سوريا: إصلاح اقتصادي بأدوات بيروقراطية
سمير سعيفان
(…) خلال النصف الثاني من الثمانينيات اتخذت أول تشريعات إصلاح اقتصادي لتشجيع الاستثمار الخاص الزراعي والسياحي ثم توّجت بصدور القانون رقم 10 لعام 1991. جاءت أول إجراءات لتشجيع القطاع الخاص للاستثمار ضمن مناخات «البيروسترويكا السوفيتية» في النصف الثاني للثمانينيات، والتي أشاعت مناخاً لقبول القطاع الخاص في البلدان «الثورية الاشتراكية». غير أن المصير التراجيدي الذي قادت إليه البيروسترويكا المنفلتة النظام السوفيتي. وتجربة الجزائر التي قامت بانفتاح اقتصادي وسياسي مستعجل غير مدروس كانت نتيجتها انطلاق حرب أهلية لم تنته حتى اليوم قد أصابت القيادة السورية بالفزع. فتوقفت عن أية إجراءات انفتاح اقتصادي. لذلك وبعد أن استجاب القطاع الخاص نسبياً لقانون الاستثمار رقم 10/1991 ومتأثراً بالمناخات الايجابية لمحادثات السلام بعد مؤتمر مدريد 1991، وقد استمر النشاط الاستثماري النشيط للقطاع الخاص على مدى سنوات النصف الأول لعقد تسعينيات القرن الماضي، ثم بدأت الاستثمارات تتراجع في النصف الثاني لتسعينيات القرن العشرين بسبب توقف أية خطوات إصلاحية اخرى مكملة وضرورية، فبقي القانون 10/1991 وحيدا يفتقد للبنية التشريعية والتنظيمية الضرورية لخلق مناخ استثمار حقيقي، فبقيت شجرة وحيدة لا تخلق غابة مهما كبرت. وقد ترافق هذا مع توقف عملية السلام بعد اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي رابين عام 1996. وبدأت الآثار السلبية الاقتصادية بالظهور إلى حد أن معدل النمو كان سالباً في عامي 1998 و1999. ولكن بقيت السياسة الاقتصادية السورية مرتبكة على مدى عقد التسعينيات من القرن الماضي. ولم يبدأ الإصلاح الاقتصادي إلا بعد عام 2001 وبعد تسليم الرئيس بشار الأسد مقاليد السلطة عام 2000.
الصراع حول الإصلاح الاقتصادي
تجمعت مجموعة من العوامل التي منحت قوة لتيار الإصلاح الاقتصادي. والمقصود بالإصلاح هو التحول الى دعم النموذج الرأسمالي في سوريا، وهو اتجاه بقيت جذوره قوية دائماً وإن كانت أحياناً تحت التربة السطحية للأرض السورية. فعلى مدى العقود الأربعة من سلطة حزب البعث تغيّرت الطبيعة السياسية للنظام وتغيرت قاعدته الاجتماعية والمصالح التي يمثلها رغم استمرار خطابه الشعبوي حتى عقد التسعينيات ليحل محله خطاب براغماتي جديد يروج للنهج الاقتصادي الجديد بلغة ملطفة. فقد نمت مصالح خاصة قوية ونشأ قطاع أعمال بنفوذ متزايد، خاصة أن بعضه يرتبط قوة ببعض الأوساط البيروقراطية. وقد جاءت البيروسترويكا السوفيتية التي روّجت للاستثمار الخاص والإصلاح الاقتصادي منذ 1985، كما كانت أيضاً تجربة الصين لتشكل مرجعاً محبباً لدعاة الاصلاح في أوساط الدولة، ثم جاء انهيار المعسكر الاشتراكي وبروز دعوات النظام العالمي الجديد ثم العولمة، كلها جاءت لتخلق مناخاً مناسباً لدعوات الإصلاح الاقتصادي والتوجه نحو نظام اقتصاد سوق رأسمالي. ومن جهة أخرى فقد تنامى ضعف القدرة الإنتاجية للقطاع العام المقيد بإدارة بيروقراطية من بنية تنظيمية وتشريعية ومؤسساتية وجهات وصائية كثيرة وكادرات مختارة وفق أسس لا تنسجم والكفاءات التي تتطلبها الإدارة الكفء، وهدر وخسائر تتعاظم باستمرار وعجز «مقصود ومرغوب من قبل البعض» عن الإصلاح. مع دعوات الإصلاح لا بد من محاكاة ما يجري في الدول الأخرى وخاصة القريبة والبعيدة واتباع وصفات الانفتاح الاقتصادي والإفساح في المجال امام القطاع الخاص وتشجيعه ومنحه المزايا المماثلة لما تمنحه دول أخرى، أي تشكيل مناخ تشجيع الاستثمار نفسه ببنيته التشريعية والتنظيمية والمؤسسية.
قوى ممانعة الإصلاح: غير أن الإصلاح الاقتصادي بوصفته المعروفة يعني بروز قوة الرأسمالية السورية وهي العدو التاريخي لحزب البعث منذ أواسط ستينيات القرن العشرين.
ورغم أن الرأسمالية السورية قد نمت على مائدة القطاع العام وفي شراكة مع العديد من مراكز البيروقراطية، فإن نموها يبقى يشكل خطراً مما يستدعي التدرج وإحكام السيطرة من الداخل، اضافة الى ان الإصلاح سيوجه رسالة مفادها الى ان النظام السوري يتخلى عن تحالفاته التاريخية «تحالف العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين بقيادة الجيش»، ويتحول الى شراكة مع الرأسمالية السورية متخلياً عن الفئات الفقيرة في الريف والمدينة. انه يتخلى عن جذوره الطبقية ويصعد الى الطبقات العليا. وهذا التوجه له مخاطره في سوريا التي ما زال يقودها حزب البعث العربي «الاشتراكي» والتي ينص دستورها على ان النظام الاقتصادي فيها هو نظام اشتراكي، والتي ما زالت تتعرض لضغوط سياسية مركبة وتواجه خطر عدوان اسرائيل الداهم في كل لحظة. ويضاف لهذا ايضاً التخوف من الآثار الاجتماعية لتراجع دور الدولة وتراجع دعم الخدمات المجانية من تعليم وصحة وسلع وخدمات رخيصة تدعمها الدولة مثل الخبز والرز والسكر والشاي والزيت والكهرباء والمحروقات والنقل. ويلاحظ أن الإصلاح يمس مصالح أعداد كبيرة من كادرات الدولة في الحزب والشبيبة واتحادات العمال والفلاحين والنساء الذين يتمتعون بمزايا صغيرة سيحرمون منها في حال سار الاصلاح وفق منهجيات الاصلاح المعروفة عالمياً وتراجع دور الدولة والدور التدخلي لاجهزتها المذكورة آنفا، اذا ما تم الفصل بين الحزب والدولة. وهؤلاء جميعا يقفون ضد الاصلاح، ما لم توجد صيغة تحافظ على مكاسبهم ودورهم الذي يخلق لهم منافع صغيرة عموما، بينما هي كبيرة للبعض منهم. كما أن الاصلاح في سوريا يتم بدون دعم دولي على غرار ما جرى لبلدان المعسكر الاشتراكي القديم، بل يتم والضغوط السياسة الغربية الاميركية والاوروبية مستمرة اضافة لضغوط عربية تنضم للتهديد الاسرائيلي المستمر، حتى القطاع الخاص، هو الآخر يخشى الاصلاح، فقد كان يتمتع بحماية قوية تضمن له أرباحا مضمونة مما يجعله لا يرحب بسياسة الباب المفتوح التي تحضر له منافسين أقوياء من الخارج، وهو لا يمتلك مهارات المنافسة ولا يتفهم متطلبات إعادة الهيكلة. كما ان سيطرة الدولة وتدخلها المفرط في الحياة الاقتصادية تجعل الصفقات الحكومية قابلة للتوجيه وفق معايير وبأدوات معينة، بينما الاصلاح سيحرمهم من هذه الميزة. لقد تعود القطاع الخاص السوري الجديد ان يعمل من خلال الحماية والعلاقة غير النزيهة بالأوساط الحكومية، وتغيير هذا المناخ يهدد مصالحه وهو غير واثق من قدرته على التكيف مع مناخ الإصلاح الانفتاحي، لذا فقد كان معاديا للاصلاح في القسم الأكبر منه.
منهج الإصلاح الذي اتبعته الدولة السورية
بسبب هذا الوضع المركب ورغبة الدولة في الإصلاح من جهة وخشيتها من آثاره، وبرغم من قناعة القيادة السورية بالحاجة للإصلاح، فقد لجأت أولا لإطلاق الحوار حول الاصلاح دون ان تتخذ حياله أي موقف رسمي معلن. وكانت الغاية تحضير القيادات والكادرات السورية التقليدية في مختلف مفاصل الدولة وتحضير القوى المؤيدة والمعارضة والمترددة وتحضير الناس تدريجيا للإصلاح. وقد بدأ الحوار حول الاصلاح الاقتصادي في سوريا في عام 2000، حيث تم تشكيل لجنة الـ18 ثم لجنة الـ35 لاصلاح القطاع العام الصناعي ثم مشروع برنامج الاصلاح الذي وضعته لجنة وزارية عام 2002 ثم لجنة شكلها رئيس الوزراء عام 2003، غير ان أياً من التقارير والبرامج التي وضعت لم تعتمد من قبل الجهات الوصائية. بعدها توقفت مساعي وضع برنامج إصلاح اقتصادي. ولكن استمرت جهود التعاون مع الفرنسيين لوضع برنامج للإصلاح الإداري وآخر للقضائي دون ان تثمر هذه الجهود عن نتائج كبيرة تذكر وبقي وضع الإدارة والقضاء في سوريا ينتظر برامج إصلاحها التي باتت شديدة الضرورة. وقد اتسمت خطوات الإصلاح بغياب الاستراتيجية التي تجيب على الأسئلة التقليدية لدى الانتقال من وضع الى وضع، استراتيجية شاملة معلنة لها استراتيجيات قطاعية ولها استراتيجية اجتماعية مندمجة بها ولها مراحل وأهداف عامة وأهداف قطاعية وأخرى مرحلية ولها معايير قياس أداء ومراحل تناقش على مستوى وطني وتعتمد من المؤسسات الرسمية. وهذه الاستراتيجية هي من يوجه الخطط الخمسية او السنوية او البرامج القطاعية وحتى برامج المؤسسات كما توجه صنع السياسات الاقتصادية وتترجم في برامج تنفيذية قطاعية. وخلال انعقاد المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث في حزيران 2005 تم إقرار التوجه نحو «اقتصاد السوق الاجتماعي» وقد كانت هذه الصيغة مناسبة، لأنها تحتوي «اقتصاد السوق» من جهة وتحتوي «الاجتماعي» من جهة أخرى، ولكن لم تبذل أية جهود ولم يصدر عن المؤتمر أو ما بعد انفضاض المؤتمر أية وثيقة تحدد محتوى اقتصاد السوق الاجتماعي في سوريا»، والأسس الجديدة التي توجه السياسة الاقتصادية وما هي السياسات القطاعية في التجارة والصناعة والاستثمار والنقد والمال والتشغيل والأجور والملكية وغيرها. وبالتالي فقد بقيت سوريا تنتقل من نموذج الاقتصاد الحكومي السابق الى اقتصاد السوق دون ان يكون لها منهج او دليل. وبسبب هذا الوضع بدأت تتردد بعض الآراء حول هذا الاختيار، فالبعض استغرب هذا التوجه ورأى أن لا مكان له، فهو يحتاج لدولة مثل ألمانيا بقدراتها الكبيرة لتحمل نفقاته. والبعض الآخر يقول بتبنيه، ولكنه يقسم تطبيقه الى مرحلتين، الأولى هي اقامة اقتصاد السوق لتحقيق النمو، وبعدها يأتي دور الجانب الاجتماعي. بينما البعض الثالث يجتهد لترجمة تجارب ألمانيا وبعض البلدان الأخرى في الجمع بين الاقتصادي والاجتماعي. والبعض الرابع لا يرى فيه أكثر من استمرار لنهج الدولة السابق، وللوجود القوي للدولة ودورها وللقطاع العام وللسياسات الاجتماعية السابقة، ولكن بصيغة جديدة ودون تغيير يذكر من حيث الجوهر.
وهيئة تخطيط الدولة ليست مؤهلة لمثل هذا الدور، فهي تترجم عادة توجهات وسياسات جهات أعلى. ولكن بسبب غياب من يقوم بهذا الدور سعت رئاسة الهيئة للعب هذا الدور الذي يشكل رافعة لدور أكبر لها. وبحكم عدد من العوامل، لا مجال للخوض بها هنا، فقد جاءت الخطة مقلدة لوصفات صندوق النقد الدولي وجاءت بمحتوى ليبرالي وبجانب اجتماعي وتنموي ضعيف او غائب، رغم استعمالها المتكرر لمصطلح «اقتصاد السوق الاجتماعي» ومصطلح «التشاركية». وفي كل الأحوال وبحكم الأداء البيروقراطي لوضع الخطط الخمسية وتنفيذها فقد بقي دور الخطة ثانوياً، رغم الضجيج الإعلامي حولها. وبسبب هذا الغياب لاستراتيجية الإصلاح والجهاز الذي يشرف عليها، فقد اتسم الإصلاح الاقتصادي في سوريا بالبطء حيناً والتسرع حيناً آخر وبالتردد وبالتجريبية، والأهم انه نشأت هوة بين القرار وبين تنفيذه على الأرض. كما ان الادارة السورية لم يصلها الإصلاح، فأصبح الإصلاح الاقتصادي الجديد يطبق ويدار بعقلية بيروقراطية عتيقة تتسم بالخوف والتهرب من المسؤولية وفقدان الروح الجديدة وضعف قياس آثار السياسات الاقتصادية في أرض الواقع من جوانبها الاقتصادية والاجتماعية. أي إصلاح اقتصادي بأدوات قديمة. وبقيت الإدارة السورية تتصف بما يُسمّى «الجمود على الموجود».
([) كاتب من سوريا
السفير