الانهيار المالي والطبقة الوسطى
د. طيب تيزيني
ينشغل الإعلام المالي والاجتماعي والأخلاقي النفسي في ألمانيا وبلدان أوروبية أخرى، إضافة إلى الولايات المتحدة، بإحدى نتائج الأزمة الاقتصادية، التي انطلقت عام 2008 واعتُبرت -في حينه- الأكثر خطورة منذ الأزمة التي اجتاحت تلك البلدان عام 1929. ومن مقتضيات النظر في هذه المسألة -ونحن ننتمي إلى العالم العربي- أن نتقصى ذيولها. والأمر يزداد إلحاحاً في ذلك الاتجاه، حين نضع في الاعتبار اهتزاز التركيب المجتمعي في كل من بلداننا، ومن ثم التحولات التي راحت تجتاح مكوّنات ذلك التركيب، نعني الوحدات والشرائح والفئات والطبقات، وما يندرج في ذلك من أسر وأفراد…إلخ.
في هذه الحال، كم يكون مهماً وحاسماً أن نؤكد على الأهمية القصوى للبحث العلمي بأنساقه المعنية هنا، مثل علم الاقتصاد والعلم السياسي، جنباً إلى جنب مع علم الاجتماع وعلم السكان وعلم الاجتماع السكاني إضافة إلى علم الاجتماع الثقافي والآخر الديني والثالث المديني والريفي…إلخ. وإذا كان هنالك شعور عام وملاحظات ميدانية حول تفكك المجتمعات العربية بفئاتها وطبقاتها وشعوبها (طائفياً ومذهبياً ودينياً خصوصاً) إلا أن ذلك -على خطورته- لم يتحول إلى حقل البحث العلمي والدراسات الحقلية-الميدانية. وتنضاف إلى هذا الموقع جلُّ الجامعات ومراكز البحوث المزروعة في المجتمعات العربية، أعني المزروعة -في عدد كبير منها- كَمَن يزرع بذور الفاكهة في كثبان الرمل الصحراوية. إنها مراكز بحوث خصوصاً أنها نادراً ما تحتضن باحثين وعلماء كما ينبغي، هذا دون إنكار وجود أفراد من أولئك يقومون بواجباتهم العلمية بجدارة. ما نريد الإشارة إليه هو أن تيار الفساد والإفساد اجتاح، كذلك، عدداً من تلك الجامعات والمراكز، بحيث يصعب الوصول إلى معطيات دقيقة حول واقع الحال في التركيب المجتمعي عموماً وإجمالاً.
نحن هنا نتسلح بالملاحظة الميدانية المباشرة غالباً، مع استخدام ما يمكن من طرائق البحث. على هذا الأساس، نرى ما نفضِّل الاصطلاح عليه بـ”الفئات الاجتماعية المتوسطة” بدلاً من “الطبقة الوسطى”، راحت (أي تلك الفئات) تتشظى وتتفكك ربما مع مرحلة السبعينيات من القرن المنصرم، تلك المرحلة التي كان اكتشاف النفط فيها من علاماتها الكبرى، ونشوء سيولات مالية هائلة أسهمت -مع غيرها- في تشكُّل مجتمعات استهلاكية متعاظمة.
ومن الظواهر التي أتت في هذا السياق أن تقاطباً اجتماعياً راح يفرض نفسه، وكان من نتائجه انهيار “الفريق الثالث” الواقع ما بين الأعلى والأدنى. وإذا كانت الدراسات تتتالى في بلدان أوروبية وأميركية تشير إلى وجود حالة جديدة هنا تتلخص في “مجتمعات الثمانين والعشرين”، التي يملك عشرون بالمائة من سكانها ثمانين بالمائة مما يُنتج، ويملك ثمانون بالمائة من سكانها عشرين بالمائة مما يُنتج. وهذه المعادلة بكلا شقِّيها آخذة بالارتفاع وفق خصوصيات البلدان المعنية. وفي الحالتين، تمثل الفئات الوسطى -مع جمهور القاع- هدفاً سهلاً للقنص والإفقار مع ما لا يحصى من أحوال الإذلال والتهميش.
أما ما أخذ يفرض نفسه في العالم الغربي ضمن استحقاقات الأزمة الكبرى المالية والاقتصادية هناك، وما راح يتعاظم في المجتمعات العربية نفسها، إن هذا وذاك يشيران إلى أن خط الانهيار ما زال قائماً رغم الإجراءات التي اتُخذت في الغرب والتي لم يُتخذ في العالم العربي مثيل لها. ونرى أن ذلك سيتجلى في مزيد من انهيار الفئات الوسطى في كلا الحقلين الجيوسياسيين، ولعل نِسب العاملين في مراكز البحوث والدراسات الاجتماعية خصوصاً، ستتناقص إلى درجات تهدد عدداً من القطاعات الحاسمة (التعليم العالي، القطاع العسكري والآخر الاقتصادي والمالي). وإذا كان البعض يعتقد أن هذا الوضع سيحث بلداناً أو أخرى على القيام بإصلاحات جذرية على صعد الفئات الوسطى (مثل تأميم التعليم حتى الدراسات الجامعية العليا)، فهل هذا سيُباشر به الآن، أم بعد انهيار البناء خصوصاً في العالم العربي؟
الاتحاد