أي أمريكا بعد الأزمة؟
سعد محيو
سؤالان كبيران يخيمان كالكابوس فوق رأس أمريكا منذ أشهر عدة: متى يمكن لهذا الليل الاقتصادي الأسود أن ينجلي، وما حجم الأضرار التي سيتسبب بها هذا الليل على نهار الزعامة السياسية والعسكرية الأمريكية في العالم؟
كلا هذين السؤالين لا يزال معلقاً بشكل خطر في الهواء.
فالأزمة المالية والاقتصادية الأمريكية دخلت الآن شهرها ال ،18 متخطّية بذلك فترة الركودين الحادين في أوائل السبعينات وأوائل الثمانينات. ومعظم الخبراء الاقتصاديين يجمعون على أن هذه الأزمة قد تستمر إلى أربع أو خمس سنوات أخرى أوحتى ربما أكثر، في حال عجزت الحلول المقترحة الحالية عن حفز النمو الاقتصادي مجدداً.
وهذا الأمر الأخير وارد بقوة. فالأموال التي خصصتها الحكومة الفيدرالية لحفز الاقتصاد (نحو 800 بليون دولار) قد تثبت بعد حين أنها مجرد مسكنات مؤقتة. والقطاعات التي كان تلعب تاريخياً دور المنشّط للاقتصاد الأمريكي، تبدو هذه الأيام غائبة عن الوعي. فالقطاع العقاري لا يزال يتخبط بدمائه جراء انهيار الأسعار وأزمة القروض الفاسدة. والقطاع الإنتاجي، خاصة صناعة السيارات، يتأرجح على شفير الإفلاس. هذا في حين تشعر الولايات المتحدة بحاجة إلى إبقاء سعر الدولار مرتفعاً لجذب الاستثمارات بهدف تمويل الديون والاستهلاك، على رغم أن ذلك يوجّه ضربة قاصمة إلى الصادرات.
وفي هذه الأثناء، يواصل الشعب الأمريكي دفع الفواتير الاجتماعية الباهظة. فيوم الاثنين الماضي قفزت نسبة البطالة في أمريكا إلى 8،5 في المائة، وهي أعلى نسبة منذ 25 عاماً. وبذلك انضم إلى قوافل البطالة 663 ألف موظف وعامل خلال شهر واحد، ليبلغ العدد الإجمالي للعاطلين عن العمل (حتى الآن) نحو 6 ملايين، والعد مستمر.
وعلى صعيد دخل الأسر الأمريكية، تشير الأرقام إلى أن هذه الأخيرة خسرت ربع أموالها وأملاكها خلال سنة ونصف السنة، أي منذ 30 يونيو/ حزيران 2007. وقد تركزت أضخم الخسائر في قطاع السكن، الذي يعتبر المجال الأهم والأكبر الذي يستثمر فيه الأمريكيون أموالهم. فقد هبطت قيمة هذا القطاع، التي قُدّرت العام 2006 بنحو 13 تريليون دولار، إلى 8،8 تريليون دولار، وهي لا تزال تواصل الهبوط.
كذلك، تدهورت قيمة أموال التقاعد (التي تعتبر ثاني أكبر أرصدة الأسر الأمريكية) بنسبة 22 في المائة: من 10،3 تريليون دولار العام 2006 إلى 8،3 تريليون الآن.
خسائر ضخمة؟ بالتأكيد، لا بل مخيفة أيضاً. وهي توضح أن الأزمة الاقتصادية الراهنة بدأت تتراقص بخطر على حبل مشدود فوق هاوية الكساد الكبير للعام 1933.
ولأن الأمر كذلك، سيجد الرئيس الأمريكي الجديد أوباما صعوبة فائقة في العثور على الوقت الكافي لممارسة سياسة خارجية نشطة كما يطمح. فالأزمة الطاحنة ستستوعب كل طاقته في الداخل الأمريكي، وسيعجز عن صرف دولار واحد في الخارج، إلا إذا كان التهديد للأمن القومي الأمريكي فاقعاً وواضح المعالم لدافع الضرائب الأمريكي.
وهذه النقطة الأخيرة تقودنا إلى سؤالنا الثاني: ما حجم الأضرار التي سيتسبب بها هذا الليل الاقتصادي الطويل على نهار الزعامة الأمريكية في العالم؟
تساءلنا : أي سياسة خارجية أمريكية بعد الأزمة الاقتصادية الراهنة، والتي تُعتبر الأخطر منذ 75 عاماً؟
ونقول إن الأصح والأدق هو التساؤل عما سيحدث أيضاً خلال هذه الأزمة وليس بعدها فقط. وهذا لسبب مقنع: الولايات المتحدة، ومعها الاتحاد الأوروبي، سيكونان مضطرين خلال السنوات القليلة المقبلة إلى تقليص طموحاتهما الخارجية إلى حد كبير بهدف التركيز على المشاكل الداخلية. وهذا من شأنه تشجيع العديد من اللاعبين الإقليميين والدوليين على العمل لتوسيع نفوذهم (كالصين والهند والبرازيل) أو استعادة نفوذ قديم (كروسيا وتركيا).
كتب روجر ألتمان، نائب وزير المال الأمريكي في الفترة بين 1993- 1994: “انهيار 2008 كان نكسة جيو- سياسية مهمة بالنسبة إلى الولايات المتحدة والغرب، خاصة وأنه تزامن مع صعود قوى تاريخية جديدة إلى قمرة القيادة العالمية، مما حوّل اهتمام العالم بعيداً عن أمريكا”.
ومن هي هذه القوى التاريخية؟
إنها أساساً الصين، التي ستخرج سالمة من هذه الأزمة الاقتصادية، وستجد الفرصة أكثر من سانحة لبسط هيمنتها على منطقة شرق وجنوب شرق آسيا، وحتى على بعض دول العالم الثالث الغنية بالنفط ككازاخستان وأنغولا والسودان وربما ليبيا والجزائر. وقد أوشكت بلاد الهان بالفعل على إنجاز تحويل منظمة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) إلى أكبر منطقة للتجارة الحرة في العالم.
الهند ستكون لها فرصتها أيضاً لتوسيع نفوذها، وإن بشكل أقل من الصين لأنها لاتملك لا ثروات هذه الأخيرة من السيولة النقدية (نحو تريليوني دولار) ولا تماسكها الوطني. وبالتالي، الأرجح أن تغرق الهند، كما أوروبا، في مشاكلها الداخلية.
وكذا الأمر بالنسبة إلى روسيا. ففي حين أن هذا الدب السلافي يمتلك مخزوناً من العملة الصعبة تجاوز النصف تريليون دولار، إلا أنه يعاني من الضعف الشديد لعملته الروبل ومن مشاكل جمة في نظامه المالي. هذا لن يمنعه من القيام بجهود أكبر لتوسيع نطاق نفوذه في منطقة الاتحاد السوفييتي السابق، لكنه سيفعل ذلك بقليل من حس المغامرة والكثير من الحيطة والحذر.
أما تركيا فستكون، كما أشرنا في هذه الزاوية قبل أيام، مؤهلة أكثر من أي دولة أخرى في الشرق الأوسط للعب دور القوة الإقليمية الرئيسية في مثلث القوقاز- الخليج- الهلال الخصيب، في حال توصل الكماليون والعثمانيون الجدد إلى إجماع حول ذلك.
ماذا سيعني كل ذلك؟
يُفترض أن يكون الجواب واضحاً: الأسرة الدولية بدأت تتحرّك بالفعل نحو ما وصفه ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، ب”العالم اللاقطبي”. صحيح أن أمريكا ستبقى القوة الأكبر والأهم اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً في مثل هذا العالم الجديد (إلا إذا ماتحققت “نبوءة” البروفيسور الروسي بنارامين بتفككها)، لكنها ستكون هذه المرة الأولى بين متساوين، لا الثانية للاشيء.
ثم إنها على الأرجح ستكون أمريكا باسفيكية لا أطلسية، خاصة إذا ما اقتنع العم سام بضرورة أن يتعلم لغة العم ماو (الماندرين)، وإذا ما قَبِلَ وأن يكون اليوان (العملة الصينية) “شقيقاً” للدولار.
سعد محيو
الخليج