صفحات مختارة

الإيهام الذاتي والتماهي في صناعة الدولة القومية

null


حنا عبود

يفيدنا التاريخ البدائي أن الهوية البشرية كانت ممتزجة مع بقية الهويات. كل ما في الكون حي، من ذرّة الرمل حتى الغيوم والنجوم.. بل حتى الأحلام. ونذكر بهذه المناسبة أن الرومان أقاموا ديوانا سموه ديوان الأحلام، يأتي المرء المبصر لحلم ويروي حلمه لمفسري الأحلام، فإن وجدوا فيه ما يشير إلى خطورة على البلاد أو تهديد لحياة الإمبراطور قتلوا الحالم، لاعتقادهم بواقعية الأحلام ووجودها الحي، مثل أي كائن حي. فإذا كانت دولة حضارية مثل روما تعمد إلى محاكمة الحالمين، لاعتقادها بواقعية الحلم، فماذا يكون الأمر لدى الشعوب البدائية الموغلة في القدم!

التماهي والإيهام الذاتي

في الشعوب البدائية كانت ظاهرة التماهي شائعة جدا، وليست محصورة كما في هذه الأيام. كانت التراتبية السلطوية كلها من الصغير إلى الكبير، ومن الأدنى إلى الأعلى يمارسون التماهي إلى درجة بعيدة، حتى أن الرجل كان يشعر بآلام الوضع عندما يأتي المخاض لزوجته، ويتألم فعلا لا وهما. الكثير من التجارب التي أثبتت أن المحرض الوهمي لا يختلف في قوة تأثيره عن المحرض الواقعي. وتجربة العالم الروسي بافلوف على الكلب مشهورة. كما أن المسمارية (علم التنويم المغناطيسي) وكذلك التحليل النفسي والاعتماد على التداعي، لا تخرج عن الإيهام الذاتي، الذي يحول المتخيّل إلى مؤثر واقعي حقيقي. وقد تبين أن التنويم المغناطيسي ما هو سوى إقناع المرء بضرورة التماهي في موضوع ما يختاره المشرف على التنويم. وعندما يقتنع المريض بذلك يتصرف كأنه شخص آخر.

والأمم كالأفراد تخضع للإيهام الذاتي. أشرنا إلى روما وكيف كانت تتعامل مع الحالمين. ولم تكن روما الباحثة عن هويتها في أحلام الأفراد وحيدة، بل إن الكثير من الدول والأمم نحت هذا المنحى وصادرت الأحلام. وقد كان أبو جعفر المنصور، الخليفة العباسي الثاني، يستقدم نوعين من الرجال إلى قصره ويجزل لهم العطاء، الأطباء والمنجمين: الأطباء حرصا على صحته، لأن سلامته هي، في قناعته، سلامة الدولة. أما المنجمون، فحتى يعرف التقلبات الكونية فلا يقدم على مغامرة تقضي على الدولة.

كثيراً ما تجرفنا بعض العناصر التي اعتدنا أن نعزوها للهوية من أمثال العرق والجغرافيا واللغة والدين الخ.. وربما يأسرنا التفسير النفسي للهوية.. فنسير وراء هذا التفسير أو ذاك متناسين التخمّر الذي يقوم به العقل الباطن في اختزان عناصر كثيرة ينجم عنها إيهام الذات. والذي نراه أن هناك مجالا رحبا للإيهام الذاتي، وهو يلعب دورا كبيرا في الهوية.

أما عندما تنطلق الهوية من الواقع، فإن لها نكهة خاصة أخرى. وخير مثال على ذلك نجده عند غجر أوروبا، فهم لا يوهمون أنفسهم بشيء، وإنما يمارسون الحياة، بالمقدار الذي يستطيعون.

الإيهام واستغلال الدهماء

إن التربية القومية، أي التربية التي ترمي إلى تنمية الهوية القومية، وتحصين الأجيال الصاعدة ضد أي شيء يمكن أن يزعزع حصن «الأمة».. لا تختلف عن تربية الطفل.

الانتقال من الإمبراطورية إلى الدولة القومية حصل في أوروبا قبل غيرها. هناك إمبراطوريات انتقلت إلى الدولة القومية بهدوء، وهناك إمبراطوريات تفتتت كليا، فقد انتهت فارس وبيزنطة بينما انتقلت مصر، وإنْ خلال فترة طويلة، إلى دولة قومية، قبل أن تحتار بين الأفريقية والعروبة. وهناك إمبراطوريات ظلت محافظة على القسم الأكبر من أراضيها، مثل الصين.

لا تهمنا طريقة الانتقال، ولكن يهمنا أن ذلك الإيهام الذي عليه بُنيت صروح من التعاليم القومية المليئة بالغرور والثقة المطلقة بالذات، بدأ يتآكل من كل الجوانب.

إن الحدود التي رافقت الدولة القومية راحت تتميّع وتختفي، وغاص ترمينوس (إله الحدود عند الرومان، الذي كان مقدسا تقديسا كبيرا، وكان يشخّص بأحجار توضع على التخوم بين ملكية وملكية) في الأرض ونمت مكانه أشجار مزهرة زاهية. المقدس صار يدنس ويكنّس. وعندما تضخم الإنتاج المادي صار الارتباط به يشكل الدعامة الأساسية للحس الواقعي. وكانت أوروبا الأسرع إلى هذا الوعي الواقعي.

القبيلة.. والامبراطورية

ولكن لو عدنا إلى القبيلة لوجدنا الشيء ذاته، فعندما تستقر القبيلة في مكان تدافع عن ملكيتها وحق الرعي والزراعة الموسمية، فإذا استقرت في مكان آخر دافعت عنه تماما كما دافعت عن غيره. ولو عدنا إلى الإمبراطورية لوجدنا المشاعر ذاتها: علو ورفعة وسمو وكرامة وقوة.. والإمبراطورية تدافع عن حدودها وإنتاجها وتصريف فائضها مثل القبيلة والدولة القومية. ألا نلمح في هذه الصفات المستمرة من القبيلة إلى الدولة القومية، أن المشكلة ليست في القبيلة ولا في الدولة وإنما في الإيهام الذي تنتجه المشاعر التي تغلي وتفور في الأعماق البشرية: الطمع وحب الاستئثار والشعور بالاستعلاء وتوسيع الملكية وتعزيز السلطة..

تصنيع مثل هذه الهوية يجعل الفرد نفسه ممثلا للإمبراطورية، أو ممثلا للأمة، يحمل في نفسيته كل تلك السمات التي خرجت من «المصنع» الذي أنفقت الدولة عليه الكثير من المال والرعاية. كان الروماني يشعر أنه فوق العالم، وليس مع العالم، وأنه الرائد في كل شيء، بل إنه يملك كل شيء.

الحقوق القومية

عندما عادت الهوية القومية إلى الظهور في أوروبا بعد عصر النهضة، حملت معها معالم من الدعوات الصارخة السابقة. أما في الحوض الشرقي للبحر المتوسط فقد بدأت الهوية القومية تظهر في أواخر القرن التاسع عشر، من ضمن حدود الإمبراطورية الأوروبية. ومنذ ذلك الوقت علت الأصوات بعد أن تغيرت الشعارات من «الطورانية» إلى «العروبة» بينما ظل الهدف واحداً، وهو تكوين قوة فاعلة من أجل إنجاز مهمات كبرى، لمصالح طبقية أو فئوية..

كل انتفاخ في الداخل يكون على حساب الخارج. كل إيهام ذاتي قومي يثير حفيظة الدول والشعوب التي يشير إليها هذا الإيهام، ما يؤدي إلى مناوشات ومعارك وحروب حدودية كثيرة. وكل إيهام يهفو إلى الدهماء. والإيهام عمل سياسي لتحقيق مأرب شخصي أو فئوي أو طبقي. إن الدهماء قوة هائلة بيد السياسيين والعقائديين والدينيين، يفعلون بها المعجزات. وتظل الأمور على هذا النحو إلى أن يقوم شامان آخر ويطرح معالم هوية جديدة.

وبما أن الدهماء لا يمكن أن يكونوا جميعا قادة فلا بد من تشكيل حزب واختيار قيادة، وهذه القيادة تنتخب زعيما، وبذلك يكون الزعيم ممثلا للقيادة الممثلة للحزب الممثل للطبقة، وهي الطبقة التي تمثل الجماهير، أي كل الدهماء. كل التشكيلات السياسية أو العقائدية أو الدينية تسير على هذا النحو.

العقابيل

إن العقابيل التي نشأت من الكير والكور القوميين أدت إلى أشياء واحدة في القارات الثلاث تقريبا. فتحت حجة «الشرعية الثورية» قفزت مجموعة إلى السلطة، وصارت تمارس صلاحيات لا وجود لها في الدستور. وأدى قيام الدكتاتوريات إلى تعطيل الدولة بكل مفاهيمها. بقي الشعار وذهبت الدولة.

إن قيام تلك الحركات التحررية لم يؤدّ إلى فرط عقد الدولة فحسب، بل أدى إلى مسح وجه المجتمع. لم تعد هناك شخصيات سياسية واجتماعية وفكرية وفنية مرموقة.. لم تعد هناك طبقة ذات معالم محددة، كما لم تعد هناك فئة مقتدرة تُعنى بالهم الثقافي والمسار الدستوري.. إن هذه الهوية المصطنعة قضت على المجتمع الأهلي وعلى كل نشاط مدني حر.

نحن اليوم أمام ظروف جديدة كل الجدة، بعد زوال الاتحاد السوفييتي. وكما ترك الكير والكور مكانهما لأدوات أقل كلفة وأتقن صنعا وأصغر حجما وأجدى إنتاجا، لا بد أن يترك الإيهام القومي الذي جعل الذات تنتفخ إلى أعلى مداها، لأدوات أقل كلفة وأكثر تواضعا وأرحم قلبا وأعمق إنسانية. هذه الأدوات غير موجودة، وعلى الذين يعيشون العصر أن يصنعوا الأدوات بعيدا عن الإيهام.

كاتب من سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى