نصر حامد أبو زيد: ليس للدولة دين وكان أفضل لحماس أن تظل في المعارضة
احمد بزون
المطابقــة بيــن الإرهــاب والإســلام تبــنٍّ لوجهــة نظــر الإرهابييــن عــن الإســلام
يحاضر المفكر المصري نصر حامد أبو زيد، في أول أيار المقبل، مفتتحاً «مهرجان الربيع» الذي يقام بدعوة من جمعية شمس ومؤسسة المورد الثقافي، وتجري أنشطته، التي تتوزع بين محاضرات ومسرح ورقص وغناء وموسيقي، في مركز «دوار الشمس» ببيروت.
محاضرة أبو زيد تحمل عنوان «الفن وخطاب التحريم»، أي تقع على الخط الأحمر الذي يقف أمامه، بل يدعو إلى تخطيه، صاحب المواقف الجريئة، والدعوات إلى التغيير وحرية التعبير التي تطاول ثوابت ومقدسات مسلماً بها. ومعروف أن أبو زيد يعيش منذ عام 1995 في منفاه الهولندي بعد اتهامه بالارتداد والإلحاد، بسبب أبحاثه ومطالبته بالتحرر من سلطة النصوص الدينية.
حول تحريم الفن ومواقفه من قضايا فنية، لا سيما فيلم «فتنة»، وقضايا فكرية تتعلق بالتيارات الإسلامية والإرهاب وموقف الغرب منها… هذا الحوار:
سوف تحاضر في أول أيار عن الفن وتحريمه في الإسلام. لا نريد أن نستبق المحاضرة باستدراجك للبوح بالأفكار الأساسية التي تود الإدلاء بها، إلا أننا نحب أن نتوقف قليلاً عند المسافة الواسعة بين تحريم وآخر، فخلاف التحريم في الإسلام يتسع للشيء وضده. هناك فن إسلامي، ومتاحف لهذا الفن، لكن الخلاف حول الفن كبير. فمن يضع حدودا للفن في الإسلام؟
الذي يضع حدود الفن هم الفنانون، لأن الخلاف الذي يطرح حول الفن، هو خلاف حول القيم الاخلاقية، يعني إلى أي حد مسموح للفن أن يتجاوز حدود القيم الاخلاقية السائدة في المجتمع؟ يجب أن نفصل بين القيم الأخلاقية السائدة في المجتمع وبين الدين.
قد تكون بعض القيم الاخلاقية مرتبطة بالدين، لكن ليست كل القيم الأخلاقية لها جذور دينية.
الفن نشاط جوهره الحرية، سواء أكان الفن اللغوي، الشعر، السرد، الرقص، التعبير الجسدي أو البصري، النحت أو الرسم، الفن السمعي أو الموسيقى. الفن هو التعبير الذي يتحرر من القواعد المعيارية للغة، حركة الجسد، علاقة الجسد بالجاذبية، الأبعاد المعيارية للحجر، الفن يحول الحجر إلى شيء ثانٍ. يحول الجسم البشري بحركته الى حركة ثانية، حركة ذات أبعاد جمالية، فن اللغة، لغة الادب والشعر، تعطي الحياة أبعاداً أخرى. لكن دائما كل فن يمر بمرحلة توضع له فيها قواعد، وهذا ما يطلق عليه المدارس الأدبية. هذه القواعد نوع من تقعيد حرية الفن. وهي تتحول إلى معوق لهذه الحرية، فتنشأ مدرسة جديدة. الفن هو سيرورة الحرية والتحرر من قواعد مختلفة، من ضمنها القواعد الاخلاقية التي يفرضها المجتمع.
تدخُّل المتدينين في الفن هو تدخل أخلاقي، لكنهم يضعون على المعايير الأخلاقية صبغة تقديسية.
ـ لكنهم يعتمدون على نصوص من القرآن الكريم أحياناً، أو من السنة النبوية، وهنا تبدأ اجتهادات التحليل والتحريم.
الفن الذي كان سائداً في القرن السابع، القرن الذي انبثق فيه الاسلام ونزل فيه القرآن، هو الفن اللغوي: الشعر أو سرد القرآن.
وماذا عن الغناء؟
الغناء انتشر في مكة بعد إنشاء الامبراطورية، القرآن لم يتكلم عن الغناء، القرآن تكلم عن الشعر، والعرب اتهموا محمد بأنه شاعر، القرآن نفى هذه الصفة عن محمد وفهم هذا بأنه موقف سلبي من الشعر. واتهم القرآن الشعراء بأنهم يقولون ما لا يفعلون، وأن الشعر هو وحي الشياطين. هذا الخطاب لا بد ان يفهم في سياقه التاريخي، اذ من الضروري التمييز بين الوحي والشعر. يعتمدون على هذه الايات القرآنية لتحريم الشعر أو جعله مكروهاً.
هذه النصوص ـ اذا استخدمت التعبير الفقهي ـ هي نصوص ليست قاطعة الدلالة، يمكن أن تفهم بطرق مختلفة وبطرق شتى.
القرآن بحد ذاته هو كتاب فني على مستوى بنيته اللغوية، والسردية، والايقاعية. هو كتاب أدبي وفني بامتياز. ليس القرآن وحسب بل كل الكتب المقدسة.
الحرية في الفن تأخذه دائما في اتجاه العصر الجديد، بينما النصوص الدينية تريده أن يبقى في قالب العصر الاسلامي. ما رأيك؟
مرة ثانية، لا أقول النصوص الدينية، بل فهم النصوص الدينية. لا تستطيع أن تأخذ فهم جيل معين وفريق معين للنصوص الدينية، وتقول هذه هي النصوص الدينية.
علينا أن نعي الفارق الابستيمولوجي ما بين النص الديني والطرائق المختلفة لفهم النص الديني. مثلا اذا أخذنا تاريخ الشعر، الشعر ازدهر كثيراً في المجتمع العربي في العصرين الاموي والعباسي، والفنون ازدهرت، ومنها فنون الغناء، في هذين العصرين. لم ينظر حينها إلى هذه الفنون باعتبارها معادية للدين.
الفن هو مجال خصب لممارسة الحرية، وحين تصبح المجتمعات فزعة من الحرية يصبح الفن ضحية هذا الفزع. يجب أن نميز ما إذا كان النص الذي يفسَّر بأنه معاد للفن، مؤولاً أو مفسراً أو مقروءاً قراءة صحيحة، أم أنه يحتمل تأويلات وتفسيرات أخرى.
الإرهاب والإسلام
ما هي المحرمات في الفن برأيك؟
لا محرمات في الفن، هذه المحرمات ليست إلا فرض معايير أخلاقية، الفن يجد صدى اذا قبل أو إذا رفض من قبل المتلقي.
ننتقل الى الموضوع الفني الساخن، الذي تثار حوله نقاشات متعددة هذه الأيام، وهو فيلم «فتنة» للنائب الهولندي جيرت فيلديرز. في أي معيار تضع هذا الفيلم؟ الحرية في الفن، أم الصراع الغربي ضد الاسلام؟
في معايير ما يسمى الفن واللافن. أحياناً نجد نوعاً من النشاط يبدو كأنه يشبه الفن، لكن الى أي حد هو فن؟ الرقص مثلا هو نوع من الإثارة، هل هذا فن أو لا فن؟
أنا لا أستطيع أن أضع فيلم«فتنة» (مع أنني لم أشاهده كله، اطلعت على بعض المشاهد فقط) في إطار الفن. أولاً، كفيلم، هو قصير جداً، كله مشاهد متقطعة، يركز فيها على مشاهد القتل، ليقول هذا هو القرآن. الفيلم يتضمن رسالة مباشرة، خطبة وإن كانت بلغة الصورة. هو مثل الاعلان، هدفه إعلاني وإقناعي. هو استخدام تجاري للفن، ويمكن أن يكون استخداماً للفن في إطار معركة سياسية. في فن السينما نأخذ الرسالة من خلال مفردات الصورة، ومن خلال مفردات التقطيع والسيناريو.
من حيث الطرح، هذا الاسلوب الذي يعتمده فيلديرز يعتبره في مواجهة الارهاب الاسلامي. هل أنت مع حرية التعبير التي تصل الى هذا المستوى في الفن؟
أنا طبعاً مع حرية التعبير، ولا أستطيع إلا أن أكون مع حرية التعبير التي قد تتجاوز الخطوط الحمراء، لكن هذه الحرية يجب أن تملك في مضمونها إمكان الطرف الآخر في الرد، بالرأي وليس بالقتل. كتب عن الاسلام الكثير جداً، وعن النبي والقرآن الكثير جداً، بلغات مختلفة، هذا أمر طبيعي في هذا العالم. على المسلمين أن يعتمدوا آلية الحوار نفسها والرد. لا بد من الحوار.
أنا دخلت في حوار مع منتج هذا الفيلم، حتى قبل أن يفكر في عمل هذا الفيلم، عندما طالب البرلمان الهولندي بمصادرة المصحف من كل المكتبات، البرلمان رفض، وقال فيلديرز إن القرآن يشبه كتاب كفاحي لهتلر. وصحيح أن كتاب «كفاحي» لهتلر ممنوع من التداول في أوروبا، لكنه موجود في المكتبات الجامعية، غير معروض للبيع.
نفهم أنك توافق طرح السيد محمد حسين فضل الله استعداده لمحاورة منتج فيلم «فتنة»؟
هذا ما يجب أن يحصل، فأنا تحاورت معه طبعاً عبر الوسائل الإعلامية، لكن لم يعط ذلك نتيجة، مع ذلك يجب أن يكون هذا هو الموقف الاسلامي، يجب ان لا يكون دائماً الانجرار وردة الفعل الانفعالية. أنا أحيّي سماحة السيد فضل الله، لأنه أبدى استعداده لأن يحاور هذا الرجل.
الحكومة الهولندية موقفها واضح. البرلمان الهولندي موقفه واضح، كثير من الساسة الهولنديين موقفهم واضح، لكن لا يستطيعون منع الفيلم، لأن حرية التعبير جزء من تقاليد المجتمع. المسلمون في هولندا كان موقفهم إيجابياً، وهم لجأوا إلى القضاء.
بالتأكيد تابعت الخلاف بين صاحب الرسوم الكاريكاتورية كورت فيسترغورد التي أثارت ردود فعل مماثلة وصاحب فيلم «فتنة»، الأول يقول انه حاول الرد على الارهاب من خلال رسومه، ويتهم فيلديرز بأنه أساء للاسلام، الفرق كبير بين الهدفين، هل يأخذنا هذا الخلاف إلى طبيعة ردات الفعل الغربية على موضوع الارهاب الذي يقوم به مسلمون؟
المطابقة بين الارهاب والاسلام هي تبنٍّ لوجهة نظر الارهابيين عن الاسلام، بمعنى أن أي أحد يقول هذا هو الاسلام يؤيد وجهة نظر الارهابيين في تفسيرهم للقرآن ونظرتهم الى الآخر. بمعنى آخر لا إمكان لأن ترى هذا الارهاب إلا ظاهرة لها ظروفها وملابساتها وسياقها، وهي ليست موجودة منذ الأزل، ومنذ ظهور الاسلام. هذا عدم إدراك لتاريخ الإسلام، ولتعدد المجتمعات الاسلامية، لا يمكن اختصاره سواء تاريخياً ولا جغرافياً، لا يمكن اختصار الإسلام كتاريخ ودين وفلسفة هكذا. هذا نوع من التبسيط، يخدم أبعاداً ايديولوجية ضارة بالمجتمع الاوروبي نفسه، لان المسلمين في أوروبا أصبحوا جزءاً منها.
الكلام على المسلمين كأنهم من عالم آخر خطير جداً، لأن المسلمين الذين عملوا أحداث التفجير في لندن هم انكليز، ولدوا وتربوا في المدارس البريطانية. يجب أن ندرس الظاهرة بعمق أكثر، ونطرح السؤال التالي: ما الذي دفع بهؤلاء الشباب للقيام بهذه الافعال؟ ما هي مسؤولية التعليم، ما هي مسؤولية المجتمع؟
المسؤولية هنا لا تقع على عاتق الاديان السماوية، بل على الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، الكثير من السياسيين يتحاشون هذه الاسئلة لأنها تضع المسؤولية عليهم، فيبحثون عن كبش فداء، ويكون الإسلام.
مقابل موقف الغرب هناك أصولية لم تكتفِ بأفغانستان، فداهمت العراق، وتوزع نشاطها على اليمن ولبنان ودول أخرى… كيف نكمل الخارطة مع الطرفين؟
استطاع النظام الدولي أن يستخدم محاربة الارهاب كمدخل أو مبرر لمشروع سياسي استعماري واقتصادي. لم يعد خافياً أن هذا هو المشروع الاميركي في الشرق الاوسط الجديد.. وهو يجمع، الى جانب القوى العسكرية، القوى الاقتصادية أيضاً. هذا كلام المحللين السياسيين داخل المؤسسة الاميركية نفسها. الشرق الاوسط الجديد كمفهوم، دمقرطة الشرق الأوسط، ما يحدث في لبنان، ما يحدث في العالم العربي، كل ذلك يضعنا إزاء مشروع يتداخل فيه توظيف ايديولوجيات متعددة، منها الايديولوجيا الدينية. نحن نحتاج إلى تحليل هذه الظاهرة، فالقول إن أميركا ضد الاسلام يمثل تبسيطاً لطبيعة المشروع الاميركي، الذي يراد لهذه المنطقة، وان مكافحة الارهاب جزء من هذا المشروع. نحن نحتاج الى خطاب نقدي، لا يكتفي بنقد الآخر، بل يتعداه إلى النقد الذاتي ايضاً.
قبل الخطاب الديني. استخدام الايديولوجيا الدينية جعل الغرب يزداد كرهاً للاسلام، وعلى المستوى الإسلامي زادت الحركات الأصولية المتزمتة، والأمر آخذ بالتوسع. ألا ترى أننا لا نزال نعيش حالة المدّ لا الجزر في هذا المستوى؟
أنا أعتقد أننا في حالة بداية النهاية، وأرجو ألا أكون مفرطاً في التفاؤل. أعتقد ان المسألة وصلت الى أقصى ما يمكن ان تصل، ليس بعد ذلك أي أفق، التكفير وصل الى أقصاه، وأبرز الوجه الدموي الذي يثير استياء المتدينين العاديين، ويمكن أن تلاحظ ذلك في كثير من المجتمعات العربية والاسلامية.
حتى تتحقق بداية النهاية، نحن نحتاج الى مناخ من الحرية غير متوافر في المجتمعات الاسلامية والعربية، خصوصاً في مجال الفكر الديني. ربما متوافر ان تشتم بعض الشخصيات السياسية، أو تتحدث عن فشل سياسة حكومة معينة، لكن غير متوافر أنك تطرح افكاراً لا تقبلها المؤسسات الدوغماتيكية، سواء الأزهر أو المؤسسة الشيعية.
نحتاج إلى مناخ الحرية لنساعد هذا المجتمع حتى يجتاز عنق الزجاجة، إلى أفق مفتوح. الأفق الآن مسدود، فوصول الإرهاب الى الحال الدموية غير مسبوق. من دون الحرية لا يمكن محاربة هذا الإرهاب.
ألا ترى أن السلطات العربية تتواطأ مع حالات التكفير التي نشهدها؟
طبعاً، الأنظمة العربية بمجملها غير شرعية، أتت الى السلطة إما بالانقلاب العسكري أو بالوراثة، ما يعني أن الحكم إما عائلي وراثي وإما جمهوري عسكري وهو وراثي أيضاً. هي أنظمة لم تأتِ بها الشعوب عبر اختيار بين بدائل عدة.
هذه الأنظمة تحتاج الى صنع مشروعية لها، وصنع المشروعية لا يأتي إلا من خلال استخدام الدين، وستجد أمير المؤمنين هنا، وحامي حمى الحرمين هناك، والازهر في مصر الخ…
استخدام الدين من قبل الحكومات أمر واضح، لإضفاء شرعية على قراراتها، كل قرار يريده الحاكم يحتاج الى تأييد المؤسسة الدينية، مثلا الحرب على الإرهاب التي أطلقتها أميركا يحتاج إلى إدانة المؤسسات الدينية له، وهذه الإدانة لا تكون على أساس فكري عميق بل على أساس أن هذا ضد الاسلام، مقابل ذلك، تأخذ هذه المؤسسات الدينية من الحكومات نوعاً من السلطة ايضاً، كالرقابة والمصادرة، ولهذا تزايدت حدة المصادرة والرقابة على الفكر والفن والأفلام السينمائية وضد فنانين وشعراء، الخ… والمؤسسة الدينية مؤسسة شرهة.
هذا يحصل أيضاً في بلاد إسلامية غير عربية، كما أن الحكومات تستخدم بدورها المؤسسات الدينية كعصا الاخوان المسلمين، ليقولوا للناس هذا هو البديل، وأنا أفضل من هذا البديل. وتلك رسالة ايضا إلى العالم الغربي، اذا لم تؤيدني فهذا هو البديل.
والضحية هم المتدينون والدين نفسه، فحين يتحول الدين، الذي هو أفق لممارسة علاقة الانسان بالكون، الى وقود في عربة السياسة، يحترق لتسير عربة السياسة. نحن نعيش الدين المشغول بفتوى إرضاع الكبير أو بكتاب صدر فيه كذا وكذا، أو مشغول بلوحة، أكثر مما هو مشغول بقضايا البشر، بقضايا التعليم بقضايا الصحة…
الحرب المعلنة ضد الارهاب، التي تساهم بها الحكومات العربية، برأيك هي حرب فعلية أم صورية؟
عندما يحصل حدث إرهابي أو تفجير، تتضرر المؤسسة الرسمية، وتتضرر السياحة، ومن المؤكد أن الدين يقف ضد هذا التفجير. لكن علينا البحث عن بذور الارهاب ومسبباته داخل مؤسسات المجتمع، والبحث عن البذور الفكرية للارهاب. أنت تعاقب الشبان، أما الذين يصنعون الفكر الذي ينتج إرهاباً، فهم يتمتعون بالسلامة. أنت تعاقب الى حد كبير الضحية، ولا تعاقب المسبب لهذا الفساد.
اذا أدركت عمر الشبان الذين يتورطون في الارهاب، وأدركت خلفياتهم، تدرك بشاعة الصورة، في مجتمع حيث لا أفق للمسبقبل، وحيث ان المتخرج من الجامعة لا يحصل على وظيفة إلا بالواسطة، وهذا يعني أنه لن يحصل على سكن ولن يتمكن من الزواج، ولا يستطيع أن يتعالج، ويظل الشاب أو الفتاة عالة على ذويه الذين بالكاد يعيشون.
الشاب الذي يعيش أمام أفق مسدود يصاحبه لا انتماء، من السهل استقطابه من قبل جماعة تخلق له حالة انتماء، وتسهل له معاملة الزواج بخروج على الأعراف، كأن يكون الزواج عرفياً، من دون أي تعقيدات.
كل هذه البؤر تخلق بدائل، تخلق انتماء آخر، كالانتماء الى هذه الجماعة التي تؤمن لهم أشياء، عجز المجتمع نفسه عن تأمينها…
يجب أن يدرسوا تاريخ هذه الجماعات وأهدافها والعلاقات داخلها، ودور المؤسسات الرسمية التي تصرف عليها.
الإصلاح
كيف نحوّل الخطاب النقدي النخبوي الى خطاب شعبي؟
عندما أتكلم على التلفاز لا أستخدم الخطاب النخبوي، فنوعية الخطاب تختلف بين وسيلة إعلامية وأخرى. إن مقالة لجريدة لا بد يختلف الخطاب فيها عنه في كتاب. في حديث التلفاز أستخدم لغة مختلفة، لغة تبسيطية، فنحن لا نتنازل عن الأفكار إن قلناها بلغة سهلة، شرط أن لا نغير المعنى المراد. إنها معادلة صعبة معقدة جداً أن تقول الكلام نفسه والمضمون نفسه بلغة تصل بها الى الجمهور.
هذه المعادلة لا يمتلكها كل مثقف.
أعتقد أنني، إلى حد ما، نجحت في أن أقول الأفكار المعقدة بلغة سهلة، من دون أن تفقد عمقها.
يجب أن يستعد الناقد إلى أن أفكاره قد ترفض وقد تقبل. يجب أن يتصف بالتواضع. فهو شخص من هذه الأمة ربما أكثر تعلماً وعلماً، لكنه ليس من طينة أخرى.
عندما يسألني أحدهم عن مشروعي للأمة، أجيب بأن ليس لدي أي مشروع، المشروع يحتاج إلى نبي، وأنا لست نبياً، ومستعد لأن أتقبل أن يرفض أحدهم أفكاري، لكن لا أن يقتلني. لا أفكار مطروحة غير قابلة للرد، وهذا جزء من الإيمان العميق داخل المثقفين.
هناك مجموعة من المثقفين النقديين يعملون على مواجهة الحالة القائمة، لكن كل مثقف لديه اتجاه، هناك مثقف ديني منفتح ومثقف ليبرالي ومثقف لاديني متطرف. هل تدعو الى تجمعات ثقافية لدراسة وبحث كيفية المواجهة، خصوصاً أن لديك تجربة في هذا المجال؟
كنا عملنا مؤسسة لتحديث الفكر العربي، وأعلنا عنها، لكن المشروع لم ينجح لأسباب تمويلية. إن أي عمل فكري ثقافي حقيقي يحتاج إلى تمويل، كان هدفنا أن نقوم بعمل أبحاث، دراسات، منشورات وترجمات لأعمال كبرى مثل الموسوعة القرآنية.
كان عندنا أمل في أن ينجح الأستاذ محمد الهوني ويقنع بعض رجال أعمال عرب ليستثمروا بعض أموالهم في هذا المشروع التحديثي، لكنه لم ينجح. فوجدنا أنفسنا عاجزين عن القيام بهذا المشروع، وأننا سنتحول إلى دار نشر صغيرة، أعلنا تخلينا عن المشروع، إلا أن الامر يبقى وارداً.
أنا أتمنى أن ينشئ بعض المثقفين مؤسسات ثقافية، لكن من دون أن يجتمعوا حول ايديولوجيا يقسمون عليها، كأيديولوجيا الحزب.
لكن على الاقل أن يكون هناك شعار. ما هو الشعار الذي يمكن أن يجمع هؤلاء المثقفين المتنورين؟
أنا أتمنى أن يكون عندنا انقسام في الفكر الثقافي بين علمانية لا تستبعد الدين وفكر ديني لا يستبعد العلمانية، أن نتكلم على مشروع علماني عقلاني منفتح، (لأن العلمانية قد تكون إيديولوجيا) بمعنى أن العلمانية لا ترفض الدين كاحتياج إنساني، وإن كان من حقها أن تنتقد الدين وتقوم بتحليل تاريخي له. نحن نحتاج إلى مثل هذه المصالحة بين العلمانية المنفتحة وتقبل الدين كاحتياج إنساني.
أنا أتحدث عن العلمانية المنفتحة التي تقبل التعددية في داخلها، ومن ضمنها الدين الذي هو معطى اجتماعي وحاجة إنسانية. السائد في العلمانية العربية، بشكل عام، أنها علمانية إقصائية، والاسلاموية أيضاً هي إقصائية، وهذا الخطر الذي يحوطنا. نحن نحتاج الى الفصل بين الدين والدولة، هذا كلام لا يحتمل التنازل، الدولة ليس لها دين ولا ينبغي أن يكون لها دين. الدولة تحمي المواطنين، هؤلاء المواطنون ينتمون الى عقائد دينية مختلفة، شيعة، سنة، دروز، موارنة الخ…. إذا كنا نتكلم على المجتمع اللبناني. ماذا يعني أن دين الدولة الإسلام؟ أنا أقول دائماً مثلاً قد يبدو مضحكاً: الدولة لا تذهب الى المسجد لتصلي، لا تذهب الى بيت الله الحرام، لا تدفع الزكاة… الدولة ليس لها دين، الدين هو المواطنون الموجودون داخل المجتمع الذي هو مثلاً المجتمع المصري. هناك مواطنون مسلمون وهناك أقباط، فيجب على هذه الطوائف نفسها أن تنشئ مؤسساتها الدينية لا الدولة.
العرب في الإسلام
وسط هذه الصورة المظلمة ومحاولة جر الدين الى الوراء، هل يمكن أن يتجدد الخطاب التنويري، ويخرج من بين المتدينين علماء كبار، يأخذون الدين إلى بر الأمان؟
أعتقد أن هذا يحصل خارج العالم العربي، ربما التغطية الإعلامية غير كافية. العرب أصبحوا أقلية في الاسلام، هناك حركات تجديدية، وأقصد بذلك أصيلة في الفكر الاسلامي خارج العالم العربي، إيران فيها حركة تجديدية في الفكر الإسلامي، الحوزة فيها حركات تجديدية، فيها علماء يتبنون مقولات تكاد تكون من منظور أهل السنة ردة.
ما سبب أن يتركز التجديد خارج العالم العربي برأيك؟
هذا سيعيدنا الى علاقة الفكر الشيعي تاريخياً ـ هنا أرجو ألا أكون دخلت في الصراع الشيعي السني، في هذا المجتمع أو ذاك. أنا لا أعتبر نفسي شيعياً أو سنياً، أنا باحث ـ الفكر الشيعي تاريخياً لم يفقد صلته بالعلوم الفلسفية، وفي العصر الحديث أيضاً لم يفقد صلته بالفلسفة الحديثة. الفكر الشيعي فيه هذه الحيوية، وهذا له أسباب تاريخية مرتبطة بطبيعة أن الفكر الشيعي كان فكر الأقلية، وأسباب أخرى طبعاً.
هناك علماء لهم علاقة بالفلسفة الحديثة، في أندونيسيا، في الهند في جنوب أفريقيا، علماء يقومون بتجديد، ربما لا نجد له مثيلاً في العالم العربي السني. محمد مجتهدي ومحمد إقبال وفضل الرحمن. هناك أسماء كثيرة جداً، للأسف العالم العربي غير مطلع عليهم.
قمت بدراسة باللغة الانكليزية، في إطار الجدل حول الاسلام في أوروبا، عن الاصلاح الديني في العالم الإسلامي الحديث. هناك حركة إصلاح، واقتراب من العلمانية، ورفض للدولة الدينية، ونقاش حول الشريعة وأحكامها كقطع اليد والرجم وغيرها…
العالم العربي يقدم نفسه كأنه هو الاسلام، هذه أكبر جريمة يرتكبها العالم العربي في حق نفسه. نحن لا نعرف ماذا يحصل في تركيا. كل ما يكتب باللغة العربية يترجم إلى جميع اللغات، لأنهم يعتبرون أن العرب هم جزء من العالم الاسلامي، وأن المفكرين العرب مهمون بالنسبة إليهم، بينما نحن لا نهتم، مثلاً، بفكر المفكرين الأندونيسيين أو بكلامهم.
هل يمكن اختصار صورة الخطين البيانيين لتصاعد الحركات الأصولية في العالم العربي، من جهة، والاتجاه المعاكس لها من جهة أخرى. الواضح أن الحركات الأصولية في حالة تنامٍ، بينما أنت وضعتها في بداية النهاية، في الوقت الذي نرى فيه الخطاب النقدي المواجه لها في حالة انحسار؟
أرجو أن لا أكون مفرطاً في التفاؤل، فقد وصل الخطاب الأصولي إلى قمة دمويته، أصبح يصيب الناس بالقلق والتوتر ويصل أحياناً لحد الكراهية، إن الخطاب النقدي يعاني معوقات، منها معوقات الحرية، وهذه معركة أساسية. الأمر الثاني أن الوضع في العالم غير العربي مختلف، بالرغم مما يبدو من سيطرة سياسية للتيارات السلفية، مثلما حصل في إيران، هزيمة التيار الاصلاحي ومجيء التيار غير الإصلاحي كان على المستوى السياسي وليس على المستوى الفكري، فالتيار الاصلاحي لم يفقد مكانته.
أما في العالم العربي، فهناك معوقات كبيرة، بسبب التلاعب بين السلطة السياسية والفرق الاسلامية، وأيضاً مشكلة الصراع العربي الاسرائيلي التي تغذي بشكل غير مباشر النزعة الأصولية، عندما يطرح الاسلام بأنه الشكل الوحيد للكفاح ضد الصهيونية. هذه مشكلة تحتاج من التيار الفكر النقدي أن لا يتردد في اقتحامها، يعني أن نقد الفكر النضالي الديني الذي يختصر نضال أمة بشعارات دينية، يجب أن يكون أحد مهام الفكر النقدي، رغم كل الصعوبات. مثلاً حماس، لا أعتقد أنها انتخابات ديموقراطية، كانت اختيار بين شرين، وهذه ليست ديموقراطية، الديموقراطية هي اختيار بين ممكنين. الشعب الفلسطيني اختار أهون الشرين. ممكن أن يتم نقد حماس. كان من الافضل أن يظلوا في المعارضة، لأنهم غير مؤهلين للحكم، فخطابهم «مشيخي» وليس سياسياً. يجب أن يتحلى المثقف النقدي بالشجاعة. المثقف النقدي مع النضال بدون شك ـ أنا مع النضال ضد العدو ـ لكن أنظر أن هذا النضال هم قومي، وليس هماً دينياً.