قبل أن يركض الجميع نحو الجانب الآخر من الزورق: تعافي الاقتصاد ودور الدولة وحتمية العودة إلى السياسة
ماجد الشّيخ
ها هي الأزمة المالية العالمية، تتمظهر في حلقتها الراهنة، كما في كل من اليونان وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال وإيرلندا، معلنة بدء الدخول إلى رحاب مرحلتها الثانية، لتؤكد وعلى الضد من تنظيرات ومعالجات الليبرالية المحافظة على غياب السياسة/السياسات الوطنية، واستبعادها التدخل للحد من “تخصيص الأرباح” و”تعميم الخسائر”. كما تؤكد أن “العودة إلى السياسة” لم يعد شعارا يمكن أن يجري تداوله في المجتمعات المتخلفة، أو الدول المبتلية بالأيديولوجيات التفتيتية، حيث نظم الاستبداد تستولي على الفضاء العام، وتحتكر السياسة، وتمنع مجتمعاتها من ممارسة أي شكل من أشكال “التدخل” في الحياة السياسية، كحق طبيعي وكعقد ملزم، يستوجب الشراكة في صنع المواطنية، فيما هي تقمع وتعوّق إمكانية نشوء مجتمع مدني، يعود للسياسة، ولتدخل الدولة الإيجابي، الأصل في ممارسته لدوره.
لهذا أضحت هذه الكلمات “العودة إلى السياسة” مثل تميمة، أو نصيحة بدأ يتردد صداها في عالم الدول الحديثة، كما في عالم الاقتصاد كذلك، كارتداد كان لا بد منه، ردا على الأزمة المالية العالمية، واستفحالها ومطاولتها دولاً ومجتمعات حديثة، كما مجتمعات أنظمة سلطوية متخلفة على حد سواء. يحدث هذا على إخفاقات النظام الرأسمالي وآلياته ونصائحه في إعادة الهيكلة أو تبني خطط تقشفية، أو تبني العديد من نصائح الاستثماريين والمضاربين التي يجري تداولها، وكأن في مجرد طرحها، يمكن الولوج إلى “طريق الخلاص” مما ترتبه الأزمة من مفاعيل، لم تعد تقتصر على الصعيد الاقتصادي، بل هي استفحلت وتستفحل في كامل قطاعات الأمة السيادية للدولة الحديثة.
في مواجهة ذلك كله، رأى عالم الاقتصاد الفرنسي، الباحث في المركز الوطني للأبحاث العلمية فريدريك لوردون في مقالة له في لوموند ديبلوماتيك (أيار/مايو 2010) أن الخروج عن نظام العولمة الراهن، يعني العودة إلى السياسة، بمعنى مواجهة العولمة ونظامها المهيمن، كونه لم يكن في المحصلة سوى عملية تفكيك للسيادات الوطنية، وذلك عبر تسليعه كل شيء، حيث إن أسواق الرساميل هي التي تحدد قيمة ما أسماها “الأتاوة المقتطعة”، من الثروة الوطنية، لصالح دائنين من مختلف أرجاء العالم.
ولتجاوز ذلك العجز عن سداد الديون، أو بيع سندات الدين، وما يفرضه من أكلاف باهظة على الموازنات العامة، وهذا ما يعاني منه اليونانيون، والعديد من الدول المشابهة في النطاق الأوروبي، إذ يكفي لذلك النظر في حجم التضحيات، التي فرضها المستثمرون على اليونان في المدى القصير، من أجل تحقيق بعض الهدوء المخادع، دعا لوردون للمناداة بضرورة التمثل بالنموذج الياباني، كمسوّغ للتحرر من سلطة الممولين الاستغلالية. ما فعلته اليابان بحكمتها، هو أنها أبقت على ديونها كديون محلية، وأبعدت ذاتها عن الاندماج في العولمة، بل هي وفي خط معاكس لأيديولوجية العولمة التي تنافح عن فكرة إلغاء كل الحدود، خصوصا تلك التي يمكن أن تعوّق حركة الرساميل، قدمت نموذجا ليس قابلاً للحياة فحسب، بل ويتمتع أيضاً بعدد لا بأس به من الخصائص الإيجابية.
هل هذه هي تلك “السياسة” التي يقصدها لوردون، كخطوة رئيسة، لا بد منها، من أجل إخضاع القرارات الاقتصادية للتداول السياسي، وللتدخل الإيجابي للدولة؟
النموذج الياباني
لقد بيّنت أزمة النظام الرأسمالي المالية الراهنة، منذ انفجار فقاعاتها أواخر العام 2008 في الولايات المتحدة، أن سياسات خصخصة الأرباح وتعميم الخسائر، إنما هي سياسات عقيمة، تماما مثل سياسات الإقراض لتمويل الدين العام، ورمي أكلافها على الموازنات العامة، بما يمكن أن تستجرّه من رفع الدعم وزيادة الضرائب وفرض خطط تقشّفية. هذه السياسة الاقتصادية عادة ما يكون المتضرر الأول منها مجموع الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة، ما قد يفيد في أحسن الأحوال، مجرد إفادة بسيطة في إعطاء نتائج محدودة على المدى القصير. لكن تدوير الأزمة يبقى يمتلك اليد الطولى في التأثير سلبا على سيادة القرار السياسي، بل على سيادة الدولة المعنية ذاتها، ما دامت تستمر برهن ذاتها للمؤسسات المالية الخارجية والمضاربين من كل صنف، الذين يُزعم أنهم يستثمرون أموالهم في محاولة إنقاذ هذا البلد أو ذاك من حالة إعسار أزمته المالية.
يقدّم النموذج الياباني، وهو البلد الغارق في الدين إلى أقصى الحدود، على عكس ما تقدمه الأزمة اليونانية اليوم من عبر ودروس، إحدى طرق التخلص من سياسة الارتهان للأسواق وتغوّل المستثمرين الدوليين في إطارها. فهؤلاء لم يسبق لهم الاكتتاب في الدين العام الياباني الذي يمسك به المدّخرون المحليون بنسبة 95 في المئة. وبالرغم من ذلك، فإنه على العكس تماما من الولايات المتحدة، تتميّز اليابان بمعدل ادخار وافر، كاف إلى حد كبير لتغطية متطلبات تمويل الدولة، وكذلك تمويل الشركات. وها هنا بالتحديد يقع دور السياسة في استنقاذ ما استنقع من آليات النظام الرأسمالي على اختلاف أنماطه.
هذه هي باختصار، بعض ملامح “العودة إلى السياسة”، أي استعادة الدولة لدورها، واستعادة تدخلها الضروري لاعتماد حلول دولتية، بعيدا من “استثمارات المضاربة” وتدخلات الطغم المالية، وعلى الضد من تلك الحرية المطلقة التي يجري منحها للأسواق ومنطق تدخلاتها، عبر مستثمرين دوليين لا يهمهم من كل العملية التي يتدخلون فيها، استثمارا أو مضاربة، سوى أرباحهم، وزيادة رصيد أرقامهم، حتى ولو “ذبحت” هذه الأرقام من “ذبحت” من فئات إجتماعية مطحونة وطبقات متوسطة، لا يكون مآلها في ظل سياسات التقشف، والخضوع، والارتهان لشروط الممولين، سوى الإدقاع في الفقر، والبقاء عند حدود الاستبعاد الاجتماعي، والعيش أو الموت تحت ظلال التهميش الممنهج الذي تستبقيه الأسواق المعولمة، كرصيد للشعوب التي غادرتها السياسة أو غدرت بها.
الأزمة.. خارج القوس
وفي ظل تراجع معدلات النمو الاقتصادي العالمي، على نحو بات يهدد مجددا ببعث شبح الركود عالميا، حذرت الصين من إمكانية أن تؤثر مساعي أوروبا لاحتواء أزمة الديون المتنقلة في عدد من بلدان الاتحاد، في طبيعة المعالجات التي بدأتها اليونان ومن ثم إسبانيا، وشكاوى دول عدة وعدت بمكافحة الأزمة، عبر الاحتفاظ بتصنيفها الائتماني، منعا لاهتزاز أسواق المال التي بدأت تشهد شعورا بعدم الاستقرار. هذا بينما بدأت تتراكم لدى العديد من الدول عبر أنحاء العالم ديون قياسية ضخمة قد تتجاوز تكلفتها خمسة تريليونات دولار، في محاولة انتشال الاقتصاد العالمي من أقوى سقطاته في هذه المرحلة، حيث تجري الآن محاولات حثيثة لخفض الديون، دون أن يؤثر ذلك على النمو، المتأثر أصلا بطبيعة الأزمة المالية العالمية المتوسعة، والتي بدأت تطاول العديد من الدول خارج ما يسمى قوس الأزمة، وصولا إلى آسيا والعديد من الدول النامية.
لهذا بات من المؤمل أن تؤدي التعهدات التي أخذتها الحكومات الأوروبية على عاتقها، لتقليص العجز، إلى تفادي انتشار الأزمة، حيث هناك مخاوف من أن يؤدي التباطؤ بإيجاد معالجات جادة إلى امتداد الأزمة إلى العديد من الدول النامية التي قد تتأثر اقتصاداتها غير المستقلة أصلا، ما يزيد من أخطار ركود عالمي حاد، لن تتأثر به الاقتصادات المتضررة فقط، بل واقتصادات العالم كله.
ووفق البنك المركزي الأوروبي، فإنه يتوقع أن تحتاج المصارف في منطقة اليورو إلى نحو 433 بليون يورو حتى نهاية العام القادم، وذلك فقط كمخصصات تجنّبها خسائر من قروض وشطب ديون معدومة، إضافة إلى أن تلك المصارف تواجه مخاطر تحمّل ما يصل إلى 195 بليون يورو، ضمن ما أسماه “موجة ثانية” من خسائر القروض المحتملة، ما يدفع به باتجاه زيادة مشتريات المستندات الحكومية في منطقة اليورو، حيث اشترى سندات يونانية وبرتغالية وإسبانية في الغالب.
وفي الوقت الذي يحاول الاتحاد الأوروبي، عبر مؤسساته، وقف امتداد الأزمة من نقطة انطلاقها اليونانية، وصولا إلى ما أمسى يهدد إسبانيا والبرتغال إلى كامل منطقة اليورو، نصح رئيس البنك الدولي روبرت زوليك بالاستفادة من دروس الأزمة المالية التي ضربت آسيا في تسعينات القرن الماضي، حين تعرضت بين عامي 1997 و 1998 لأزمة مشابهة لتراجع قيمة اليورو، وبسبب ارتفاع قيمة الديون السيادية في بعض الدول الأوروبية، حيث تتباين الآراء والمواقف الهادفة لخفض العجز في الموازنات العامة وآليات استعادة التوازن للاقتصاد العالمي، عبر رزمة من إصلاحات مالية وتنظيمية، يقف في مقدمتها “فرض ضريبة عالمية على المصارف”، ليس هناك إجماع على تأييدها، في ظل انحيازات عامة لدى أرباب الرأسمالية المالية المحلية والمعولمة، على محاولة تحقيق خطوات هامة للتوازن في الإنفاق العام بين خفض العجز في الموازنات العامة، والحفاظ على النمو الاقتصادي. وذلك على الضد من خطوات الإصلاح المالية الهادفة إلى تحقيق ما يتجاوز النمو إلى التنمية، التي تحتاج إلى سياسات تدخلية منظمة من قبل مؤسسات الدولة السيادية، أو مؤسسات الاتحاد ومحاولة التوفيق فيما بينهما.
وفي الاجتماعات التمهيدية التي كانت قد بدأت أوائل حزيران (يونيو) الماضي، وسبقت انعقاد قمة مجموعة العشرين (26 و 27 منه) في تورنتو بكندا، حاولت مجموع المحادثات التحضيرية تلك، تجريب العديد من “أقصر الطرق” لتجاوز الأزمة، في محاولة للاستفادة من أزمة الديون اليونانية التي سلطت الضوء على عدم وجود آلية داخل الاتحاد الأوروبي للتعامل مع الإنقاذ السيادي، بحسب رئيس الاتحاد هيرمان فان رومبوي، الأمر الذي دعاه إلى تشكيل حكومة اقتصادية قوية داخل الاتحاد، كما وداخل منطقة اليورو على وجه الخصوص.
وعلى العموم.. فإن ما يجري يضفي مزيدا من التخبط وعدم اليقين إزاء الاجراءات المتبعة، أو التي يمكن البدء بتطبيقها من قرارات قمة مجموعة الثماني ومن ثم قرارات مجموعة العشرين. ولعل أصدق تعبير عما يجري، ذاك الذي عبر فيه مسؤول من مجموعة العشرين بالقول: “إن أزمة منطقة اليورو أظهرت أنه يتعين على دول، الخروج من سياسات الحفز في أسرع مما كان متوقعا، لكن لا ينبغي أن يركض الجميع إلى الجانب الآخر من الزورق في وقت واحد”.
ولئن وجد الأوروبيون أن لا مفر من إنقاذ السفينة اليونانية من الغرق، وسط تدافع أمواج الأزمة، وفي أعماق البحر، إلاّ أن الرهان اليوم، وفي الغد، يقوم على تحقيق نجاحات فعلية، ليس في عملية إنقاذ الدولة اليونانية وغيرها من الدول المشابهة، بل وفي إنقاذ أداة اتحادها النقدي (اليورو) أملا بالاحتفاظ بأداة اتحادها السياسي. وإلاّ فإن الاتحاد الأوروبي يوشك على مواجهة خيار تاريخي: التكامل أو الانفصال التام، بحسب فولفغانغ مانشو (الجريدة الكويتية 5/5/2010).
وما لم تأخذ سلسلة الاجتماعات والمباحثات والمداولات الأوروبية والأميركية مع بقية دول العالم الأخرى، أو حين البدء في تنفيذ القرارات التي اتخذتها قمة الثماني كما قمة العشرين، فإن الاستجابات ذات الطابع الاقتصادي البحت وحدها، لن تكون مجدية وفاعلة وحدها. ناهيك عن أن الإتحاد الأوروبي والحفاظ على مؤسساته وقوانينه وأنظمته الخاصة وعملته الموحدة، كل هذا يتطلب إنقاذ الاتحاد من الانهيار، في حال تعرضت عملته للانهيار قبلا، أو الجمود وسط استمرار الاتحاد يراوح عند حد الأزمة، والدوران حول عنق الزجاجة، قبل أن يفقد العالم ثقته بأوروبا الدولة الأمم، كنموذج للدولة الأمة التي تضع في مقدمة أولوياتها عودة السياسة لمعالجة أزمة الاقتصاد وتعافيه، كشرط من شروط ممارسة الدولة لدورها الطبيعي والطليعي لمواجهة الأزمة، لا ترك الحبل على الغارب للمضاربين والمستثمرين ممن أدمنوا الخوض في الاقتصادات الوهمية.
المستقبل