سـلام نتنياهو
فواز طرابلسي
يستطيع بنيامين نتنياهو أن يفاخر بأنه أتى «بما لم تستطعه الأوائل» من قادة إسرائيل (ما دامت المناسبات الآن للمفاخرة بواسطة شعر المتنبي).
والذي أتى به رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد أنه يستطيع الجلوس في «وسط» تركيبته الحكومية، باراك إلى يساره وليبرمان إلى يمينه، فتحسبه فعلاً في منزلة «المعتدل». كأنك تتناسى أن زعيم الليكود اليميني قد زايد على المجرم ذي وجه الطفل ـ الذي منحه حقيبة الدفاع ـ لأن الأخير أوقف العدوان على غزة قبل «استئصال» حركة «حماس». علماً أن نتنياهو لم يستطع أن يجاري زعيم «إسرائيل بيتنا» في التطرّف عندما دعا هذا إلى حسم الحرب بإلقاء قنبلة نووية على غزة! أو كأنك تتناسى أن رئيس وزراء إسرائيل الجديد ووزير خارجيته ـ خرّيج مدرسة كاهانا والمتهم قضائياً بتبييض الأموال لصالح المافيات الروسية ـ يتشاركان في رفض خريطة الطريق واتفاق أنابوليس ويعارضان أي تقييد للاستيطان أو وقف توسيع المستوطنات القائمة، ناهيك عن رفضهما مجرد الحديث عن دولة فلسطينية.
اكتشف الرجل ما قد اكتشفه الرئيس أوباما قبله أن العرب تسحرهم الكلمات ويملكون حساسية خاصة تتعلق بالاحترام والكرامة. ولما كانت هذه القيم تندرج في قواميس العولمة الأميركية تحت تسمية «ثقافة»، غالى الرجل في مديحه لـ«الثقافة الإسلامية العظيمة والغنية، ذات الامتدادات في تاريخ شعبنا (اليهودي) الذي شهد حقبات ازدهرت فيها (الثقافة) للعرب واليهود، الذين عاشوا معاً وأبدعوا معاً». على أنه خلص من هذا إلى المألوف: لا بد من التمييز بين إسلام معتدل و«إسلام راديكالي يحاول استئصالنا».
وزعيم الليكود عاقد العزم طبعاً على «جبه الإرهاب في كل جانب»، وخصوصاً «على حدود إسرائيل الشمالية والجنوبية». ولما كان هذا الإسلام الراديكالي تدعمه إيران، فمن باب أولى أن يركّز عليها بما هي الخطر الأكبر الذي يتهدد لا دولة إسرائيل وحسب بل الإنسانية جمعاء، فدعا المجتمع الدولي إلى منعها من الحصول على السلاح النووي.
بيت القصيد في الخطاب إعلان نتنياهو عن استعداده السعي نحو سلام شامل مع العالمين العربي والإسلامي و«ترتيب دائم» مع الفلسطينيين.
«الترتيب الدائم» مع الفلسطينيين يتم عبر مسارات ثلاثة، يشكل المسار الأمني مبتداها والمنتهى، وفيه دعوة للفلسطينيين لـ«مكافحة الإرهاب» وتربية أولادهم على ثقافة السلام في مقابل تعهد دولة إسرائيل بدعم أجهزة الأمن الفلسطينية التي تحارب الإرهاب. بعبارة أوضح: على السلطة الوطنية الفلسطينية أن تحمي أمن إسرائيل من الفلسطينيين. المعزوفة نفسها.
المسار السياسي، وفيه وعد: «في ظل الاتفاق النهائي، سوف يكون للفلسطينيين كل السلطة الضرورية ليحكموا أنفسهم، باستثناء ما يهدّد وجود دولة إسرائيل وأمنها». والمعلوم أن وجود إسرائيل وأمنها يحتمان لائحة متناهية من القيود منها رفض السيادة للسلطة على الأرض وتحت الأرض والمياه الإقليمية والمعابر والمرافئ والمطارات، ورفض إنشاء جيش فلسطيني، ورفض الجلاء عن المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، بل الإصرار على توسيعها، وعلى قضم الأراضي، وتسريع إجراءات تهويد القدس الشرقية ووصلها بمستعمرة معاليه أدوميم بما يفصل الضفة إلى قسمين، ناهيك عن رفض حتى البحث في مواضيع الحل النهائي: حق العودة والقدس والمياه.
يتم المسار الاقتصادي تحت عنوان «تحسين أحوال سكان الضفة». على لسان رجل الليبرالية الاقتصادية ومكمّل التراث الليكودي، يعني «السلام الاقتصادي» تعزيز المشاريع الاقتصادية الإسرائيلية ـ الفلسطينية المشتركة بما يسمح بربط متزايد للاقتصاد الأضعف بالأقوى. أي أن كل ما يفعله زعيم الليكود هو تغليف الشهوة الاستيطانية التوسعية الليكودية التوراتية لضم «اليهوده والسامرة» عن طريق الهيمنة الاقتصادية. اللهم إلا إذا أردنا تفسير المسار الاقتصادي على أنه يعني تشجيع الفساد والإفساد ـ بواسطة المعونات الأوروبية ـ بعد أن تبيّن ما لهذا وذاك من تأثير على إضعاف العصب الفلسطيني المقاوِم.
هكذا يستطيع نتنياهو الحديث كأنه أولمرت أو ليفني دون أن يتزحزح قيد شعرة عن ليكوديته. يتحدث مثلهما عن السلام ولا يتقدم خطوة واحدة في مقدمات التفاوض: وقف الاستيطان. ويعلمنا أنه هو الذي يقرّر ما هو أمن إسرائيل دوماً وأبداً. وعند الحاجة، يترك المهمات القذرة لليبرمان الموصوف في إسرائيل بأنه «رجل المهمات القذرة». ولم يكذّب ليبرمان خبراً، فكان أول قرار اتخذه، ومقعده في الخارجية لم يسخن بعد، هو الإعلان أن دولته باتت في حلّ من اتفاق أنابوليس.
هذا هو سلام نتنياهو. على العرب الاعتراف والتطبيع والعلاقات والتمثيل الدبلوماسي. مقابل السلام. أي اللاحرب ضدهم. ذلك أن من يعطي السلام هو من يستطيع شن الحرب. وللفلسطينيين حكم ذاتي في كانتونات مقطّعة بالحواجز والمعابر، تحت الوصاية الإسرائيلية الاقتصادية والسياسية والأمنية، والعسكرية إذا لزم الأمر.
من جهة أخرى، تجب قراءة خطاب نتنياهو بما هو حوار خفي وعلني مع الإدارة الأميركية. يتضمن تصعيداً استباقياً يتعلق بإيران. وفي الوقت الذي يبدأ فيه حوار خفر بين الإدارتين الأميركية والإيرانية عن طريق السيدة كلينتون، يعلن باراك أن الخيار العسكري ضد إيران لا يزال مفتوحاً. وهذا بعد أن أتمّ طيرانه الحربي مهمة تتقاطع فيها مصلحة إسرائيل بضرب غزة بالمصلحة الأميركية في السودان. ومن جهة ثانية، تفادى نتنياهو في خطابه الجهر برفض الدولة الفلسطينية نزولاً عند شرط أميركي لكي يقبل الرئيس أوباما الظهور العلني معه لدى زيارته القادمة إلى واشنطن.
أخيراً وليس آخراً، يمكن قراءة ما أنتجته قمة الدوحة الأخيرة في ضوء إعلان النوايا الليكودي هذا.
صادفت مبادرة السلام العربية قبل سبع سنوات مجيء شارون إلى الحكم. قابله الملوك والرؤساء والأمراء والشيوخ والسلاطين العرب بمبادرة سلام شامل مقابل الانسحاب الشامل من الأراضي المحتلة عام 1967. خلال سبع سنوات لم يلتفت أحد للمبادرة. وفي ظلها جرت الكوارث: من مجزرة جنين وبناء الجدار العازل، إلى محرقة غزة، ومن الانشقاقات العربية بين معتدلين وممانعين إلى الانشقاق الفلسطيني، بل انشقاق أراضي السلطة الفلسطينية ذاتها، مروراً بالعدوان على لبنان، وتدمير العراق والمزيد من إجراءات التهويد للقدس واتساع رقعة الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية وفي عدد المستوطنين، إلى آخره.
والآن يعود إلى السلطة في إسرائيل الرجل الذي أعلن التباطؤ في تنفيذ اتفاق أوسلو وأطلق يد شارون في الاستيطان والتهويد، محاطاً من اليسار ببطل الاغتيالات والمجازر الإسرائيلية ومن اليمين بداعية التهجير العنصري. وكل ما تفتقت عنه مخيلة الحكام العرب الاثنين والعشرين هو أنهم عدّلوا في قمة الدوحة 2 ما قد قرّروه في قمة الدوحة 1. فبعد الحديث عن تعليق المبادرة العربية، في وهج حرائق غزة، ها نحن أمام العودة إلى الإشارة الى أن المبادرة العتيدة لن تبقى على الطاولة طويلاً!
معتدلون وممانعون في المأزق ذاته. والجواب ليس المقاومة. المقاومة تضحي وتصمد. لكنها لا تغيّر موازين القوى. الذي يغيّر موازين القوى هو الدول وأسلحتها العسكرية والبشرية والاقتصادية وفي مقدمها النفط وكل ما ملكت أيمانها من وسائل الضغط والتأثير على الولايات المتحدة. وما عدا ذلك أضغاث أحلام.
اللهم إلا إذا أردنا من المقاومة أن تكون مجرد أداة ضغط من أجل الحلول الثنائية. فيبقى السؤال الآن: هل تكفي المقاومة، في غزة ولبنان، زمن «التهدئة» وحكومة «ليبرمان»، لفرض الانسحاب من الجولان وتحقيق الدولة الفلسطينية؟
السفير