صفحات ثقافية

بيكيت.. ذلك الساخر الحزين

null
علي كامل
الجزء الأول

«أشعر أن في أعماقي إنساناً قتيلاً.. إنسان قتل قبل ولادته»
بيكيت

«الآخرون يرون بيكيت شخصاً كئيباً، أما أنا فأراه كاتباً هزْلياً من الطراز الأول»
الممثل جاك ماكوران

على الرغم من أن إسمه يتضمن صيغة وصفية أعني ” البيكيتية ” إلا أن صموئيل بيكيت دخل اللغة الأنكليزية كرديف للكآبة والعزلة، لكنه مع ذلك، كان ساخراً عظيماً وإنساناً عطوفاً وحنوناً، سواء في حياته أو في كتاباته.

صحيح أنه كتب معظم نتاجاته بالفرنسية إلا أنه ظل إيرلندي الصوت والسلوك والسخرية بشكل جلي،

ففي أيامه الأخيرة التي عاشها في دار رعاية المسنين كان يشارك أصدقاؤه رشفة من ويسكي إيرلندي من الممكن أنها كانت تدفأ له عظامه وتفتح له واحة من البهجة والمرح الرحبين، لكنه مع ذلك، كان طوال حياته شخصاً وعراً صخرياً أشبه بتماثيل صديقه جياكومتي. لم يكن بيكيت كاتباً لامعقولاً، إنما كان إنساناً ساخراً لاذعاً من واقع لامعقول.

(فرنسا منفىً ووطنا ً)

الشيء الملفت وربما المثير للتساؤل هو أن تيار مسرح العبث أو اللامعقول كان قد وجد في فرنسا أرضاً خصبة لينمو ويترعرع في منتصف القرن الماضي فيما كان جلّ ممثليه ليسوا بفرنسيين، إنما مغتربون أجانب قدموا من بلدان عدة، فيونسكو هو من أصل روماني وأداموف روسي وأرابال أسباني وجورج شحاته لبناني وبيكيت إيرلندي، أما جينيه فهو المغترب الكوني إن لم يكن مغترب وطنه.

ينبغي أيضاً أن لاننسى أن فرنسا كانت مهجراً دائماً لكثير من الشعراء والكتاب والفنانين الأيرلنديين الذين ضاقوا ذرعاً بعبء تقاليد بلدانهم فهجروها دون عودة أو ندم ولعل أبرزهم أوسكار وايلد وجيمس جويس وصاموئيل بيكيت.

من الممكن أن يكون لأختيار فرنسا دون غيرها مركزاً لتجّمع تلك العبقريات سبباً أنها كانت الحاضنة الأولى ونقطة الأنطلاق لمجمل حركات التمرد والثورة والحداثة ما بعد الحربين العالميتين، سواء كان ذلك في ميدان الأدب والفن أو السياسة و الفلسفة. فمن هناك أزهرت شجيرات الدادائية والسوريالية والأفانغارد تلك التي إستمدت جذورها من كتابات الفريد جاري لاسيما ثلاثيته المسرحية “أوبو” المثال الأول والأسطع لمسرح اللامعقول، أو الشاعر أبولنير ومسرحيته السوريالية “أثداء تريسياس” ومن تلاهم من أسماء ألقة أمثال أنطون آرتو وروجر فيتراك وسواهم.

إنها فرنسا ديكارت وهيدغر وجان بول سارتر وألبير كامو (لابد من التنويه هنا إلى أن كامو كان هو أول من صاغ فكرة اللامعقول أو العبث).

إلا أن تيار العبث أو اللامعقول لم يكتف بذلك حسب فقد نهل أيضاً من فضاءات سترندبيرغ وجيمس جويس وكافكا، وكذلك من بعض نتاجات السينما الصامتة، كما عثر أيضاً على تماهيات له في تقاليد عمل المهرجين أنذاك.

لاريب أن خيار بيكيت في أن يكتب بالفرنسية كان سببه أنه أراد أن ينأى عن إغواء غنائية الأنكليزية أو حتى الأسلبة التي وقف ضدها، والمتمثلة يومها بتلك التقاليد المسرحية (الأيرلندية ـ البريطانية) للواقعية التهكمية والكوميدية التي كان سينج ووايلد وبرناردشو وبيهان رواداً لها. فقد كتب يومها يقول:

«فيما لايمكننا في اللغة الأنكَليزية أن نتجنب الكتابة بأسلوب شاعري، نجد من السهل في الفرنسية أن نكتب بدون أسلوب»

دراسته الأكاديمية قادته إلى نوع من الألفة مع الأفكار والرؤى الرمزية للمسرح، تلك التي كانت على تضاد مع المفاهيم الفرنسية الكلاسية لمذهب الحتمية، ناهيك عن خلافها مع وجهة النظر التي تكرّس إمكانات المسرح كشكل فني بورجوازي.

إن رؤية مالارميه المضادة للمسرحة، وحلم ميترلنك بمسرح الأنعكاسات.. السير أثناء النوم والصمت، كذلك جويس وبينان وشكسبير ودانتي، ناهيك عن الرؤى السيكولوجية ليانغ وفلسفة الشك الديكارتية، كلها دون شك كانت بمثابة أعمدة إتكأت عليها مسرحيات بيكيت المبكرة. ومع ذلك، لم يسرع بيكيت بخطاه مبتهجاً ومندهشاً، بل راح يتأمل ويدرس ويشكّ ويستنطق كل تلك الأفكار من أجل إبتكار رؤيته الجديدة المضادة للمسرح السائد.

قبل بيكيت كانت تقاليد المدرسة الطبيعية هي السائدة، أما بعده فقد إندفع عشرات الكتـّاب المسرحيين للخروج من شرنقة الطبيعية تلك ليجربوا الكتابة بأسلوب اللامعقول. كتب روبي كوهن المتخصص بأدب بيكيت:

“بعد غودو، ينبغي أن تكون الحبكات في حدها الأدنى، بل هي أصلاً غير ضرورية وليست بحاجة إلى تفسير على الأطلاق. أما الشخصيات فوجب أن تكون متعارضة ومتناقضة على الدوام. الزمان والمكان يجب أن يكونا غائمين غير محددين، أما الديالوج فلا يمكن تأكيده أو التنبؤ به. الفارْس الصاخب ينبغي أن يتقاتل ويتنافس ويتزاحم من أجل أن يكون على تماس مع التراجيديا”.

إن جل أعمال بيكيت المسرحية كانت تتغذى على رحيق زهور متنوعة الفصول، كالفودفيل والكوميديا دي لارتي والميوزك هول (المسرحيات الموسيقية الهزلية المتضمنة غناء ورقص) وبرامج المنوعات المسرحية الساخرة والخفيفة ((Burlesque والفنون الأيمائية (البانتوميم) كذلك نمط الأفلام الصامتة تلك المتمثلة في شخصيات مثل شابلن و كيتون ولورين وهاردي.

بنية مسرحياته هي بنية ذات شكل حلزوني، أو بوصف أدق، أشبه بحلزون أو لولب متناقص الحركة مستدق الطرف. في دورانها الحلزوني المتجه صوب الأغلاق النهائي والحاسم والذي لايمكن العثور على مخرج له في عالم بيكيت، تلوذ الشخصيات بالتكرار، تكرار الكلمات وتكرار الأفعال، سواء كانت تلك الكلمات والأفعال كلماتها وأفعالها أو كلمات وأفعال الآخرين. تكرار هو بمثابة نوع من اللعب أو التمثيل من أجل تزجية الوقت (الحياة)!.

في جذور فنه تكمن فلسفة هي من أكثر الفلسفات التشاؤمية جرأة، تلك التي ُتظهر بشكل صريح علاقة الأنسان بالخالق.

أما مضامين أعماله فقد طرحت رؤية لنظام عشوائي مغلق تنكمش فيه طاقة العالم وكذا حيوية الناس عن النشاط والحركة فكل شيء يجري ببطء وتكرار وآلية قاسيين:

“ويللي: الأنسانية بئر ذات دلوين، أحدهما يهبط كي يملأ، والثاني يصعد كي يُفرغ”.

(الأيام السعيدة)

في عالمه يبحث المرء عن شعاع أمل وسط عتمة اليأس متزامناً وسعيه في مواصلة العيش في نوع من الرواقية أو كبت الغرائز كما يبين ذلك في الكلمات الأخيرة لرواية (اللامسّمى):

“ينبغي عليك الأستمرار.. لايمكنني الأستمرار.. سأستمر.”

أو كما كتب في وورستوارت هو Worstward Ho: “حاول ثانية. إفشل مرة أخرى. إفشل بشكل أفضل.”.

يصر البعض من الدارسين على أن مسرحياته المبكرة كانت شيدّت على سلسلة من تماهي الشخصيات، مـعتمدين بذلك على حقيقة أن تلك الشخصيات غالباً ما تكون منظمة أو مرتبة بشكل ثنائي تبعاً لأهمية الديالوج والتكرار وفكرة تصميم الديكور. وتتجلى هذه الثنائية في شخصيات مثل فلاديمير ـ إيستراغون، بوزو ـ لاكي، في مسرحية “في إنتظار غودو”، هام ـ كلوف، ناج ـ نل، في “لعبة النهاية”، ويني ـ ويللي في “الأيام السعيدة”.

إن شخصياته مجردة من وجودها أو هويتها الشخصية، فهي لاتمتلك سوى وعي المهرّج لذاته وإدراكه المّعذِب من أن وظيفة قواه الروحية هي الحفاظ على مواصلة اللعبة.

تظهر شخصيات بيكيت جميعها مصابة بعاهات جسدية، فـ (هام) السيد أعمى يعيش طوال حياته جالساً على كرسي متحرك لايستطيع الوقوف، فيما خادمه (كلوف) غير قادر على الجلوس. أنظر لهذه السخرية المّرة في هذا الحوار:

كلوف: لا أستطيع الجلوس.

هام: حقاً. وأنا لا أستطيع الوقوف.

كلوف: آه…

هام: كل واحد لديه خصوصيته.

كذلك (ناج) و(نيل) والدا (هام) فهما مبتوري الأقدام ويعيشان في صندوق قمامة. أما في “إنتظار غودو” فإن (بوزو) و(لاكي) يصبحان في الفصل الثاني أحدهما أخرس والآخر أعمى.

ومع ذلك فإن نسج بيكيت لشخصياته لم يكن الهدف منه إبراز العناصر الخارجية لها بقدر ماكان يسعى إلى نحت تلك القشرة الخارجية لإظهار نواتها الداخلية. فالنمو الذي يحدث في مسرحياته هو نمو داخلي بشكل خالص يتطور ويتصاعد أكثر فأكثر عبر إكتشاف تلك الشخصيات الكثير والكثير عن نفسها في خلال مجرى الحدث، إن كان هناك حدث!..

إن مشاهدات الكاتب للمسرحيات الهزلية الموسيقية الأيرلندية في فتوته أنذاك كانت تركت أثراً جلياً على شكل جل كتاباته، أما ديالوغ شخصياته فهو يدين به لمَشاهد الأحاديث والحوارات الأستعراضية الكوميدية.

إنجاز بيكيت الأعظم هو تشذيبه الحاد للعناصر التقليدية التي كانت تعلق بجسد الدراما، وأعني بها الحبكة ووحدتي الزمان والمكان والشخصية، وخلق بديلاً لها يتمثل بإبتكار شكل دينامي بصري للتجربة السكونية لمفاهيم الأنتظار والتذكرّ والنزاع على وجه خاص مع الأحساس المعاصر بالعبثية.

تألق شخصياته على المسرح وإستئناف ظهورها آتٍ بلا ريب من موهبته ككاتب إستطاع أن يخلق صوراً واقعية محددة من أجل شروط حياة متجددة، لا بل أن بعض حوارات شخصياته أصبحت تحفظ مثلما تحفظ الأمثال الشعبية.

على الرغم من شهرته الرحبة إلا أن صعوده كان بطيئاً وهادئاً بعد أعوام طويلة معذبة من المرارات والأحباط.

كان بيكيت يكدح في عتمته وخيبات أمله، وهو الشيء الذي أصبح مرادفاً لأحد عوالمه المجازية المنعزلة التي تقيم فيها شخصياته.

لقد تميز بيكيت في إبتكار طقوس لاتحتفي بشيء أو بأحد، وقد كانت معاً إبتكاراً للمسرح وإتجاهاً لايساوم أو يلين بالنسبة للفلسفة. بهذا المعنى نستطيع القول أن بيكيت إبتكر صوراً مضغوطة مرّكزة كثيفة لمجمل الوضع البشري.

لقد إمتلك أسلوباً مميزاً يتضمن جملاً موجزة مفعمة بالتكرار المتواصل والمتعارض. أما الوقائع الكوميدية فيمكن العثور عليها في جل أعماله إلا أن توحدها أو إمتزاجها كلياً بالمشاهد التراجيدية أفقدها وظيفتها الأصلية تلك، فالضحك أو تحرير العواطف لم يعد هدفها، بقدر ما أصبح تطلعها ينصب في تقوية وتعزيز الأحساس بالشفقة.

الطبيعية في نتاجاته الدرامية مرفوضة تماماً لأنه، أي بيكيت، يشك تماماً بقدرة أي إنسان على إصدار حكم بين ماهو واقعي وماهو خيالي. لهذا السبب نجد أن الكثير من شخصياته وبشكل متواصل تلتمس من الآخرين برهاناً أو دليلاً محسوساً يثبت أن ماتراه هو واقعي وما تتذكره من أحداث كانت قد وقعت لها بشكل فعلي حقاً. وهكذا وبإمتلاكها الدليل فقط يمكن لكل شخصية أن تثبت لنفسها أنها شخصيات حقيقية لها وجود خاص بها حقاً، وهذا مايمكن العثور عليه مرة أخرى وبجلاء تام في العلاقة بين فلاديمير وإيستراغون، بوزو وتابعه لاكي، هام وخادمه كلوف ناج ونل، وأخيراً ويني وزوجها ويللي.

إن السبب وراء بحث النقاد وتفحصهم الدقيق لكتاباته هو ماتتضمنه من مجازات ودلالات خفية دفينة، وبيكت نفسه كان شخصاً غامضاً وملتبساً غير قابل للتحليل أو حتى التفسير. فهو الذي كتب مرة لمخرج مسرحياته المفضل ألان شنايدر يقول:

“إذا أحب الناس أن يصابوا بالصداع وسط التلميحات فدعهم يفعلون ذلك، شرط أن يحضروا معهم حبوبهم الأسبرين”.

وكان السيد شنايدر قد سأله مرة ربما بطيش وتسرع: “ومن هو غودو؟”. أجاب بيكيت: “لو كنت أعرف لقلت ذلك في المسرحية”!.

(الجدل بين البنية الشكلية والتأويل)

في عرض مسرحية (في إنتظار غودو) لعام 1975 على خشبة مسرح شيللر في ألمانيا يروي المخرج الألماني والتر آموس: ” أن بيكيت إنما أراد أن يشوش أو يربك الشكل بتكراره للثيمات. ليس تكرار الثيمات في الديالوغ حسب، بل تلك الثيمات البصرية للجسد أيضاً.”.

إن دفتر يوميات بيكيت لذلك العرض يتضمن وصفاً دقيقاً لنمط حركات الشخصيات. فإستراغون وفلاديمير ينفصلان ويتوحدان بشكل متواصل بـ “صور متعاقبة من الأتحاد والأنفصال، الركود والحيوية”.

وقد إبتكر بيكيت في كتابته أيضاً أسلوب الأقواس والأوتار والدوائر غير المكتملة والتي توحي أنه على الرغم من أن العالم دائري ومكرور، لكنه أيضاً منقسم وغير مكتمل!.

أما ما فيما يتعلق بنمط حركات الممثل ودمجها داخل النص أثناء الكتابة فقد قيل أنه في مسرحيتيه “في إنتظار غودو” و “نهاية اللعبة” على وجه الخصوص، كان قد كتب الديالوغ من دون أن يرى أو يتخيل حركة الممثل على خشبة المسرح بتفصيل كامل ودقيق. إلا أنه في مسرحياته المتأخرة أدرك أهمية ذلك، فقد صار يدوّن حركة الممثلين في النص حتى قبل كتابة الديالوغ، لا بل أدرك أيضاً إتجاه حركة ممثله قبل أن يتحدث لأن ما يدفع الممثل لئن يتكلم متوقف على إتجاه حركته.

حين نأخذ مقطعاً من إرشاداته المدونة داخل أقواس في نص “وقع أقدام” مثلاً، نرى أنه يثبت في النص شكل خطوات شخصية (ماي) وهي تسير أو اللحظات التي تقف فيها أو تتحرك.

“دعنا نرى حركتها في صمت. (تتقدم ماي بإتجاه نقطة نهاية الحركة الثانية)

أنظر كيف تتحرك ببراعة. (ماي تلتفت وتتحرك بشكل متزامن للبدء بالحركة الثالثة)

سبعة، ثمانية، تسعة، تحّرك.”.

تحّكم بيكيت بهذه الأرشادات المثبتة في النص تؤكد على أن هذه البنية المتراصة الأيقاع ينبغي أن ُتدرك وتتحقق في العرض نفسه.

مسرحياته الأخيرة ركزت أيضاً على الفصل ما بين الكلام والحركة، والتي أصبحت مبدءاً رئيسياً للممارسة الأخراجية لبيكيت. فشخصية (ماي) مثلاً تقف حين تتكلم، وتمشي فقط أثناء الصمت أو خلال مونولوغ الصوت.

في يومياته حول مسرحيته “وقع أقدام” يؤكد بيكيت أيضاً على الأصوات في أداء شخصية (ماي) بضمنها صوت لفتاتها ودثارها المتجرجر خلفها ووقع أقدامها. يبدو أن ثمة تركيز جلي هنا على العلاقة أو التضاد ما بين النص، الكلمات، و العناصر الخالية من الكلمات أو أساليب الإداء.

إن العلاقة التي يشوبها التوتر بين المعنى والأسلوب أو الأداء تظهر بمثابة الشغل الشاغل له في مراحل كتابة النص في مسرحياته المتأخرة.

فمراحل تشكيل المسرحيات أو تأليفها ُتظهر مجرى العملية التي فيها يصبح المعنى وبشكل متزايد تلميحي ومنفتح، فيما يتشكل النص عن طريق دلالة الألفاظ ودرجات تصويتها وتأثيرها.

هذا التأكيد على الأيقاع والأسلوب دفع بالبعض من النقاد إلى وصف بنية مسرحياته بالبنية الموسيقية.

في دراسته لمخطوطات الدراما يؤكد الباحث س. ي. غونتارسكي أن بيكيت:

“إستطاع أن ينقل الدراما إلى موقع أقرب إلى روح الموسيقى نائياً بها عن رسوخها المرجعي التقليدي الحكائي.”.(1)

بيكيت كما يبدو كان قد دعم هذه الطريقة وتحمس لها حقاً وهذا مانلمسه في الملاحظة التي كان قدمها للناقد تشارلس ماروتيس بقوله :

“يبدو أن المنتجين ليس لديهم أي إحساس بشكل الحركة. أعني نوع الشكل الذي يمكن للمرء أن يعثر عليه في الموسيقى مثلاً من خلال التكرار.”.

جدلية العلاقة بين الموسيقى والدلالة هذه يمكن تلمسها بشكل واضح في مسرحياته القصيرة الأخيرة.

إن معظم نتاجات بيكيت المسرحية تلك التي تلت “نهاية اللعبة” ركزت على سرد قصة حياة (على الرغم من أن حدود التمييز بين الحكاية والتخيل عنده مقوضة تماماً) والتي كانت تنشأ عن شكل درامي يعتمد كثيراً على المونولوغ. إلا أن تلك الحكايات أو القصص كانت تتهرأ وتتشظى في مجرى العرض المسرحي، ويمكننا تلمس ذلك عبر المجرى التشكيلي لمسرحيتي ” مسرحية ” و ” تلك المّرة ” حيث نرى في كلا الحالتين أن أي بنية سردية كانت تستجيب بشكل معاكس عن طريق تشظية ذلك النص وإعادة تنظيمه بأسلوب تجريدي بالنسبة للأصوات الثلاثة في كلا المسرحيتين.

إن محاولات تصوير الحياة أو إنعدامها في مسرحية “وقع أقدام” بالنسبة للشخصية الوهمية بمزقها الرمادية سواء كانت شخصية (ماي) أو (آمي)، يتجاور مع الحركة المكرورة لوقع الأقدام. لهذا نجد أن تجاور المعنى والأسلوب هو المسألة الجوهرية لبيكيت ككاتب وهذا مانجده جلياً في مسرحية ” في أنتظار غودو ” أيضاً، لا بل يتكثف أكثر فأكثر في جل مسرحياته الأخيرة.

إن فصله الكلام عن الحركة خلق ماوصفته كارين لافلين (2) نوعاً من العلاقة المتوترة ما بين مايسمى بـ (عالم خارج خشبة المسرح) ذلك الذي تستدعيه أو تستحضره قصة المتحدث أو المحاور، وبين (عالم داخل خشبة المسرح) وهو العالم المرئي بالنسبة للمتفرج.

لافلين ترى أن مسرح بيكيت يقيم تعارضاً جلياً ما بين الفكرة، أي ما تم تخيله أو تأويله، وبين المُدرك الحسي، تقول:

“إن تقاليدنا الفلسفية الغربية تهدف إلى إعطاء أهمية إلى الفكرة أكثر منه إلى المُدرك الحسي أو الأحساس. مسرح بيكيت كما يبدو يعمل على التضاد من هذا التقييم. بمعنى آخر، إن مسرح بيكيت يُغمرنا أو يشغلنا بالمدركات الحسية.”.

يبدو إن إعتراضات الكاتب على بعض العروض المحددة لأعماله كان مصدرها تجاهل تلك العروض أو إهمالها لمركز إهتمامه الذي يؤكد بشكل حاد ومكثف على آليات تشكيل الفكرة والمُدرك الحسي.

فإبتكار الوضع الأكثر تعقيداً وتفصيلاً يهدف، حسب بيكيت، إلى الأخلال بالكثافة الأدراكية للعرض لأنه يثقله بالأفكار.

ومع ذلك فإن تجريدية مادة بيكيت الدرامية إلى حدها الأدنى هي نفسها ترغم المتفرج على أن يركز إنتباهه على القليل القليل من عناصر الأدراك الحسي المعروض.

الواقع أن مسرح بيكيت يركز على الجدل ما بين البنية الشكلية والتأويل مؤسساً من خلال ذلك علاقة متوترة ودينامية بين الأثنين. تعليقاته وملاحظاته على الشكل في المقابلة التي أجريت معه عام 1956 لها علاقة بشكل خاص بعمله الدرامي ككاتب ومخرج:

“في أعمالي ثمة ذعر يكمن خلف الشكل وليس في الشكل ذاته (… ) إن الشكل و اللا ـ شكل ( اللا ـ تكوّن ) يظلان منفصلين. إن اللا ـ تكوّن أو اللا ـ شكل، لايخضع للشكل أو يضعف أمامه. لهذا السبب يصبح الشكل نفسه هو الشغل الشاغل لأنه يمتلك وجوداً بذاته كمسألة منفصلة عن المادة التي إنبثق منها”.

إن إهتمام بيكيت وقلقه ككاتب وكمخرج بشأن الشكل يمكن أن يكون له علاقة بإنصراف ذهنه يومها بأزمة تأريخ نظرية المعرفة مابعد عصر النهضة.

خلال تمريناته على إخراج مسرحيته “في إنتظار غودو” في برلين عام 1975 كان بيكيت قد أوضح تلك المعضلة مع مايكل هيردتر الذي كان قد دوّن فيما بعد رؤية الكاتب تلك في دفتر يوميات البروفات والتي تقول:

“إن أزمة تأريخ نظرية المعرفة مابعد عصر النهضة بدأت مع نهاية القرن السابع عشر، بعد غاليلو، أي في القرن الثامن عشر، القرن الذي أطلق عليه يومها بقرن العقل (….) أنا شخصياً لم أفهم ذلك ولن أستطيع أن أفهمه على الأطلاق: إنهم جميعاً مجانين حقاً! (…) لقد منحوا العقل مسؤولية هو ببساطة غير قادر على تحملها، لأنه واهن جداً.

الأنسكلوبيديون أرادوا أن يعرفوا كل شيء… غير أن تلك العلاقة المباشرة مابين الذات و بين مايسموه الأيطاليون، القدرة على الفهم، كانت قد تقوّضت تماماً… دافنشي مثلاً ظل يمتلك في رأسه كل شيء، بقي يعرف كل شيء.

أما اليوم فلم يعد هناك إمكانية لمعرفة كل شيء، لأن الرابطة ما بين الذات والأشياء لم يعد لها وجود… لذا ينبغي على المرء في هذه الحال أن يصنع عالمه الخاص به، لكي يفِ بحاجاته الخاصة إلى المعرفة والأدراك وكذلك حاجته إلى النظام.”(3)

إن دراما بيكيت تركز على الأحساس بالعالم المحكوم بقوانين آلية مفروضة عليه من قبل المؤلف ـ المخرج…

(… ينبغي على المرء في هذه الحال أن يصنع عالمه الخاص به لكي يفِ بحاجته إلى المعرفة والأدراك وكذلك لحاجته إلى النظام… وهنا يكمن مغزى وقيمة المسرح بالنسبة لي.

المرء يصنع عالماً صغيراً بقوانينه الخاصة، يدير أحداثه مثلما الحال في لعبة الشطرنج… نعم، فضلاً عن أن لعبة الشطرنج مازالت لعبة معقدة جداً.”. (4)

لكن من ناحية أخرى، دراما بيكيت تستدعي في ذات الوقت الأماكن التي تزوغ أو تنأى عن قوانين العالم الدرامي وأخص بالتحديد المكان الذي تجري فيه أحداث مسرحية “نهاية اللعبة” على سبيل المثال.

في مجمل مسرحياته الأخيرة نرى أن حيز التمثيل المنار حيث كل حركة يقوم بها الممثل مصممة أصلاً ضمن النص، تتجاور مع منطقة أخرى معتمة يصعب فهمها ذهنياً أو حسياً. لقد كان بيكيت يسعى من ذلك إلى أن يؤسس توتراً مركزياً بين الحاجة للتحكم، عبر المعرفة والأدراك الحسي، وبين الجزء المتاح والمرئي لحدود ذلك التحكم.

إن الميزانسين التجريدي إلى حده الأدنى والشديد الدقة على وجه خاص عند بيكيت، يدفع بالتركيز الحاد والكثيف على أية أشارة معطاة، تلك التي تبرز وتتعزز عبر سرعة أو تنافر أو عدم ترابط بعض النصوص المنطوقة وأيضاً عبر فقدان وضوح الرؤية البصرية.

إختزال الميزانسين أو تخفيفه إلى حد التركيز على عمل الجسد والرأس والشفاه وصوت الممثل، لاسيما في مسرحياته الأخيرة، وجّه الأنتباه إلى بنية تقنية يعمل فيها الممثل ضمن نطاق الأختفاء والظهور التدريجي للأنارة أو صوت قرع الأجراس مثلاً في مسرحية “وقع أقدام”. الأختزال الذي من شأنه أن يرغم الشخصية والممثل على تحمل القواعد الصارمة والمتعبة التي يقومان بإنتاجها.

هنا يصبح حضور الجسد أو غيابه هو المركز الرئيس للتجربة الدراماتوركَية والأخراجية لبيكيت، لاسيما وضعية الجسد الملتبسة والغامضة وهو يقف في ملتقى طرق تلتقي فيه الفكرة والأدراك الحسي والعرض كلها في وقت واحد. فمسرحية ” فصل بدون كلام ” مثلاً تعتمد على الأيماءة والحركة فقط لأنها بدون كلام.

إن أهمية نهج أو طريقة بيكيت كمخرج تؤكد على أنه لايبتدأ العمل مع الممثل عبر نقاش الشخصية أو التحفيز والأثارة. إن نهجه يشدد بشكل كلي تقريباً على:

الشكل ، الوضعية ، حركة الجسد ، الأيقاع ، الألتواء أو التغيير في مقامات الصوت .

بيكيت يرى أن الحوار والنقاش مع الممثلين يُجهد ويثقل الأنضباط والتدريب اللذان يستلزمان عمل الممثل البيكيتي.

الممثلة الأمريكية بريندا بينام تصف تجربتها مع بيكيت قائلة:

“إن بيكيت يضعك في جاكيت ضيق كما يفعل ذلك تماماً مع النص. إنه يجعل جسدك وأحاسيسك تتوقف أو تنفصل، سواء كانت سيقانك أو عيونك. فيزيائياً يأخذ منك كل شيء .. يجردك من كل شيء ويضعك في حالة لاتطاق، ومع ذلك ينبغي عليك الأستمرار ( … ) إنه شيء شبيه بعالم داخل ذرة رمل.” (5)

الممثلان جاك ماكوران وباتريك ماغي هما الصديقان الأقرب لبيكيت واللذان كرّسا حياتهما المسرحية للعمل في مسرحياته ككاتب وكمخرج معاً، يتحدثان عن تجربتهما المشتركة مع بيكيت في مسرحية ” نهاية اللعبة “.

لعب ماكوران دور (كلوف) فيما لعب باتريك ماغي دور(هام) . يقول ماكوران:

“.. هام المقيد إلى كرسيه هو شخص بائس وعاجز وضعيف بدون مساعدة كلوف الذي يساعده ويخبره عما يحدث حوله.

كلوف ليس لديه أحد في هذا العالم سوى هام وهو يخشى لوحده أن يواجه العالم العقيم والمجدب في الخارج. إنها صورة لأثنين من الناس أحدهما تابع للآخر، يكرهان بعضهما البعض، وفي ذات الوقت يحبان بعضهما البعض أيضاً بل يفتقد أحدهما للآخر بلا حدود.”.

أما باتريك ماغي (هام) فيقول:

“كلوف هو عيون هام.. جسده. أما هام فهو عقله. إنهما أشبه بتوأمين مثل فلاديمير وإيستراغون في مسرحية “في إنتظار غودو” فهما نصفان لشخص واحد، عقل مشطور إلى نصفين.”.

“ماذا يعني كل هذا بحق السماء؟”. يسأل ماغي بيكيت بغضب أثناء التمرين:

“حسناً” يجيبه بيكيت.

“أتعرف أي نوع من البشر هو كلوف. إنه نوع من الناس الذي يحب أن تصل الأشياء إلى نهاياتها، لكنه لايريدها حقاً أن تنتهي.”…

يقول ماغي:

“بيكيت يضع القليل من القيود على ممثليه، وهو لايهتم كثيراً بتضمين النص أكثر مما يحتمل، ويرشدنا على الدوام أن نتجنب البحث عن الرموز في أعماله.”.

أما ماكوران فيقول:

“إنه يسمح بشيء من الحرية، شرط أن لايتعارض ذلك مع النص.”.

ينبغي أن لاننسى محبة بيكيت لهذين الممثلين فقد كتب مسرحية “شريط كراب الأخير” خصيصاً لباتريك ماغي!.

كان بيكيت يخاطب ممثليه دائماً بعذوبة وود قائلاً:

“إنني أعرف فقط ما يجري على الورق أما أنتم فإعملوا بطريقتكم الخاصة”…

***

بيوغرافيا:

توفي صموئيل بيكيت الشخصية البارزة في ميدان المسرح والرواية والشعر في 22 ديسمبرعام 1989 عن عمر ناهز الثلاثة وثمانين عاماً في إحدى مستشفيات باريس بعد أن أمضى وقتاً في دار رعاية المسنين. دفن وحسب وصيته في مقبرة مونتبرناس بعد حفل جنائزي خاص.

حين عرف هارولد بنتر بموته تذكر لقاؤه الأول به في باريس عام 1961 قائلاً:

“لقد سهرنا معاً تلك الليلة وبقينا نشرب طوال الليل بحيث لم استطع أن أتعافى من ذلك إلا بعد فترة ليست بالقصيرة. لقد كان بيكيت مبدعاً ملهماً لكل الكتاب لاسيما بالنسبة لي. كانت علاقتي به هي بمثابة أفضل اللحظات في حياتي.

لقد كان إنساناً صاحب موّدة لاحدود لها كصديق وككاتب. في كتابته كان لا يعترف أو يقبل بأية تخوم. لقد كان بيكيت شجاعاً في حياته وفنه.”.

ولد صموئيل براكلي بيكيت في دوبلن في ضاحية تدعى فوكسروك في في 13 أبريل (نيسان) على الرغم من أن تأريخ ميلاده كان في الواقع مثار شك وجدل الكثيرين، فقد قيل أن تأريخ الولادة المثبت في شهادة ميلاده هو 13 مايو (مايس) وليس أبريل (نيسان) إلا أنه إختار الأخير لأنه يصادف يوم الجمعة الحزينة، الليلة السابقة لعيد الفصح!.

والده وليم بيكيت كان يعمل مسّاحاً، أما والدته روي بيكيت فقد كانت تعمل ممرضة قبل زواجها.

نشأ بيكيت وأخاه الأكبر فرانك نشأة بروتستانية، وكان تأثير الصرامة الدينية التي مارستها والدته معهما أنذاك قد تركت في نفسه غضباً وضجراً وكراهية نحو اللاهوت ونحوها لفترة غير وجيزة. واصل صموئيل تعليمه في معهد بورتورا الملكي في إينيسكيلين ومن بعد في كلية ترنتي في دوبلن هناك حيث تخصص في دراسة اللغتين الفرنسية والأنكليزية. حصل على بكلوريوس الفنون عام 1927 وشهادة ماجستير الفنون عام 1931.

أمضى سنتين في باريس محاضراً في اللغة الأنكليزية في برنامج متبادل بين جامعتي البلدين، وهناك إلتقى مواطنه جيمس جويس الذي سيصبح صديقاً حميماً له فيما بعد، وتعرّف في ذات الوقت على شخصيات أدبية وفنية أخرى.

ليس صحيحاً بالطبع ما أشيع عنه من أنه كان يعمل سكرتيراً لجويس، والصحيح هو أنه كان صديقاً قريباً ومساعداً له ضمن حلقته، يقرأ له مخطوطاته بعد أن أصبح غير قادر على القراءة لضعف بصره أو ربما العمى الكلي.

أول مقالة كتبها كانت عن جويس ذاته، أما أول قصيدة له فقد نشرت عام 1930 وكانت بعنوان (Whoroscope) تبعها بمقالته الشهيرة عن مارسيل بروست.

في عودته لإيرلندا كان يدرسّ اللغة الفرنسية والأيطالية في كلية ترنتي، إلا أنه في عام 1932 إستقال فجأة وغادر إيرلندا وفرض على نفسه منفىً إختيارياً في لندن ثم راح يجول بعدها في فرنسا ثم ألمانيا قبيل إنتقاله للأقامة بشكل دائم في باريس عام 1937.

نشر في تلك الفترة مجموعة قصص قصيرة بعنوان ” وخزات أكثر منها ركلات ” وديوان شعر بعنوان “Echo’s Bones” والجزء الأول من روايته الأولى “مولي”.

في إقامته في باريس أصبح بيكيت شخصية مألوفة في مقاهي ليفت بانك، وواصل علاقته الحميمة بجويس وبفنانين آخرين أمثال ألبيرتو جاكوميتي الذي سيصمم له شجرة غودو فيما بعد، كذلك ربطته علاقة يومية بمارسيل دوتشامب ( الذي كان يلعب معه الشطرنج).

في عام 1938 وفيما كان يتمشى مع صديق له في أحد شوارع باريس طعنه أحد الشحاذين بسكين ثقبت له إحدى رئتيه وكادت تخترق شغاف قلبه.

تعافى بيكيت بعدها من جرحه إلا أن تلك الحادثة تركت في نفسه جرحاً سيكولوجياً، إذا جاز القول. كان بيكيت قد قام بزيارة ذلك الشحاذ في سجنه مستفسراً منه عن سبب إعتدائه عليه، فكانت إجابته: ” أعتذر أيها السيد، لا أعرف لماذا.”.

يومها تنازل بيكيت عن القضية، إلا أنه ومنذ تلك اللحظة أدرك وأكثر من أي وقت مغزى كلمات ذلك الشحاذ وتأثير الصدفة والفعل العشوائي في حياتنا.

كان بيكيت، قبل ذلك الحادث أو بعده، قد إلتقى بفتاة تدرس البيانو إسمها سوزان ديسكافوكس داميسنيل، المرأة التي ستصبح زوجته فيما بعد، والذي إختار البقاء معها أنذاك في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية على العودة آمناً إلى إيرلندا. يومها أصبح ناشطاً متميزاً في حركة المقاومة الفرنسية ضد الأحتلال النازي.

لقد إضطرا معاً، على الهرب من باريس والأتجاه إلى روسيلون جنوب فرنسا بسب إكتشاف النازي للخلية التي كانا ينتميان إليها، يومها صار يعمل أجيراً زراعياً في الحقول مستأنفاً بحيوية وحماس إيصال الرسائل إلى المقاومة وقيل يومها للطرافة أنه كان أشبه بصندوق بريد!.

أنجز خلال تلك الفترة روايته “وات” ويُعتقد أن معاناة الأختباء خلال فترة الحرب هي التي ألهمته كتابة مسرحية ” في إنتظار غودو ” ورواية “Mercier and Cami”.

في نهاية الحرب عمل بيكيت في مستشفى الصليب الأحمر الأيرلندية في سانت لو، وقد منح فيما بعد وسام الدولة الفرنسية للشجاعة لقاء خدماته البطولية مع المقاومة الفرنسية.

بعد ” وات ” بدأ يكتب بالفرنسية، اللغة التي سمحت له كما لاحظ كاتب سيرته ريتشارد إيلمان : ” من أن يتحرر بشكل خاص من تقاليد اللغة الأنكليزية “.

السنوات 1947ـ1952 كانت من أفضل فترات عطاءاته الأبداعية، حيث إستطاع أن ينتج جل أعماله خلال تلك السنوات الخمس، فقد كتب مسرحيته الأولىEleutheria وتبعها بمسرحيته ” في إنتظار غودو ” التي قال أنه كتبها بقلم رصاص في دفتر مدرسي منجزاً إياها في فترة أربعة شهور. وقد

أكمل خلال تلك الفترة أيضاً الأجزاء الأولى من ثلاثيته الروائية “مولي، مالون يحتضر، اللامسمى”.

شهدت مسرحية ” في إنتظار غودو ” عرضها الأول في باريس على قاعة مسرح بابيلون 1953 وكان أخرجها الممثل والمخرج الفرنسي روجر بلين. أما في إنكلترا فقد تولى إخراجها بيتر هول عن النسخة المترجمة من قبل بيكيت نفسه (قيل أن بيكيت كان متذمراً وغاضباً من عرض هول).

عام 1956 قام المخرج مايكل مايربيرغ بإخراج النص في ميامي على قاعة مسرح كوكانات غروف مع الممثلين توم إيويل وبيتر لار، ثم إنتقلت المسرحية إلى برودواي من نفس العام مع مخرج آخر هو ألان شنايدر والممثل إيويل.

لم تلق المسرحية يومها ثناء أو صدىً طيباً من قبل النقاد الأميركان ربما بإستثناء الناقد إيريك بنتلي، ثم توقف المسرحية بعد 59 يوم من عرضها.

بالتوازي مع عرض المسرحية في لندن كان بيكيت أكمل مسرحيته الثانية “نهاية اللعبة”، هذه المسرحية المرادفة للعبة الشطرنج والتي يضطهد فيها السيد هام خادمه كلوف في غرفة تحت الأرض وهو يتطلع نحو فراغ العالم، فيما يعيش والديه في صندوقي قمامة.

تبعها مباشرة بمسرحية إذاعية إسمها ” كل الساقطين” والمونودراما “شريط كراب الأخير” التي كتبها خصيصاً للممثل باتريك ماغي كما ذكرنا.

عام 1958 وخلال عام واحد كتب مسرحيتان هما “الجذوات” و “فصل بدون كلمات 1”. أما مسرحية “الأيام السعيدة” فقد أكملها عام 1961 والتي فيها ُتدفن ويني الشخصية الرئيسية في كثيب رملي حتى ثدييها في الفصل الأول ومن ثم حتى عنقها في الفصل الثاني.

إبتداءً من الستينات صار بيكيت يكتب مقاطع أو شظايا درامية موجزة إختفت فيها شخصية المهرج مستبدلاً إياه بشخصيات شبحية شبه مرئية تنازع لتستبقي أو تحتفظ بتأثير واهن من إحساسها بذاتها وبالمكان الذي تتحرك أو تتكلم فيه. فقد كتب في تلك الفترة مسرحيات إذاعية وتلفزيونية بضمنها مسرحية “مسرحية” 1963 والتي ُيغمر فيها ثلاث شخصيات في وعاء كبير مليء برماد الموتى. وفي ذات العام أنجز مسرحية إذاعية بعنوان Cascando وأيضاً مقطع سردي بعنوان Imagination Dead Imagine.

قام بيكيت برحلته الوحيدة إلى الولايات المتحدة عام 1964 لغرض تصوير فيلمه القصير”فيلم” المأخوذ عن مسرحيته التي بنفس الأسم، والذي أخرجه شنايدر بمشاركة باستر كيتون.

في العام 1966 أنجز مسرحيتان هما: Eh Jo”” و “تعال وإذهب”.

حين سجن الكاتب الأسباني فرناندو أرابال في مدريد عام 1967 بتهمة الخيانة العظمى، بعث يومها بيكيت برسالة إلى مدريد أسهمت حقاً في إطلاق سراحه، وكرّد فعل لذلك الجميل نشر أرابال تلك الرسالة على الغلاف الخلفي لمجموعته المسرحية. علاقة بيكيت بالكاتب المسرحي العبثي فرناندو أرابال ترجع إلى عام 1957.

سئل أرابال مرة إن كان قد لعب الشطرنج مع بيكيت أجاب بعجالة:

“كلا.. والسبب أنني لا أريد أن أفقده”.

حاز بيكيت على جائزة نوبل في الأدب عام 1969، وقد قال كارل لانجر سكرتير الأكاديمية السويدية حينها أن كتاباته “… بزغت مثل مرثاة لكل الجنس البشري، مفتاحها المكتوم يعلن الحرية للمقموعين والعزاء لمن هم بحاجة إليها.”.

كان بيكيت يومها يقضي إستراحته هو وزوجته سوزان في تونس والتي عّلقت إبان سماعها الخبر بكلمة: “يا للكارثة” ظناً منها أن تلك الجائزة ستقلب وتغيرّ كل نمط حياتهما الذي تعوداه!. أما بيكيت فيقال أنه توارى في إحدى القرى التونسية كي لايذهب لإستلام الجائزة. وبالفعل رفض الحضور لأستلامها وبعث عوضاً عنه ناشره وصديقه جيروم لاندون، وقيل يومها أنه أوصاه بأن يخصص كل مردود تلك الجائزة والتي تبلغ قيمتها مايساوي 72:800 دولار للفنانين المعوزين.

في مقابلة أجراها معه الكاتب الأمريكي مل كَاسو يذكر الممثل جاك ماكوران:

“إن عدم قبوله جائزة نوبل سببه أنه شعر في أعماقه بنوع من الحياء لأن كان يظن أن جويس مواطنه وصديقه هو الوحيد الذي يستحقها لأنه هو من أثار الأنتباه إلى اللغة الأنكَليزية وأحدث رؤية جديدة كاملة فيها على حد قوله”.

واصل بيكيت كتاباته للحفاظ على خصوصيته، إلا أن مسرحياته ونثره أصبحا أكثر إيجازاً كما يبين ذلك في مسرحية ” Not 1 ” التي كتبها بعد رحلة إلى المغرب عام 1972 والتي رسم فيها الشخصية الرئيسية على شكل فم إمرأة مثقل بأحمر الشفاه، وكذلك مسرحية ” تلك المرة” عام 1976 والتي فيها تظهردائرة ضوء تنير رأس رجل وعليه هالة من الشعر الأبيض، ومسرحية ” لعبة الراكَبي ” التي كتبها عام 1980 تلعب فيها الدور الرئيسي إمرأةعجوز تؤرجح نفسها وتهزها بعنف حتى الموت.

في هذه المسرحيات إختار بيكيت أن يعالج ماسمّي يومها بـ ” النزاع مع مناجاة النفس ” من خلاله كان ينخل الماضي وتحّمل وزر مواصلة الحياة.

كتب مسرحيات للأذاعة والتلفزيون، وقطع نثرية سماها ” ثفل ومُزق “. إثنان من قطعه النثرية نشرت كروايات قصيره هما: ( Worstward Ho) و (. ( Company

في الثمانينات صار بيكيت أشبه بأيقونة مازالت باقية على قيد الحياة، فعلى الرغم من توكيده من أنه لم يعد يمتلك شيء ليقال، إلا أنه واصل البحث عن طرق للتعبير عن نفسه.

كتب مرة عن الرسم قائلاً:

“لايوجد شيء للتعبير عنه، ليس هناك مقدرة أو حتى رغبة على التعبير، لكن هناك في نفس الوقت إلتزام ما… للتعبير.”

الألتزام كان بالنسبة لبيكيت شيء لايمكن مقاومته، وهذا ما يتعارض تماماً وتأويلات نتاجاته.

كان يزور لندن بين الحين والآخر للإشراف على عروض مسرحياته، أو يسافر إلى ألمانيا هناك حيث كان يعمل بتكرار على مسرحيات تلفزيونية.

في العام 1975 قام بنفسه بإخراج مسرحيته (في إنتظار غودو) بنسختها الألمانية وكان قد عمل مساعداً للأخراج معه والتر دي آسموس المخرج الألماني الذي يتولى إخراج النص ذاته الآن على مسرح باربيكان والذي يستأنف عرضه منذ عام 1991.

كانت لدى بيكيت شراكات إبداعية وتعاون حميم مع ممثلين بارعين أمثال جاك ماكوران، باتريك ماغي، بيللي وايتلو وديفيد ويريللو وسواهم وعمل مع مخرجين لامعين عديدين لاسيما صديقه آلين شنايدر الذي أخرج معظم العروض الأولى لمسرحياته في أمريكا. حينما قتل شنايدر في لندن إثر حادث سير عام 1948 كان ذلك بالنسبة لبيكيت كارثة كبرى.

حافظ بيكيت على مألوفه اليومي في سنواته الأخيرة فقد عاش هو وزوجته سوزان في شقة في شارع سانت جاكويس، تلك الشقة التي تحيطها من جوانبها الثلاث مقبرة الحي المجاورة من جانب وسجن سانتي من جانب آخر ومستشفى للمجانين من الجانب الثالث.! وكان يزور بيته الريفي الذي يبعد حوالي 60 ميلاً عن باريس.هو وزوجته سوزان بإنتظام.

كان بيكيت يرتاد المقهى المحلية بشكل يومي يلتقي أصدقاءه، يشرب قهوة إيسبريسو ويدخن مختلف أنواع السجائر، ولم ينقطع قط عن الكتابة فقد كان يكتب بشكل دوري مسرحيات قصيرة وقطع نثرية صغيرة.

نُقل هو وزوجته سوزان إلى دار المسنين إثر سقوطه المفاجىء في شقته، وهناك واصل إستقباله الزائرين من أصدقائه ومريديه.

عاش عامه الأخير في غرفة صغيرة مفروشة، وكان لديه جهاز تلفزيون يتابع من خلاله مشاهدته لمباراة التنس وكرة القدم، وكانت لديه بعض الكتب بضمنها نسخة قديمة للكوميديا الألهية لدانتي باللغة الأيطالية يحتفظ بها منذ طفولته.

آخر عمل نشر له وهو مايزال على قيد الحياة هو Stirrings still وهي قطعة نثرية قصيرة نشرت بمناسبة بلوغه الثلاث والثمانين عاماً، الشخصية الرئيسية فيها شخص يشبه الكاتب يجلس وحيداً في غرفة أشبه بزنزانة لحين ظهور مثيله أو شبيهه وتلاشيه من بعد.

بعد وفاة زوجته في 17 يوليو من عام 1989 غادر بيكيت دار المسنين لأول مرة لحضور جنازتها، وبعد مرور فترة على وفاتها إشتد به المرض فإنتقل إلى مستشفى باريس ليموت هناك في 22 ديسمبر من نفس العام.

***

( قائمة بمسرحياته )

1953 في إنتظار غودو.

1957 نهاية اللعبة . كل الساقطين. فصل بدون كلمات1. شريط كراب الأخير.

1958 الجذوات.

1959 فصل بدون كلمات 2 .

1961 الأيام السعيدة.

1962 كلمات وموسيقى.

1963 Cascando . مسرحية.

Eh Joe 1966 . تعال وإذهب.

1969 َنفـَسْ.

1972 Not 1

1976 تلك المرة. وقع الأقدام. ثلاثية الشبح.

1977 But the clouds…. (إذاعية)

1980 نموذج مونولوغ. لعبة الراكَبي.

1981 Ohio Imprompyu

1982 الزوايا الأربعة. الكارثة.

1983 Nacht und Traume. What Where.

( هوامش )

S.E.Gontarski’ The entent of “ undoing’p 184(1)

2) Karen Laughlin,’ Seeing is pereceiving’ p 242)

(3) Michael Haerdter, ‘ Endgame ‘ a rehersal diary’ in Beckett in the theatre. p231

McMillan and Feshenfeld’ Beckett in the theatre p231(4)

In Linda Ben – Zvi(ed )’ Women in Beckett. P53 (5

الجزء الثاني

(لا شيء يحدث، لا أحد يأتي، لا أحد يذهب. هذا شيء رهيب)

إيستراغون

لقد ُكتب الكثير عن هوية غودو، إلا أن الرؤية الأكثر عمقاً ودلالة هي تلك التي تؤكد على أن غودو هو ما نعتقده شيئاً آخر غير الذي نعتقده!.

إنه “الغائب” الذي يمكن تأويله على أنه “الخالق” أو ربما “الموت”، ومن الممكن أيضاً أن يكون المستبد بوزو نفسه. ومع ذلك فإن لغودو وظيفة أخرى أكثر من كونه يشكل دلالة محددة، فهو الوهم الذي يبقنا مقيدين بهذا الوجود، وهو الشيء الذي لاسبيل إلى معرفته.

غودو هو صورة وهمية أو خيال لما نريده نحن أن يكون، طالما أن بإستطاعته أن يسّوغ حياتنا كحالة من الأنتظار. ربما هو “الأنتظار” نفسه ومن الممكن أيضاً أنه يمثل “الأمل” في زمن لاأمل فيه.

الأمل يتشيد هنا كشكل من أشكال الخلاص مُجسّداً بشخصية غودو أو ربما بالشخصيتين بوزو ولاكي أو.. بالموت نفسه. لكن حين يصبح الأمل مقترحاً مستحيلاً عندئذ تصبح ثيمة المسرحية نموذجاً لكيفية تزجية الوقت (الحياة)!.

حين يحاول إيستراغون نزع حذائه ويفشل في قيامه بذلك يعّلق قائلاً:”ليس ثمة شيء يمكن عمله”، وحين يسمع صديقه فلاديمير تلك العبارة بالصدفة لايعزو دلالاتها لصعوبة خلع الحذاء، بل لمآزق أخرى تتعلق بحياة إيستراغون الخاصة فيعلق قائلاً:”لقد بدأت أقتنع بهذه الفكرة”، مستخدماً ذات العبارة فيما بعد في مأزقه مع قبعته بنفس الدلالة التي كان يعنيها إيستراغون.

عبارة “ليس ثمة شيء يمكن عمله” جوهرياً، هي توصيف كامل ومختزل لمفهوم اليأس. لذا فإن النتيجة المنطقية لتفكيرهما معاً ستكون حتماً إتباع سلوك يقصيهما عن التفكير، شيء ما يشغلهما عن ذلك كاللعب أوالتسلية أو إختلاق حكايات وأفكار ملفقة من أجل تمضية الوقت. لذا من الممكن إفتراض أن حتى حكاية غودو نفسها ربما هي حكاية ملفقة إختلقاها لأضفاء مغزىً ما على حياتهما، حيث العبرة ليس في مجىء غودو إنما في مواصلة الأنتظار.

***

المسرحية مشيّدة من فصلين متماثلين ومكررّين يحدثان في يومين متعاقبين. في شارع ريفي وبالقرب من شجرة جرداء يجلس مشرّدان أحدهما يدعى فلاديمير (ديدي) والآخر إيستراغون (غوغو) بإنتظار شخص يدعى غودو. إنهما لم يرونه من قبل وحتى لو رأوه فلن يعرفانه، ومع ذلك فهما يعتقدان أنه هو من رتبّ لهما هذا اللقاء وفي هذا المكان!.

في منتصف النهار يصل شخصان غريبا الأطوار، سيد وعبده، الأول يدعى بوزو والآخر لاكي. يظن المشردان في البدء أن السيد بوزو هو غودو، إلا أن ذلك الظن يتبدد حالما يخبرهما أنه صاحب هذه الأرض التي يقفان عليها الآن.

يسحب السيد خادمه لاكي بواسطة حبل ُعّلق برقبته آمراً إياه أن يجلب له الطعام. يُحضر لاكي له دجاجة فيبدأ بوزو بإلتهام الدجاجة ورمي عظامها إلى لاكي. بعدها يخبرهما أنه ذاهب إلى السوق لبيع خادمه لاكي ويغادران.

يصل صبي في آخر النهار ويخبرهما أن السيد غودو لم يستطع الحضور هذا المساء، إلا أنه سيحضر في الغد حتماً.

في صباح اليوم التالي يعود بوزو ولاكي ثانية وقد أصبح الأول ضريراً والثاني أخرس. السيد يصبح عبداً والعبد سيداً!. (تبادل أدوار)..

يظهر الصبي ثانية في المساء مكرراً عليهما جملته السابقة ذاتها، شاجباً مايقولانه أنه جاء إلى هنا في الأمس أو كان إلتقى بهما من قبل.

في النهاية يقطع المشردان عهداًعلى نفسيهما في المغادرة والعودة ثانية لإنتظار غودو:

فلاديمير: حسناً، هل ينبغي علينا أن نغادر الآن؟

إيستراغون: نعم، هيا بنا.

(يتسمران في مكانهما)

***

(العادة بلادة كبرى)

كان بيكيت قد فكرّ في نسخته الأولى للمسرحية أن يكون عنوانها (إنتظار) فقط، من دون غودو، لأجل صرف إنتباه المتفرج عن هذه الشخصية الملتبسة غودو، لينشغل في موضوع الأنتظار، آملاً من ذلك، أي بيكيت، أن لاينهمك متفرجه في التركيز على أية شخصية في المسرحية قدر أن يفكر في كيف أن وجودنا كله هو عبارة عن إنتظار.

في رواية “الطاعون” يستنتج البير كامو إلى أن السأم، هو محصّلة لفعل الأنتظار، وكلاهما نتاج واحد لأنهيار العقل والجسد معاً سببه الروتين والعادة، ما يدفع بالمرء إلى أن يفكر ويتأمل هويته الذاتية بشكل جاد، تماماً مثلما يفعل ديدي وغوغو في المسرحية. هذه الفكرة تكاد تتماهى تماماً وموضوعة “التأمل” الذي هو نشاط راكد يسمح للمرء في أن يفكر بصفاء.

الأنتظار هو تهكم صارخ لفعل وجودي غير مبرّر أو مجدي ولن يأتِ بشيء، فبدل غودو المنتظر يأتِ بوزو الأعمى يقوده عبده الأخرس. أعمى وأخرس.!

إن هدف إنتظار فلاديمير وإيستراغون لغودو “الذي لن يصل مطلقاً” هو أن يضعا نظاماً أو منهجاً لحياتهما، إلا أنهما يخمدان شيئاً فشيئاً وسط لاجدوى ذلك الأنتظار مكررّين جملة واحدة تصبح أشبه باللازمة:”ليس ثمة شيء يمكن عمله”.

فلاديمير نفسه يصل إلى قناعة راسخة من أن الوجود هو شي غير مجدي:

فلاديمير: كنت أحاول طوال حياتي أن أكفّ عن ذلك، لكنني مع ذلك بقيت مستأنفاً معركتي. إيستراغون: وكيف تورطنا في هذه القضية؟.

فلاديمير لايجيب بالطبع على سؤال كهذا.

بيكيت يحاول هنا أن يوصل خطاباً مفاده إن التفكير في الأسئلة التي يصعب الأجابة عنها والتي تبرز كمحّصلة لفعل الأنتظار يُنتج الألم والقلق وتعطيل فعالية الأنسان وتحطيمه من الداخل.

إن شخصياته ينبغي عليها أن تواصل إنتظارها للشيء الذي لن يأتِ مطلقاً، تماماً مثل لاجدوى معاودة حمل سيزيف لصخرته مرات ومرات ومرات، إلا أنها، أعني شخصياته، مع ذلك تظل تنتظر وتنتظر حتى اللحظة الأخيرة للسقوط في هوة الشيخوخة والخرف، المرحلة التي تقزّم تلك الشخصيات وتضاعف من بؤسها وعجزها وتبعيتها في الآخِر.

الأنتظار في مفهوم بيكيت هو ليس فراغاً بل فعالية متعاقبة، من الممكن أن تكون فعلاً غريزياً أو ربما فعلاً عقيماً، وكل ذلك يتوقف على إدراك المرء له. والأنتظار، بالنسبة لبيكيت نفسه يصبح أيضاً أسلوباً للحياة، فهو إنتظار للإلهام، إنتظار للمعرفة، إنتظار للأدراك أو ربما إنتظار… للموت.

بيكيت يؤمن أن الناس يحاولون أن يخففوا عنهم عبء أوجاع الحياة والوجود عن طريق العادة. فمفهوم “العادة” شيء جوهري بالنسبة للوجود الإنساني، وهو الأساس الذي شيد عليه سارتر نفسه وجهة نظره التي تزعم أن:(… الناس هم بحاجة إلى أساس عقلي أو منطقي لحياتهم غير أنهم غير قادرين على تحقيق ذلك، ولهذا تجد إن حياتهم هي معاناة متواصلة وعقيمة).

فلاديمير وإيستراغون يسعيان لأقامة مثل هذه القاعدة المنطقية أو العقلية لحياتهما عبر الأنتظار،إلا أنهما غير قادرين على تحقيق ذلك، ومن هنا تنشأ معاناتهما العقيمة.

إن قوانين الذاكرة، حسب بيكيت، تخضع للقوانين الأكثر عمومية لمفهوم العادة، وهو يحس أن العادة هي الدرع الذي يحمينا من الأشياء التي لايمكن التنبؤ أو التحكم بها.

في بحثه عن بروست، كتب يقول:

(العادات هي نوع من التسوية أو حلاً وسطاً بين الفرد والبيئة (…) إنها تلك الصفقات التي توفر ضمانات مادية وروحية لكبح تخطي المحرمات البليدة والمضجرة وإنتهاكها. العادة هي أشبه بالسلسلة التي تثقل رقبة الكلب وتدفعه للتقيؤ.

التنفس عادة.. الحياة نفسها عادة أو بالأحرى سلسلة متعاقبة من العادات، طالما أن الفرد نفسه هو سلسلة من الأفراد المتعاقبين، ذلك لأن خلق العالم لايحدث مرة واحدة وإلى الأبد، لكنه يحدث كل لحظة)..

فلاديمير يعبرّ عن هذه الفكرة بجلاء في نهاية المسرحية قائلاً: “العادة هي بلادة كبرى”، موحياً أن العادة بالنسبة للأنسان هي بمثابة الدواء المّسكن للألم.

(العوامل الكابحة للتفكير)

المسرحية هي أشبه بطقس يمارسه هذين المشردين لملأ فجوات الفراغ والصمت:”إن ذلك سيُمضي الوقت” يقول فلاديمير مقترحاً أن يروي لإيستراغون قصة صلب السيد المسيح. الشيء الوحيد الذي يستحوذ على تفكير الأثنين إذاً هو تزجية الوقت:

فلاديمير: إن ذلك سيُمضي الوقت.

إيستراغون: الوقت سيمضي في كل الأحوال.

فلاديمير: نعم ولكن ليس بسرعة.

إيستراغون، الذي كان يعارض مثل هذه الفكرة في البدء، ينضم إلى هذه اللعبة فيما بعد مقترحاً:”هذه فكرة جيدة، دعنا إذاً نجري محادثة بيننا”.

بيكيت في هذه المسرحية يستخدم صيغ (السؤال والجواب والتكرار) في محادثات كهذه بديلاً تهكمياً لتلك المحادثات المترهلة والمبتذلة التي كانت تثقل ما كان يعرف حينها بـ”المسرحية جيّدة الصنع”، فطالما أن موضوعه المركزي هو السأم والأنتظار، وأن شخصياته لاتمتلك ذلك التأريخ الطويل أو المرّكب، تجده يستغني تماماً عن شيء إسمه الحبكة.

إن مايدفع هذان المشردان إلى الحديث المبتذل تارة والفلسفي تارة أخرى، هو العدم والفراغ الذي يقاتلانه ببطء.

بيكيت يحاول هنا أن يقيم نوعاً من المقارنة بين فعل السكون وفعل الحيوية مؤكداً أن الحيوية تقوّض عملية التفكير، وأن هذه الأخيرة لايمكن أن تنشأ إلا عبر حالة من السكون أو الخمول فقط:

إيستراغون: نحن غير قادرين على البقاء صامتين.

فلاديمير: أنت على حق، فنحن لانتعب ولانكل.

إيستراغون: لاتنسى إن الحديث يجنبنا التفكير أيضاً.

(الصمت البليغ)

الصمت والوقفات عنصران جوهريان في دراما بيكيت، فقد مكنه عنصر الصمت مثلاً من أن ُيظهر (العجز) الذي يلم بالشخصيات حين لا تستطيع العثور على الكلمات التي هي بحاجة إليها للتعبير عنه، كذلك يُظهر (الكبح والإخضاع) حين يصيبها الخرس من هول موقف محاوريها أو بسبب إحساسها أنها ربما بذلك ستنتهك التابو الأجتماعي.

إنه صمت حدس الشخصية وهي في إنتظار إستجابة الآخر كنوع من العزاء ربما يمنحها إحساس مؤقت بالوجود.

إن ثمة فترات من الصمت تقطع مجرى المحادثات أثناء سيرها لسد تلك الثغرات التي تتوسط الكلمات، وتبدو فترات الصمت تلك أيضاً كما لو أنها تشكل نوعاً من التعبير عن الفقدان، الفراغ، الوحدة.. إلخ. هذا التناقض بين الصمت والكلام يمكن أن يعكس هنا الأحساس بالتوازن في الكون.

سقوط حديث العبد لاكي في هوة الصمت يمكن أن يعطينا إنطباعاً جلياً عن الأستجابة القصوى لبيكيت نفسه إزاء الفوضى والعشوائية واللامعنى للكون: الصمت.

أما الوقفات فوظيفتها أنها تترك حيزاً وزمناً للقارىء أو المتفرج ليستكشف ويسبر تلك المساحات الفارغة بين الكلمات، ليتدخل هو نفسه حينها، إبداعياً وشخصياً، في تأسيس أو ترسيخ مغزىً ما للمسرحية.

(الزمن بمنظوره البيكيتي)

إذا كان كل يوم هو شبيه ببقية الأيام فكيف يمكننا التمييز إذاً أن الزمن يمضي حقاً وأن النهاية قريبة؟

غودو ُيعلل بوعد زمني في الوصول لن يحدث مطلقاً، ومع ذلك فهذا معناه أن الشخصيات وهي في توقها للقاءه تتطلع نحو مستقبل ما. لكن، طالما لايوجد ثمة ماض، أو أن هذا الماضي لايتضمن سوى نوستالجيا مجردة، فمن الممكن جداً أن لاوجود للحاضر أصلاً وبالتالي لاوجود حتى للمستقبل.

لذا ومن أجل أمكانية ما للظن بمستقبل لاوجود له، فإن الشخصيات والحالة هذه هي بحاجة إلى إختلاق ماض ٍ ما لنفسها وذلك عن طريق تلفيق القصص.

في هذه المسرحية يعبّر بيكيت عن الزمن بـ (الوهم) أو (السرطان) كما يسميه، ذاك الذي يضلل البشر بكذبة أنهم في تقدم متواصل فيما هو في الواقع ينخرهم من الداخل!.

فلاديمير وإيستراغون ينتهوا مثلما بدأوا دون أي تقدم في الزمن إلا من ورقتين أو ثلاثة أوراق قد نمت على غصن الشجرة في الفصل الثاني، التي يمكن أن ترمز إلى الأمل، إلا أن الشيء الأكثر منطقياً هو أنها ترمز إلى المرور الوهمي للزمن.

في بحثه عن بروست يكتب بيكيت:”.. الزمن شرط خطير ولدنا من أجله، فهو من يغيرنا بشكل متواصل دون معرفتنا، وفي الآخِر يقتلنا دون موافقتنا”.

الزمن هنا ينحت في ذاكرة إيستراغون ويسبب إنحساراً في طاقة كلا الشخصيتين. الزمن أيضاً يقوّض صورة المستبد في بوزو ويجرده من كل الأشياء تقريباً.

إن معاناة بيكيت المريرة من الزمن تتجلى تماماً في كلام بوزو وهو يخاطب المشردين قائلاً:

“متى!. ألم تكتفيا بتعذيبي بوقتكما الملعون هذا. أمر فظيع. متى! متى! متى!. يوم ما، يوم كغيره من الأيام.

يوم أصبحَ هو أخرس ويوم أصبحتُ فيه أعمى ويوم سنصبح جميعنا بُكم. ذات يوم ولدنا وذات يوم سنموت. اليوم ذاته واللحظة ذاتها. ألا يكفيكما هذا. إن النساء يلدن أطفالهن والقبر مفتوح تحت سيقانهن. وهكذا، يتلألأ الضوء لحظة ثم يأتي الليل ثانية”.

المسرحية ذاتها تتضمن فصلين هما عبارة عن دورتين من الزمن، مرآتين تعكسان بشكل لانهائي صورة واحدة.

الزمن الطولي يتحطم هنا ليحل بدله زمناً دائرياً أو أستطيع القول زمناً سوريالياً.

الصبي يعود مرتين ليكرّر عليهما أن غودو لن يعود اليوم. فلاديمير نفسه يقول:”إن الزمن قد توقف”. إن الترميز إلى الزمن يتثبت أيضاً عبر الظهور المتكرر لبوزو وتابعه لاكي اللذان يصلان كسيد وعبد في الفصل الأول ثم يتبادلان الأدوار في الفصل الثاني حيث يظهر لاكي وقد أصابه الخرس يقود سيده بوزو الذي أصبح ضريراً بحبل مشدود برقبته.

إيستراغون نفسه لايستطيع مثلاً أن يتذكر فيما إذا كان الناس الذين ضربوه اليوم هم ذات الناس الذين ضربوه في الأمس.

بوزو ينسى متى أصبح ضريراً ولاكي لايعرف متى أصبح أخرساً، رغم أننا نعرف أنهما كانا يبصران ويسمعان ويتكلمان يوم أمس.

ينبغي أن نتذكر هنا كيف أن بوزو كان قلقاً ومهموماً بشأن الوقت وكيف أنه غالباً ما كان يرجع لساعته وبشكل إستحواذي في الفصل الأول، وكيف شعر بالفزع حين فقدها. حين يفقد بوزو بصره في اليوم الثاني يبدأ ولأول مرة يدرك كيف أن الوقت الآن لامعنى له.

حسناً، إذا كان الوقت بلا معنى فلابد من البحث عن طريق لتزجيته:”دعنا نختلق لعبة” يقول إيستراغون لفلاديمير.

إنهما يبتكران طرقاً متعددة لتبديد هذا الوقت عن طريق تناول الطعام مثلاً أو النوم نوماً خفيفاً أو الحلم أو حتى شتم بعضهما البعض أو إبتكار ألعاب بما يتوافق مع مزاجهما وحاجتهما.

إن إبتكار لعبة هي واحدة من مهّمات الممثل: دعنا نمّثل! هذا هو المقصود. وبيكيت يحاكي بشكل ساخر هنا فن التمثيل في المسرح.

هذا اللعب الطفولي لفلاديمير وإيستراغون يمكن رؤيته أيضاً كنوع من محاكاة ساخرة لكيفية شعور بيكيت بلا جدوى معظم العلاقات الأجتماعية.

من الممكن بالطبع إقامة علاقات إجتماعية في حياتنا، لكن من الممكن جداً أن تكون تلك العلاقات مؤذية أو بدون معنى. إذاً ماجدوى من قيامنا بعلاقات كهذه؟

بيكيت يعلل ذلك من أننا ببساطة لانستطيع إحتمال فكرة أن نبقى وحيدين!.

فلاديمير وإيستراغون أحدهما بحاجة إلى الآخر، وهذا مايمكن أن نحسه من خلال الحنو والرقة التي يتبادلانها.

إنهما بحاجة إلى بعضهما البعض كصديقين، كغوث أو عون من رعب الوحدة، وأيضاً كشهود كل منهما يشهد بوجود الآخر، أما عكس ذلك فكل مايحدث هو بوضوح مجرد إختلاق من مخيلتيهما لاغير.

لاشك أن الزمن يشكل عنصراً هاماً في دراما بيكيت فهو يمضي ويأبى أن يمضي بسرعة كافية، إلا أن الطريقة التي ُيظهر فيها بيكيت شخصياته ضمن دائرة هذا الزمن تظهرهم كما لو أنهم يحيون في عالم يخلو فيه الزمن من أية دلالة، ففيه يصبح الناس كما يبدو عمياناً أو بُكماً بغتة وليس بمقدورهم حتى أن يتذكروا متى أصبحوا كذلك.

بروست يعتقد أن:”… الذكريات السليمة عن الماضي تساعد الأنسان على تنظيم أفعاله في الزمن الحاضر والتأثير عليها تأثيراً فعالاً”.

في مسرحية “شريط كراب الأخير”، ثمة رجل يتحدث مع أشرطة صوتية كان سّجلها بصوته قبل ثلاثين عاماً، تلك الأشرطة تصبح أكثر إضاءة وواقعية من الحاضر نفسه بالنسبة له.!

إن المعلومات المتعارضة بشأن أحداث الماضي ُتعطى للمتفرج بشكل متواصل، لهذا تجده في حالة من الإرباك بشأن وقت حدوثها أو هل أنها حدثت حقاً أثناء وجود الشخصيات على المسرح.

هذا بالطبع فعل متعمد أو مقصود من بيكيت لأن الزمن بالنسبة له هو عبارة عن وهم، فكل شيء يتغير، لكنه يبقى كما هو!.

بكلمة أخرى، إن الزمن يظهر بلا ريب كقوة تدركها الشخصية، لكي تتداعى وتضمحل أكثر فأكثر، ذلك لأن ليس ثمة جدوى من إستمرارها في الوجود.

***

(عرض تجاوز العقدين)

والتر دي آسموس(*) الذي يتولى العملية الأخراجية للعرض الحالي هو مخرج مسرحي وتلفزيوني ألماني يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية.

عمل آسموس مساعداً لبيكيت في إخراجه للمسرحية عام 1975 في برلين، لذا فمن الجائز جداً أن يحمل العرض الحالي الكثير من لمسات بيكيت.

في إخراجه الأول للمسرحية عام 1978 كان آسموس قد أجرى نقاشات عميقة ومطولة مع بيكيت قبل بدأه التمرينات ونتيجة لذلك النقاش، حسب بعض النقاد، ظهر العرض أشبه باللعب الكوميدي المتبادل ما بين خشبة المسرح والجمهور. (عرضت المسرحية يومها في أكاديمية الموسيقى في بروكلين). إلا أنه عاد وأخرجها ثانية عام 1988 بطاقم تمثيلي جديد تضمّن كلا الممثلين الحاليين (باري ماكوفرن وجوني مورفي)، وظل العرض يجول في شيكاغو، سيفيل، نيويورك، ومن بعد سافر إلى ميلبورن ثم تورنتو فشنغهاي وطوكيو.

في عام 1991 ُقدمّ العرض ذاته على خشبة مسرح Gate في دوبلن ضمن فعاليات مهرجان بيكيت المكرس أنذاك لمرور(85) عاماً على ولادة الكاتب، وهاهو الآن يكرر زيارته ثانية لكن هذه المرة إلى لندن ومن على خشبة مسرح باربيكان بمناسبة الذكرى المئوية لميلاده.

***

(شخصيات مسرحية أم دمى مؤسلبة؟)

في كتابه “صموئيل بيكيت” يقول الناقد دايارد بير:”لايريد بيكيت من ممثليه أن يمثلوا على الأطلاق. إن كل مايرده منهم هو أن يعملوا وفق ما يقوله لهم النص فقط، وحين يحاول ممثل أن يمّثل ينفجر بيكيت غضباً”.(**)

الممثل باري ماكَوفرن الذي يلعب دور فلاديمير أو (ديدي) وجوني مورفي بدور إيستراغون أو

(غوغو) بدوا كما لو أنهما عثرا على بيئتهما الدرامية في هذين الدورين اللذان يكمل أحدهما الآخر.

ينبغي هنا أن نذكرّ أنهما يلعبان هذين الدورين منذ أكثر من عقدين.

هذان الممثلان اللذان لم يعد شابان واللذان يختبئان في لبوس مشردين عجوزين، هما في الواقع مهرّجان حقيقيان لايشيخان. إنهما مضّحكان، متشردان، شاعران، كائنان بشريان عاريان، ممثلان يقدمان نموذجاً لإداء حساس بشكل خلاق يُمسك بإيقاع مغزى روح النص البيكيتي وسخريته معاً. ماكوفرن ومورفي ممثلان خلاقان يمتلكان خبرة طويلة على خشبة المسرح، وواضح أنهما وبشكل غريزي يدركان جيداً أنهما يأتمنان طاقتيهما الإدائية والسيكولوجية في تفجير كل هذا النثر الغنائي البيكيتي.

الحياة عادة أو روتين أو لعب، هذه المظاهر التي تعكس مفهوم الأنتظار الذي نمارسه ونعانيه بإسم البقاء، كلها تظهر وبشكل مكرور كثيمات في هذا العرض ليس فقط عبر الكلمات بل من خلال لغة الجسد، من تعابير الوجه وإيقاع حركة اليدين والأقدام والرقص والإيماء والدندنة وأشياء أخرى، وكذلك عبر الأماكن التي يشغلها ويتحرك عليها هؤلاء الممثلون على خشبة المسرح.

لقد تمكن هذان الممثلان من تجسيد هذا التزاوج المرّوع بين لغة حجرية قاسية وإيماءات تكاد تقرب من سلوك الحيوان، بإسلوب مبتكر وحيوية مدهشة من دون أن يُظهرا جهداً أو توتراً مرئياً في أي لحظة من اللحظات. فديدي يمشي على رؤوس أصابعه بأقدام شبيهة بأرجل الحمام أو فزاعّة طيور، أما ركبتاه فإنهما تندفعان معاً قبل حركة أقدامه.

أما غوغو فهو يمشي كالبطة وهو يباعد ما بين قدميه. إنه يقفز حين يمشي، محركاً ذراعيه بعنف مثل طاحونة هوائية. غوغو يريد أن يطير حقاً.

لقد أظهرا معاً ضياء وظلال الديالوغ الذي صار يتنقل من الميوزك هول (المسرحية الهزلية) إلى أحاديث السيرك المتبادلة ومن ثم إلى الشعر الحزين المثير للريبة والفوضى على حد سواء.

إن كلا الممثلين إمتلكا القابلية لإقصاء نفسيهما عما يقولانه ويفعلانه حين يتطلب الأمر ذلك، وهذا يعكس، بشكل صائب، إمكانية الشخصية لأن تنظر إلى الماضي من خلال إنشغالها بالأمور التافهة العادية والمجنونة ضمن سياق عمق المخيلة والتبصر المفاجئ. فغوغو مثلاً ينوّع من إستغراقه الذاتي في مخاوفه الخاصة وكوابيسه ولهفته للطعام والراحة، مغيراً إياها فجأة إلى ملاحظة ساخرة ولاذعة من كليهما.

أما ديدي فهو يلغي أحياناً مشاعره الخاصة لأجل إحتياجات غوغو، على الرغم من أنهما ُيظهران معاً وبشكل بصري ما يجري في داخل عقليهما وجسديهما، وهذه هي واحدة من ميزات موهبة المهرج في التعبير عن التعقيدات الداخلية لرنين الأفكار المّشكلة على النصف أو المشاعر العابرة بشكل خاطف، عبر إشارات وإيماءات خارجية صافية مترابطة بشكل متدفق ومكرور.

تقليدياً، يعتقد المهرج نفسه أنه هو الأعمق والأقرب من ينبوع الحياة منه إلى التراجيديا، فهو يعتقد مثلاً أنه أكثر جدية من هاملت، لذا بوسعه أن يلعبه أفضل من أي ممثل تراجيدي محترف.

ديدي وغوغو ُيظهران قربهما من النبع التراجيدي حين يقرران “التحدث” بهدوء ليريا أن بمقدورهما “الصمت”. إنهما يتحدثان بترو ٍ وتعمّد كي لايفكرا أو يسمعا:

فلاديمير: لم يعد لنا هنا من شيء نفعله.

إيستراغون: ولا في أي مكان آخر. إننا لم ُنخلق لطريق واحدة.

فلاديمير: لا، لا، هذا الأمر ليس أكيداً.

إيستراغون: بالطبع، ليس هناك شيء مؤكد.

وفي ذات الزمان والمكان يتسائل إيستراغون في اليوم التالي مشتبهاً في المكان:

إيستراغون: أين نحن؟

فلاديمير: وأين تظن نحن؟ ألا تتعرّف على المكان؟

إيستراغون: (غاضباً) أتعرّف.. أتعرّف.. أتعّرف على ماذا؟

إنني لم أفعل شيئاً في حياتي سوى الزحف في الوحل، وأنت تحدثني الآن عن هذا المكان. أفضل شيء لي هو أن تقتلني كالآخرين.

فلاديمير: ومن هم الآخرون؟

إيستراغون: البلايين.. البلايين من الآخرين. كل هؤلاء الموتى.. كل تلك الأصوات الميتة التي ُتحدث صخباً وضجيجاً كالأجنحة، كأوراق الشجر، كالرمل، وهي تنطق جميعها مجتمعة.

في لحظة كهذه يصبح الديالوج شعراً لكلا الصوتين، ومن المحتمل جداً أن تعكس لهجته الحزينة المراوغة تلك مأزقنا نحن جميعاً.

وفيما هما يجتازان النهار أو المساء، ينفصل ديدي وغوغو عن بعضهما وفقاً لطباع ومزاج كل منهما. فديدي يقوم بإداء الأدوار والمهمات المتنوعة التي يرثها الناس أو تلك التي يأخذونها على عاتقهم في غضون حياة المرء. فمرة تراه يلعب دور والد طفل غوغو وأحياناً والدته، وأحياناً أخرى معلماً لتلميذه، أو دور المدافع عن شخص خائف وغبي يتولى هو رعايته وحمايته.

ديدي يواجه تشاؤميته بمزاج تفاؤلي، فحين يتذكر غوغو ماضيه يقوم هو بأناة في حثه وتشجيعه على التذكرّ.

إنه يلوح له بأصبعه نحو الجرح الذي في ساقه والذي سببه له لاكي في اليوم السابق، مفترضاً أن الطفل والمغفل البهيمي داخل غوغو من الممكن أن يتذكر الألم والعنف في الأقل.

المفكر الأيجابي في ديدي يحاول أن يعيد تشكيل الماضي لكليهما، لكي يثبتان وجودهما الراهن عبر مرجع أو صلة ما بما حدث من قبل، لذا فهو لايكف عن القيام بذلك من أجل ومضة فذة من الأدراك:

غوغو: هيه.. ديدي. ديدي.. نحن نجد دائماً شيء ما يعطينا إنطباعاً أننا موجودان، ها؟.

ولأجل إطالة الديالوغ يلجأ بيكيت هنا إلى مفهوم النسيان هذه المرة، فإيستراغون مثلاً لايستطيع أن يتذكر أي شيء مضى، على العكس من فلاديمير الذي يمتلك ذاكرة أفضل، إلا أنه مع ذلك لايثق بما يتذكر!.

وبما أن فلاديمير لايستطيع التعويل على إيستراغون لتذكيره بالأشياء، فهو عملياً يعيش في حالة نسيان، وهذا ما يعطي تسويغاً لملازمة أحدهما الآخر، لأنه طالما لايستطيع إيستراغون تذكرّ أي شيء فهو إذاً بحاجة لأحد ما ليذكرّه أو يحكي له تأريخه.

ديدي وغوغو هما مثل صديقين أو رفيقين متلازمين. إنهما مثل عاشقين أو زوجين غير سعيدين، يمثلان مشاهد من الأنفصال والتوحد، الخلاف والمصالحة، الحث والعون في لحظات المحنة. إنهما أشبه بتوأمين، عقل مشطور إلى نصفين، نصفان لشخص واحد، عقل وجسد.

إن فعل فلاديمير وهو يتذكر عوضاً عن إيستراغون يعني ذلك أنه يثبت له هويته الشخصية (وجوده).

إيستراغون نفسه، كشخصية، موظف كحافز تذكير لفلاديمير بكل تلك الأشياء التي قاما بها معاً في الماضي، لذا فهما موظفان معاً ليذكرّا رجلاً آخر بوجوده الحقيقي!. إن ذلك ضروري جداً طالما أن لا أحد في المسرحية يقوم بتذكيرهما أبداً:

فلاديمير: لقد إلتقينا أمس.. (صمت) .. هل تتذكر؟

بوزو: أنا لا أتذكر أنني إلتقيت بأحد أمس. وفي الغد لن أتذكر أنني إلتقيت أحداً اليوم، لذا لا تعتمد عليّ.

نفس الأشياء تحدث في وقت متأخر في الفصل الثاني من المسرحية حين يحضر الصبي ثانية ويزعم أنه لم يرهما من قبل إطلاقاً.

إن فقدان الطمأنينة في التأكيد على وجودهما الحقيقي يجعل من تذكير أحدهما الآخر شي جوهري وضروري.

الممثل آلن ستانفورد أظهر شخصية (بوزو) باردة الطبع شاحبة ومتسلطة وفضولية بشكل واضح، فيما جسد ستيفن برينان دور (لاكي) العبد المطيع وهو يعدو أمام سيده مثل كلب، بخرس معذبّ ومبالغ.

لاكي بجرجرة سيقانه المائلة ونظراته الصامتة يبدو بالكاد حياً. إنه يمدنا ببانتوميم يجسد الأهانة والوهم، إلا أنه يفاجئنا ويحيرنا في وقت متأخر بمونولوجه الطويل والوحيد المتفجر والفنتازي ملقياً إياه ليس كخطبة رنانة لرجل مجنون بل كمحاولة يائسة أخيرة لإقامة صلة ما بسيّده أو بالعالم.

مايثير فزع فلاديمير هو معاملة بوزو الوحشية لعبده لاكي، أما الذي يثير رعبه بشكل مضاعف فهو رضا لاكي نفسه في معاملة سيده له بالطريقة التي تعامل فيها البهيمة تماماً.

من الممكن جداً أن بيكيت يظهر هنا إزدراءه من كلا الشخصيتين، بوزو ولاكي معاً، الأول الذي يمثل صنف سادة المجتمع الذين يستثمرون ويستغلون، والثاني يمثل شريحة الخدم الذين يسمحون لأنفسهم من أن يُستثمروا ويُهانوا.

كان إداء لاكي في الفصل الثاني مؤثراً جداً وذلك حين يلعب الأثنان دوريهما بشكل معكوس. فنراه يمسك بأصابع سيده السابق ويمررها على حواف الحبل الذي كان يربطه في رقبته من قبل. تبادلهما لدوري العبد والسيد يُضاء عبر المقارنة بالتجربة المشتركة للمشرّدين، وهذا شيء جوهري بالنسبة لبنية العرض فهو يعطي معنىً وإتجاهاً لمنطقه الداخلي. غرائبية كهذه تسمح لنا في رؤية الطبيعة الأنسانية لديدي وغوغو، فالأثنان في تضاد حاد مرئي ومفعم بالحيوية، إلا أنهما مع ذلك يتفاعلان أحدهما مع الآخر..

حين يتعثر لاكي أو يسقط تحت ثقل بوزو في الفصل الثاني يكشف هذا الفعل آلياً عن الشيء الأسوأ في طباع شخصية غوغو، حيث يندفع هذا الأخير للثأر من لاكي العاجز لقاء الجرح الذي سببه له في ساقه، كنوع من التنفيس عن مشاعره ولكن في عنف وبهيمية، فيما نرى ديدي وعلى العكس من غوغو، ينجذب أو يميل نحو الأصغاء لفلسفة بوزو العاطفية لكن البليغة، هذا السيد المستبد الذي يتحول فجأة إلى تابع ضرير يخاطب المشرّدين غاضباً بقوله:

“أي يوم! أي يوم!.. إنه ذات اليوم الذي أصبحَ هو فيه أخرساً، وذات اليوم الذي أصبحتُ فيه أعمى… ذات يوم ولدنا، وذات يوم سنموت، في ذات اليوم، في ذات اللحظة… النساء يلدن اطفالهن والقبر مفتوح تحت سيقانهن، والضوء يتلألأ للحظة ثم يأت الليل ثانية”.

إن الكثير من الأشياء التي يتعذر تعليلها أو تفسيرها في علاقة هذين المشرّدين تظهر بشكل غير محدود في لغة الأيماء والفعل. فمثلاً ثمة حركات من التفاعل أو التأثير الفيزيائي المتبادل، عندما يناضل غوغو وديدي معاً في أن يدخلا قدم غوغو في حذائه، أو في الحركة التي يتبادلان فيها القبعات كما لو أنهما طفلين مستغرقين في لعبة إيقاعية لتبادل القبعات. كذلك حين يخلع ديدي، وبنفس الطريقة، سترته ويضعها حول كتف غوغو الشبه نائم، عندما يضجر من الحديث الذي يدور بينهما. إن الغرض من ذلك كله هو إقامة صلة ما فيما بينهما.

غوغو وديدي شخصيتان متعارضتان ومتكافلتان في آن، فهما نصفان لشخص واحد، وبيكيت يشدد على هذا التضاد والتكافل، فقد قال مرة أنه يتخيل ديدي أشبه بشجرة وغوغو مثل صخرة، وهذا الموقف يبين بجلاء وبليغ في هذا العرض.

الممثل باري ماكوفيرن (ديدي) شخص طويل ونحيل مثل شجرة صنوبر، وعيناه أشبه بثقب عقدة الخشب أما ذراعاه فهما مثل غصنين غير متكافئين.

جوني مورفي (غوغو) ببدانته وثقل خطاه يشبه صخرة حقاً. إنه شخص هوائي وهمي مرح ومبتهج فيما ديدي شخص دنيوي عملي وفظ. واقع الأمر أن كل شخصية من هاتين الشخصيتين تسعى لأن تكون الشخصية الأخرى (تبادل أدوار).

لقد حمل العرض نكهة شابلنية فالممثلان باري ماكوفرن وجوني مورفي ظهرا مثل مهرجين في فيلم صامت وهما يخوضان نزاعاً مع أسئلة كبرى تطال الأيمان والمعنى بسخرية تحّطم القلب.

كان بيكيت كاتباً شكوكياً لذا فشبح ديكارت لم يكن بعيداً عن خشبة مسرح باربيكان مطلقاً، فالنكهة الديكارتية تكاد تملأ كل فضاء العرض، فثمة شك في الزمان والمكان والهدف واللغة، شك في الذاكرة، في الأحاسيس، في منظومة العلاقات الأنسانية، في الأمل، وأخيراً شك في الحقيقة ذاتها.

إن أحد الدروس الهامة التي يمكن أن يستلهمها العاملون في ميدان المسرح من هكذا عرض مّؤثر هو تلك القرابة أو الصلة الحميمة بين هذين الممثلين الخلاقيّن. إنهما أصدقاء في النص وفي الحياة، فقد لعبا دوريهما كما لو أن أحدهما هو بمثابة جهاز إرسال وإستقبال للآخر.

***

ديكور العرض كان أجرداً صارماً وخشناً بألوان رمادية ضاعفت الإنارة الباهتة فيه الخواء والوجع المتزايد حيث السماء خمرية اللون مخدوشة الأضاءة، وفي الأعالي ثمة قمر برتقالي مشرق مفعم بالأمل يجسد لغة بيكيت المشذبة الجميلة والتجريبية. أما هالة النور التي أحاطت برأس الصبي الأشقر(الممثل باري أوكونيل) فقد أضفت عليه هيبة رسول أو ملاك هابط من السماء أو شخص قادم من غودو الذي لن يُرى.

إن شكل الشجرة وهي تقف مثل صليب محطم أو شبح هيكل عظمي يرمز إلى الأنتظار الذي لاينتهي، كان يبعث الحزن والتأمل الكوميدي بالأنتحار في ذات الوقت. أما الصخرة الثقيلة فيمكن أن توحي لنا وسط هذه الحيرة إلى صخرة سيزيف.

لابد من الإشارة هنا إلى أن الديكور والملابس هما من تصميم الرسام الأنطباعي الأيرلندي الشهير لويس لي براكوي (1916) الذي عُرف ببورتريهاته المدهشة للشخصيات الأدبية والفنية أمثال جويس وييتس وصديقه الرسام بيكون وبيكيت نفسه.

كان براكوي تعرّف على مواطنه بيكيت في باريس منذ خمسينات القرن الماضي وبقي على صلة معه حتى لحظة وفاته.

يذكر آسموس أن بيكيت كان قد طلب منه أن يستعين ببراكوي في تصميم الديكور إن كان ينوي إخراج المسرحية، ولابد من الإشارة هنا إلى أن شجرة براكوي شبيهة إلى حد كبير بشجرة جياكوميتي تلك التي صممها للعرض الذي أخرجه بيكيت في فرنسا عام 1961 والتي هي على شكل صليب.

(كلمة أخيرة)

بغض النظر عن تنوع كل المعالجات الأخراجية ينبغي أن تكون مسرحية (في إنتظار غودو) أشبه بإناء فارغ بوسع كل متفرج أن يملأه بمخاوفه وأحلامه وطموحاته بطريقته الخاصة.

هامش:

(*) أفلام آسموس التلفزيونية عن بيكيت:

1ـ بيكيت يُخرج بيكيت، وهو فيلم وثائقي يصور ثلاث مسرحيات لبيكيت أخرجها بنفسه وهي:

“في إنتظار غودو، نهاية اللعبة، شريط كراب الأخير”.1988

2ـ فيلم “شريط كراب الأخير” 1988

3ـ فيلم “في إنتظار غودو” 1989

4ـ Beckett on Film هو سلسلة من 19 فيلم لـ 19 مخرج قاموا بإخراج جل مسرحيات بيكيت. “وقع أقدام” هو أحد هذه الأفلام التي قام بأخراجها آسموس عام 2000.

5ـ فيلم “لعبة الراكبي”.

6ـ فيلم ” Eh Jo”.

(**)Deirdre Bair: (Samuel Beckett) page 449

(مراجع ذات صلة)

I: Conversation with And About Beckett.Mel Gussow.

II: Why Beckett.Enock Brater.

III: Absurd Drama. Introoduction by Martin Esslin.

IV: The Beckett Actor.Jordan R. Young.

V:The Cambridge Companion To Beckett.Edited by John Pilling

عن موقع «دروب»

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى