذا على الشعر أن يرحل بنا إلى مكان وزمان أكثر واقعية وأقل إبهاراً.
لا أعتقد أن هناك أي نوع من النقد في لبنان والعالم العربي، لذا لم أعول يوماً على النقد كي ينصف الشعر. نحن كشبان يكتبون الشعر نعلم تمام العلم أننا إنما نكتب لأنفسنا، فعدد القراء محدود، والنقاد لا يأخذون من الشعر إلا أطراف كلامه، يأخذون المعاني المباشرة، ليس هناك أي تحليل أو محاولة لاكتشاف منطق الكتابة الذي يقترحه النص، أو العلاقات بين الكلمات والحروف التي هي أساس الشعر وهدفه الأول.
فتنة الموسيقى
دراستك السينما في الألبا، مع ذخيرة فيلمية من ستة أفلام قصيرة ووثائقية. لم تقف هذه الدراسة في وجه كتابتك الشعر. هل ترى معي تقارب هذين الصنفين الإبداعيين؟ وما مدى حضور السينما في قصائدك؟
} أعتقد أن كل ما يشكل شخصية المرء يظهر في عمله، أي أنها ليست السينما فحسب التي تظهر في القصائد، بل هناك الكثير من الفتنة بالعوالم الموسيقية في القصائد، هناك الكثير من الحب للجسد بوصفه جسداً راقصاً، هناك الكثير من الرغبة في الرسم والتشكيل، كما أن هناك الكثير من الرغبة في إظهار الأدب كفن شعري أو نثري في داخل الشعر. بالطبع هناك علاقة خاصة بين الشعر والسينما، وبالأخص الشعر الحديث. حيث أن السينما بمفهومها التقني نشأت على مقاربة سحرية تستطيع أن تحول الزمن المسجل على شريط إلى معنى، أي إلى صورة متحركة، إلى حكاية، إلى إحساس، إلى مساحة ضوئية موجودة بشكل افتراضي، من الممكن اعتبارها غير موجودة بحيث أننا لا نستطيع لمسها بشكل مباشر. السينما هي ذكريات عن الحكاية المروية، هي فن نوستالجي بامتياز. ومن الباب نفسه يدخل الشعر لكونه عبارة عن تآلف ذكرياتنا الشخصية والعامة مع الكلمات، ليكون الشعر هو فن نوستالجيا الشاعر عن كلماته وفنه في إعادة ربط هذه الذكريات في إطار كلامي. لذلك فإن الشعر والسينما هما فنان لهما علاقة خاصة من حيث أنهما فنان نوستالجيان يبحثان عن اقتراحات للمستقبل. السينما تؤثث ذاكرتنا عن الزمن وتقترحها لنا إلى ما سوف يأتي، فيما الشعر يؤثث ذاكرتنا عن المفردات والكلمات ليقترح لها علاقات جديدة في ما سوف يأتي. الفنان هما عبارة عن فرضية موجودة وغير موجودة يعتمدان بشكل كبير على كيفية التلقي.
في هذا المكان يمكنني أن استطرد كي أعبر عن اعتراضي على التعبير الشائع حديثاً من اعتبار الوصف البصري في الشعر الحديث مقارباً للسينما. فليس هناك علاقة لهذا بالسينما، حيث أننا في بيت لعنترة مثلاً «ولقد ذكرتك والسيوف نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي، فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم» يرسم مشهداً شعرياً أكثر سينمائية من أي نص شعري حديث.
بعض الإصدارات الشعرية نجدها متشابهة، الأجواء والمناخات، وتغيب عنها «البصمة الشخصية» إذا جاز التعبير. برأيك، ما هي بصمتك الشخصية في قصائدك؟
} لن أتكلم كثيراً عن الشعر الحديث، فهناك الكثير من الشعراء والقليل من الشعر. فلنتكلم بصراحة، المشكلة ليست في الشعراء، هي مشكلة في الثقافة. نحن شعب لا ثقافة له. أي أننا أصحاب كلام لا يدخل في أي سياق ثقافي منتج، وهذه المشكلة الأساسية. هناك الكثير من الشعراء الذين يجيدون اقتطاف العبارة، واقتطاف المشهد لكن هذا الاقتطاف لا يستطيع أن يؤسس لشعرية، أو لمشروع شعري حقيقي إن لم يرتبط بسياق ثقافي عام له طموح إنتاج لغة جديدة، يهدف إلى إعادة بناء العلاقات بين الكلمات والأحرف، يهدف إلى تطوير القدرة على استخدام اللغة للتعبير. إن لم يكن همّ الشعراء هو البناء في اللغة والنحت فيها، وإعادة تعريف مصطلحاتها وطريقة تركيبها، فإنهم بذلك يكتبون شعراً ساقطاً وعاجزاً، مشابهاً تماماً للحالة الثقافية الساقطة والعاجزة التي نعيش فيها.
أنا أطمح إلى العمل على هذه الأهداف التي سردتها سابقاً، في محاولات إلى الكتابة بشكل مختلف، إلى إعادة اكتشاف علاقات جديدة مع الكلمات. لا أدعي أني وصلت إلى هذا، يمكن أن تكون السمة الاولى هي التجريب، والطموح إلى لغة جديدة. يمكن الإضافة إلى ذلك الرغبة في تأسيس النص الشعري على العادي، على اليومي، على ما هو غير مدهش.
لمن تقرأ؟ وما هي علاقتك بالفنون، غير الشعر والسينما؟
} أقرأ كثيراً وللجميع. لكن السؤال هو لمن تحب أن تقرأ؟ أحب نصوص محمد الماغوط بشكل رئيسي، فهو كاتبي المفضل، هذا الشاعر البري الذي أعاد اكتشاف المدينة. كلماته المستقاة من الشوارع وغبارها، من الزواريب والأحياء، من أسماء الشوارع التي نسج خيالاتنا عن الأماكن. هذا النص أعاد بناء علاقتنا كشعراء مع مدننا وفتح لنا باباً للدخول إلى نوع من الكلمات لم يستخدم من قبل في الشعر. ثم هذه الفجاجة التي تضع الأشياء في موضعها من باب شخصي، من باب متألم ألماً لا ينتهي. ثم أقرأ لحسن داوود في الرواية. متعة أن ترى الكلمات ترسم جسداً، بكامل تفاصيله، ترسم علاقة برائحتها ورجفتها قلقها وهدوئها. ثم هناك هذا الحنان الكبير في نص حسن داوود لتحس أنه يخاف على شخصياته من الانكسار بين يديه وهو يصنعها. أحب هذا. أحب أن أقرأ للشاعر الفرنسي غييفيك، الحساسية المفرطة في التقاط الدواخل الإنسانية وعكسها إلى الخارج في ملاحظات للطبيعة، قد تكون قصيدته المعنونة «تخيّلي» أجمل القصائد على الإطلاق في هذا التركيب البسيط المتكرر والمتغيّر. أحب نصوص بيكيت المسرحية، أحب أروندهاتي روي، وجاك أشينوز، ويوكو أوغاوا في الرواية. هذه هي عوالمي التي أحب وهؤلاء هم أصدقائي الذين أعيش مع كلماتهم.
أما في الفنون الأخرى فإني مغرم بالموسيقى والرقص، وأتمنى لو أني أستطيع أن أكون موسيقياً أو راقصاً. وأستمتع جل ما أستمتع عندما أسمع نينا سيمون تغني، أو أسمهان تعبر السحاب بصوتها. أسمهان غرامي الأول والأخير أسمعها وهي تغني «قهوة» وأحس بطعم البن في سقف حلقي.
السفير