الاعتباط بوصفه نظاماً لتفعيل القمع
نهلة الشهال
ويا صديقي عباس بيضون، أعلمتْني مقالتك الافتتاحية لصفحة الثقافة في جريدة «السفير»، يوم الجمعة في الحادي عشر من الجاري، أن فايز سارة قد اعتقل. كنت اعرف باعتقال السبعة السابقين ممن حضّروا وحضروا اجتماع المجلس الوطني لإعلان دمشق، الذي انعقد في الأول من كانون الأول (ديسمبر) الفائت، وهؤلاء هم من تبقّى من أربعين أوقفوا خلال الشهر ثم أطلق سراحهم.
ها أن فايز سارة، الكاتب السياسي الساخر، يلتحق بالأخوين البني، واحد معتقل قديم، وآخر جديد، والى علي العبد الله الذي لم يكد يخرج من السجن حتى عاد إليه، والى الدكتورة فداء ابنة أكرم الحوراني، والى ميشيل كيلو الذي حكم عليه بخمس سنوات سجن، وعارف دليلة المحكوم بخمسة عشر! هل نعيد استعراض سيرة كل واحد منهم؟ هل ينفعـ…ـهم ذلك في شيء؟ هل يصبح تكرار ذكر أسمائهم نوعا من التعويذة ضد التبديد… وفي هذه الحالة لماذا نختار، نعرّف بالبعض ويبقى الآخرون أرقاما. هل الاسم وجه، يجعل من صاحبه معرفة.
ويا صديقي عباس، تلك أسئلتي الابتدائية، وقد أعياني، وسواي، الارتطام بصخرة البلادة التي تتمترس خلفها السلطات السورية. لم يبق أحد إلا وطالب بميشيل كيلو، ربما لاتساع دائرة محبيه وربما لظرفه الشخصي، وبالتأكيد لوطنيته التي حملته يوماً، قبيل اعتقاله، وقبيل مؤتمر حزب البعث الأخير، على المساهمة في اجتماعات تداولية مع أركان هذا الحزب والنظام لتطويره سلمياً وبالتراضي، أملاً في إصلاح ما يمكن إصلاحه، إن لم يكن لشيء فتصليباً للوضع الداخلي السوري في مواجهة الهجمة الاستعمارية. وهو كان بذلك يبتدع تسوية تجعل الوطنيين والديموقراطيين السوريين قادرين على شكل ما من أشكال التحالف أو التعايش مع النظام، والاحتفاظ في الوقت نفسه بنزاهتهم وكرامتهم السياسية كأصحاب رأي معارض. قبله حاول وطنيون عراقيون ذلك، يوم اشتد الحصار على نظام صدام حسين، بعيد اجتياحه للكويت والحرب الدولية التي قامت ضده. عرضوا تسوية تتيح للمعارضين مساحة، موقعاً ينخرطون انطلاقاً منه في معركة الدفاع عن بلدهم – وليس عن النظام – بوجه العدوان. إلا أن هذا الأخير كان، وهو يتحشرج، يريد منهم الاستسلام، ولا يفهم كيف يرون فيه مساوئ، ويظن انه أبدي، ويظن أنه شاطر وأنه، كما قال مسؤول لمعارض كان يسعى لإيضاح الخطر وتقديم تحليل للسياق الذي سيجعله يشتد، قال له إنهم سيخرجون وحدهم من المأزق كما دخلوا إليه وحدهم. منطق إقطاعي، تقول لي؟ يمزج الغطرسة بالاستبداد بالغباء.
ويقول آخرون إن النظام السوري غير «محشور»، لا بالمحكمة الدولية ولا بغيرها، وان ما دفع الأميركان للإجهاز على صدام حسين لم يكن بشاعة نظامه، بل افتراض بلوروه هم حول كيفية إدارة مصالحهم في المنطقة والعالم. وهذا البعد الاستراتيجي لا ينطبق على النظام السوري، الذي يملك بالتالي هامش مناورة كبير نسبياً.
ويا صديقي عباس، أريد أن استوقفك لحظة لأسألك عن السبب الذي جعلك تصف فايز سارة بالتقدم في السن، والرجل في النصف الثاني من الخمسين، أي أقل كهولة منك! أم هو مرضه المزمن الذي أوحى لك بذلك؟ وهو على أية حال أصغر سناً من الدكتور عارف دليلة ومن ميشيل كيلو. ثم ما دخل السن في السجن؟ وما دخل الوداعة التي تجعلها من دواعي عدم اعتقاله، فهو ممن لا يصدّق أحد انه يمثل خطراً. وأنت تستند إلى ذلك لتشير إلى قلة منطقية هذا الاعتقال ومشابهيه. ثم انك تقول إن لعبة الفأر والهر هذه غير مفهومة، وانك حقاً لا تدري سبباً للمراوحة بين الترك أحياناً بما يوحي بالسماح، فيتورط البعض ظناً أن هناك فسحة، ليتم الانقضاض عليهم في اللحظة التي تلي، أو بعد حين. وتستدل بالاجتماع نفسه الذي كان علنياً وكان يمكن منع انعقاده، وبأمثلة مشابهة مما أطلق عليه «ربيع دمشق». وتقول تساؤلاتك أخيراً ما معناه أن تلك الاعتقالات غير ضرورية لأنها غير وظيفية، فهؤلاء لا يهددون النظام، لا يفعلون بحكم أحجام قوتهم المتواضعة، وأيضاً لأنهم يسعون إلى التغيير السلمي. وقد بحثتُ عبثاً عن كلمة اعتباط داخل النص، ليس كنعت إضافي لكل ما أوردتَ، وإنما كبنية متكاملة، منظمة حقاً، تمتلك آلياتها الذاتية. فسيادة الاستنساب، وعدم القدرة على توقع قوة ردة فعل الممسكين بزمام الأمور، وطبيعتها، هي مما يوفر مناخاً عاماً من الضغط الدائم، يجعل الفاعلين يستنبطنون أولاً وقبل كل شيء رقابة ذاتية عالية، فيحجمون عن الكثير مما يفكرون به، أو يجعلهم بالمقابل، وأحياناً، يندفعون في مواقف تصبح رمزية لأنهم يتوقعون مقابلها دفع أعلى الأكلاف من حريتهم وأمان عائلاتهم. وفي الحالتين، فإن خططهم تتحوّر، ويصبحون عاجزين عن بناء عمل سياسي واجتماعي ووضع متوازن، فتتعطل موضوعياً فعاليتهم. قد يدافع النظام عن نفسه بالإشارة إلى التهديدات الخارجية التي تضغط عليه، وتبرر بعيونه ضبط الوضع الداخلي، وتبرر عدم رفع العمل بقانون الطوارئ الذي تعيش سورية في ظله بلا انقطاع منذ 1963. هذا رغم أنهم يعرفون أن تلك التهديدات ستنتقل لتفعل فعلها يوم يحدث ذلك، إذا حدث، بواسطة أدواتها الخاصة، العسكرية المباشرة، أو الانقلابية، أو المفبركة في الخارج على الأغلب، والنموذج العراقي ما زال يستحق الدرس. ثم أن النموذج العراقي، وسواه، يشير إلى تلك العلاقة الحميمة، الترابطية، بين القمع والاستئثار بالسلطة وإغلاق مجالات الإبداع في كافة الميادين، وبين ضعف البنية الاجتماعية الداخلية بحيث تعجز عن مقاومة الضغط الخارجي، أو لا ترغب بذلك وتبحث عن الخلاص كيفما أتى…
ولكن ما يحيرني يا صديقي عباس هو ذلك التساكن بين أجواء كئيبة وبائسة كهذه، وطموحات أصحاب تلك الأنظمة لاحتلال مكانة معترف بها في قيادة التحرر وفي الأدب والفن. لم يكتف صدام حسين بإقامة المرابد بينما تولى نظامه سحق أدباء العراق وفنانيه وكل مثقفيه، ونزحت كتلتهم الأساسية إلى الخارج متشردة منفية، بل راح يكتب هو نفسه روايات!! ويحكّم هو نفسه في مباريات شعرية متلفزة!! واليوم، ووفق شروط مختلفة بالتأكيد، تنطلق في دمشق فعاليات تكريسها عاصمة الثقافة العربية لعام كامل. ورغم كل شيء: ولادة ذلك من قرار عربي مشترك وليس من التنصيب الذاتي، فسحة التنفس التي يوفرها للسوريين عموماً، كون الأحوال في سائر المنطقة ليست أفضل ولا يوجد من هو أجدر… رغم ذلك كله، فهو انفصام مخيف.
وأخيراً، وكما تعرف، فقد اختلف في الرأي مع عدد من المعتقلين، قد أناهضه تماماً، ولم يعجبني أبداً البيان الصادر عن اجتماع المجلس الوطني ذاك، ولا الطريقة التي تمت فيها الأمور، ولكن ذلك شأن آخر، لا يبرر القمع ولا يبرر السكوت عنه.
…ودمت يا صديقي العزيز!
الحياة – 20/01/08