صفحات مختارة

الديمقراطية والليبرالية وإعلان دمشق

null


غالب عامر*

مقدمة : في الحدث السياسي :

في الوقت الذي كنت أقوم فيه بكتابة هذا البحث حول الديمقراطية والليبرالية,وآفاقها المستقبلية في الوطن العربي , تزامن ذلك مع حدثٍ سياسي هام للمعارضة في سورية.وبذلك وجدت من المناسب التقديم لهذا البحث بمقدمة سياسية ,لما لذلك من صلةٍ مباشرة بطبيعة الموضوع.. ففي الأول من كانون الأول 2007 وبعد تعثَر واضح في مسار العمل الوطني المعارض في سورية,
عقد ائتلاف إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي الاجتماع الأول لمجلسه الوطني الموسع في ظلَ ظروفٍ أمنية وذاتية معقدة ,وقد اعتبر الاجتماع محطةً رئيسة وهامة لإعادة إطلاق مفاعيل النضال من أجل الحرية والديمقراطية ,وأعقب ذلك مباشرةً قيام “الأجهزة الأمنية للنظام ” بحملة واسعة من الاعتقالات التعسفية لعدد من أعضاء المجلس ,وسط خلافٍ بين المشاركين في تقييم النتائج المترتبة على الاجتماع, وتداعياتها على مستقبل العمل الوطني والعلاقات الداخلية لأطياف المعارضة المتعددة .

ومهما يكن من أمر الممارسات التي سبقت انعقاد الاجتماع ,والأخطاء التي ارتكبت أثناء الإعداد التنظيمي لقوام المجلس ,والتي اخترقت أصول التحالفات السياسية ,ومن ثمَ محاولة تجاوز تلك الأخطاء بهدف إنجاح الاجتماع ,وكذلك الأمر بالنسبة لتفاصيل سير العمل داخله ,والتناقضات التي حكمت ,في المحصلة,مساره العام مما له مجالُ آخر من البحث والمناقشة, إلاَ أنَ محاولة إعلاء شأن الحدث السياسي الذي أنجزه المجلس ,يجعلنا نؤشَر لقضيةٍ رئيسة تتجلَى في بعدها الثقافي والسياسي ,وتتمثَل فيما يمكن اعتباره خلافُ بين رؤيتين متعارضتين ,على نحوٍ ما, في النظر إلى مضامين الحرية الإنسانية ,وتجلياتها في الوسط الاجتماعي ,وليس في إطارها النظري ,حيث تشكل مقاربة الواقع الموضوعي للمجتمعات واتجاه تطورها الرئيس ,وما آلت إليه التجربة الديمقراطية في البلدان المتقدمة عبر القرنين السابقين ,الكاشف الكبير لمدى الاختلاف الراهن عن محاولة عدد من المفكرين حصر دلالة المفاهيم في إطارها المجرد بعيداً عن تعينها في الواقع الموضوعي .ولا ريب أن المجلس الوطني لإعلان دمشق لم يكن ,في واقع بنيته التنظيمية ,مؤهلاً للتطرق إلى هذه القضية الهامة ,كما أنها لم تكن في جدول أعماله ,والتي تؤكد على الاتفاق حول ضرورة تعزيز مقومات الحرية الفردية, والاختلاف حول الحدود المرتسمة لأبعادها في الواقع الاجتماعي المعيش ومتطلباته الراهنة والمستقبلية.

إلاَ أنني أفترض ,في مقدَمة هذا البحث ,أنَه كان ثمَة إدراكٍ عميق لدى العديد من المشاركين ,لواقع الاختلاف والتمايز بين الديمقراطية والليبرالية ,والذي أخذت أبعاده تتسع بعد التحولات الاقتصادية والعلمية والسياسية المتسارعة التي وسمت العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي, حيث تبلور الاتجاه الأيديولوجي لليبرالية الجديدة ,وتجلياتها عبر محاولة الاحتكارات الرأسمالية العالمية تهميش البلدان التي تعاني من التخلف الحضاري على مستوى العالم ,وفرض شروط المؤسسات الدولية المعولمة ” صندوق النقد الدولي ,والبنك الدولي للإنشاء والتعمير,ومنظمة التجارة العالمية ” على تلك البلدان, إضافةً للظروف الذاتية والموضوعية الداخلية والمتعلقة بطبيعة الأنظمة الاستبدادية المحتكرة للسلطة وموارد الثروة الوطنية لديها ,مما يجعل عملية التنمية المستدامة تتعرض لصعوبات وعراقيل لا حدود لها , وكذلك الأمر بالنسبة للانعكاسات السلبية لمسار الليبرالية الجديدة داخل البلدان الرأسمالية نفسها ,نتيجةً للتنافس القاتل بين الشركات عابرة القارات والاحتكارات الكبرى المعولمة ,مما أفقد الدولة قدرتها على المساهمة في ضبط إيقاع النشاط الاقتصادي وإمكانية العمل بالشروط الكينزية السابقة لما دعي حينها بدولة الرفاه الاقتصادي

,حيث انعكس الأمر سلباً على قطاعاتٍ واسعة من المجتمعات المحكومة بالتوجهات الطاغية لرأس المال المالي أو الطغمة المالية المنفلتة من عقالها .

أقول : أنَه لا يمكن لكل هذه الوقائع, وغيرها الكثير,مما يرتبط بالوسائل والأساليب التي يتم بها ممارسة النهب المنظم للثروة العالمية ,أن تكون غائبة عن أذهان العديد من المثقفين المشاركين في المجلس الوطني ,من داخل الأحزاب السياسية وخارجها ,وأيضاً الأوضاع العربية والإقليمية المحيطة بنا,والمخاطر الخارجية التي اخترقت العديد من الأقطار العربية من العراق إلى فلسطين والسودان والصومال,والأزمات الداخلية المتفاقمة في أرجاء المنطقة نتيجةً لتراكب السياسات الداخلية للأنظمة الشمولية والتقليدية ,والنزوع الإمبراطوري التوسعي لعددٍ من الدول الإقليمية, مع التوجهات السياسية الرأسمالية العالمية في المنطقة ,والتي يحكمها الافتراق في المصالح بعض الأحيان ,والتقاطع بينها في أحيانٍ كثيرةٍ أخرى .

إلاَ أنَ تلك الإشكاليات المعبرة تماماً عن أزمة النظام العالمي ,وتجلياته الإقليمية والعربية ,لم تكن موضع اهتمام المشاركين بالاجتماع للبحث أو حتى التذكير بأيٍَ من جوانبها المتعددة , والمتداخلة ,بطبيعة الأمر مع الوضع الداخلي الموسوم سياسياً ,لا في الطبيعة البنيوية للنظام الاستبدادي القائم ,وحسب,وإنما في الشروط الموضوعية والذاتية التي ما تزال تؤدي إلى إدامة حكم هذا النظام ,وتحكمه بالمجتمع والوطن ,ولهذا الإغفال أسبابه المتعددة ,والمرتبطة بطبيعة تكوين ائتلاف إعلان دمشق ومن أبرزها:

1 – تركيز الرؤية السياسية في بؤرةٍ واحدة تتمثل في التغيير الوطني الديمقراطي ,والذي يمكن أن يتحول ,كغيره من الشعارات السابقة ,إلى شعارٍ مفرغ من مضمونه, حين يتم الفصل بينه وبين أبعاده الاجتماعية ,من جانب ,وإغفال التمييز بينه وبين ما يطرح من شعاراتٍ وأهداف تعبَر في حقيقتها عن غاياتٍ توسَعية للقوى الخارجية التي تستهدف الهيمنة على المنطقة ,من جانبٍ آخر,مما يجعل الهدف المعلن مثاراً للبس والغموض حين لا يتمَ إدراجه في سياق رؤية استراتيجية ( أو حتى مرحلية) واضحة المعالم,بحيث تتسق معها مجموعة الأهداف المرتبطة فيما بينها ,وأهمها الارتباط بين دلالة مفهوم التغيير وبين الوطنية السياسية ,وبين هذين الثابتين ,ودلالة الديمقراطية التي نقصد ,وتمايزها عن غيرها من المقولات والمفاهيم التي تعرضت في الآونة الأخيرة لنقدٍ واضح في إطار الفكر العالمي ,والتي يجمعها مع الديمقراطية المقولة الرئيسة للحرية الإنسانية ,إضافةً لضرورة البحث في التعينات الموضوعية التي تحقق الارتباط الجدلي الوثيق بين المكونات الثلاث للشعار المعلن .

2 – يتطلَب, علم الاجتماع السياسي الذي يفصح عن نفسه بمتابعة وإدراك أبعاد التحولات العميقة والمتسارعة على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة , امتلاك الوعي النقدي لأبعاد هذه التحولات وآفاقها المستقبلية ,وتداعياتها المؤثرة على مناطق العالم المختلفة والمتمايزة في موقعها الجيوسياسي والتأثيرات الداخلية والإقليمية الناجمة عن مكانتها في السلَم التاريخي لتطور الإنسانية ز

فمن شان الاهتمام بالنقد الثقافي والفكري ,وتغذيته الراجعة,وإغنائه بالحوار الديمقراطي وتوسيع آفاق الرؤية الموضوعية المتحررة من أسر الأيديولوجيا ,ان يسهم بإيقاف مفاعيل أحد أبرز الإشكاليات التي يواجهها الفكر السياسي العربي ,منذ النصف الأول من القرن الماضي ,وأقصد بها الاصطفاف الأيديولوجي المتراكب مع احتضان الوعي الزائف لمكوناته ,دون إدراك التداعيات السلبية لهذا الاصطفاف الذي أوقع معظم الأحزاب السياسية العربية والعديد من المثقفين في مطبَه ,حيث تمَ احتجاز الرؤية النقدية ,وافتقاد القدرة على التمييز بين الخطأ والصواب في كثيرٍ من الأحيان ,في الفكر والممارسة السياسية.

فبالرغم مما لاحظناه سابقاً من سوءات الموقف الدوغمائي للأحزاب الماركسية خلف تجليات النهج الستاليني ومساره الاستبدادي ,وأيضاً الأحزاب الأصولية ,ما يزال النزوع لاحتجاز الوعي النقدي ,ومصادرة التمايز في المواقف الفكرية والسياسية قائماً ,حتى لدى الأحزاب والمثقفين الذين يعتبرون أنهم طوروا من موقفهم على ضوء التجارب السابقة ,لكن حقيقة الأمر لم يزد هذا “التطور “عن الانتقال من اصطفافٍ لآخر ,متناقضُ في حقيقته مع المنظومة الأولى للفلسفة الليبرالية ,ومتوافق ,من حيث النتيجة على إغفال الفارق الذي اتسع ,في الآونة الأخيرة بين النيوليبرالية والأسس الموضوعية للثقافة الديمقراطية المعاصرة ,والتي تدلل بوضوح على أهمية التحرر من أغلال الاستغلال المضاعف ,والهيمنة السياسية المعادية للديمقراطية.

3 – بالرغم من أن المسار المعلن من معظم أطياف الحركة الوطنية في سورية ,من داخل الإعلان وخارجه ,هو اعتماد الحوار الديمقراطي لتوطيد أواصر التفاعل والتعاون بينها ,إلاَ أنَه المسار الذي لم تكتمل أبعاده ,ولم يغتن بمضامينه الثقافية بعد, فللحوار لغته ومفرداته ,وله أسسه الموضوعية في احترام العقول ,ووضع النقد الذاتي والموضوعي في مركز الاهتمام ,وما يمكن أن يلحظه المرء لدى العديد ممن يعتبرون من “المستقلين” إضافةً للعديد من الأحزاب السياسية المحاصرة لذاتها ,و التي أصابها الانحسار والانكفاء عن التواصل مع مكونات المجتمع ,لا تمتلك ,في الواقع, ما يؤهلها لتحديد الأهداف المرحلية والإستراتيجية التي تؤسس لديها ولدى القوى الأخرى لحوارٍ واضح المعالم بينها ,على عكس الأحزاب التي امتلكت بتجربتها التاريخية ثقافة الحوار ,وتدرك المقاصد الوطنية للتحالفات السياسية التي تتوثق عراها عبر الانتقال مما هو مرحلي إلى مقاربة القضايا الاستراتيجية وتوسيع آفاق التعاون المشترك بين قوى المعارضة ومثقفيها وناشطيها في مختلف المجالات.

وليس ثمَة ما يشكَل نوعاً من الاستعصاء أو استحالة الاستجابة لمناقشة المسائل التي تتعلق بالأهداف المشتركة ,وسط تقدير حق الاختلاف ,بوصفه أحد أبرز الحقوق الديمقراطية للمواطنة, من جانب ,وأهمية توطيد أسس التحالف كمسؤولية وطنية في اللحظة الراهنة من تاريخنا الوطني والقومي .

وفي هذا الإطار , ثمَة أمورٍ ثلاثة ينبغي التأكيد عليها لإطلاق أفاعيل النشاط السياسي والاجتماعي والثقافي :

الأمر الأول: ويتعلق بتحديد المشتركات الأولى بين مكونات الحركة الوطنية الديمقراطية ,وأطيافها المتعددة ,بوصفها المبادئ ,أو بالأحرى رؤوس الموضوعات التي لا يمكن الإكتفاء بمسمياتها واختزالها ,إذ يمكن لها ,والحالة هذه, أن تتحول إلى مجرَد شعارات تفتقد لرصيدها في الخطابٍ السياسي الذي يفترض أن يعبَر عن مضامينها, ولا يذهب في اتجاه تجاوزها ,ويتم التأسيس لها في الثقافة الوطنية الجامعة ,ولابدَ للحوار الدائب والدائم أن يفصح عما تنطوي عليه من دلالات ,عبر تمييزها عما يمكن أن يتجاوزها إلى غيرها من نقاطٍ خلافية لم توضع على جدول التواصل الفكري والسياسي في مرحلته الأولى .

الأمر الثاني : إنَ التوقف عند ما تمَ التوصَل إليه من مشتركات لضرورات وطنية مرحلية تتعلق بدرجةٍ أولى ,بالحرص على توسيع إطار التحالفات السياسية ,له ما يبرره في مرحلته الخاصة به,إلاَ أنَ تراجع الأداء في الحوار الوطني ,وفقاً لهذه الذريعة ,أو نتيجةً للتسرع في استشفاف آفاق المستقبل القريب , بناءً على تقديراتٍ سياسية خاطئة ,وغير موضوعية ,سوف يؤدي بطبيعة الحال إلى التفرد بمسارات متعارضة تتجاوز أصول التحالفات السياسية ومحدداتها ,لأن القضايا التي لا يتم تطويرها وتعميق التواصل بها ومن خلالها ,لآبدَ أن تتراجع ويتضاءل تأثيرها في إعادة إنتاج اللحمة الوطنية التي تشكل هدفاً رئيساً لأي تحالف تتسع آفاقه الجيوسياسية .

ويبدو أنَ السبيل لمعالجة هذه الإشكالية ,تكمن في متابعة الحوار لتوسيع إطار المشتركات ,مما يعزز ويطوَر مستوى الوعي بأهمية ما تمَ التوصل إليه من توافقات مبدئية حول القضايا الرئيسة التي تضمنتها الوثائق المتفق عليها ,إضافةً لتقدير مدى الانعكاسات السلبية من محاولة فرض الأسس الأيديولوجية لطرفٍ معيَن على بقية أطراف التحالف أو الإئتلاف المزمع تطويره ,وإيجاد الآليات المناسبة لتعزيز مكانته في المشهد السياسي السوري.

الأمر الثالث : ويتصل بالقضية الرئيسة التي يتمَ إغفالها في معظم الحوارات التي حدثت ,حتى بعد إصدار الوثيقة الرئيسة لإعلان دمشق ,والتي يفترض أن تأخذ موقعها في مركز الاهتمام لدى إقامة أي تحالف سياسي أو بناء مؤسسات اجتماعية أو حقوقية مدنية ,أو غيرها مما يرفد العمل الوطني ويعزز مجالاته المتعددة ,والمقصود بها الإعلان صراحةً في الانحياز الكامل للطبقات الشعبية المكونة للأغلبية الساحقة من أبناء مجتمعنا ( التغيير الوطني الديمقراطي لمن ياسادة؟؟) واعتبار أن هذا الانحياز ,إلى جانب التأكيد على المسألة الوطنية ,بمثابة أحد المحاور الرئيسة لإعادة بناء الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي ,إضافةً لإعلاء شأن الارتباط الجدلي الوثيق بين المسار السياسي الذي يؤسس لإقامة الدولة المدنية الحديثة ,وتعيناته الموضوعية في بلادنا ,المادية والمعنوية الخاصة بمصالح الطبقات الشعبية.

وبتعبيرٍ أوضح ,فإنَ القول بضرورة إقامة دولة الكل الاجتماعي ,يتطلَب تحديد الاتجاه الرئيس للتغيير الوطني الديمقراطي الذي ننشد , ومستقره الاجتماعي ,وتجلياته الاقتصادية والتنموية ,إلى جانب تحديد طبيعة نظام الحكم وفلسفته العامة

* * *

ثمَة ,إذن , بعد هذه المقدمة التي تؤشَر للحدث السياسي لاجتماع المجلس الوطني لإعلان دمشق, مجموعة من القضايا الراهنة التي يشكل البحث فيها ,مقدمةً لإعادة التأسيس النظري لطبيعة المهام المطروحة ,وأبرزها ماهية الديمقراطية التي ننشد ,ودرجة التمايز بينها وبين الليبرالية في منظومتها الأساسية ,وما أصابها من تطورات لاحقة شكلت المقدمة الموضوعية للرؤية التاريخية وظهور الماركسية ,وما أعقب تلك المرحلة أيضاً, والتي وسمت ثلاثة أرباع القرن الماضي بميسمها الذي لا يمحى , من نكوصٍ جديد باتجاه الهيمنة الرأسمالية المعولمة على الموارد الرئيسة للثروة العالمية ,مما أوقع البلدان المتأخرة حضارياً تحت وطأة الاستغلال الاقتصادي المضاعف ,والسطوة متعددة الأبعاد للقوى الكبرى والنافذة في العالم .

المسألة في حجمها وفي أبعادها الراهنة وآفاقها المستقبلية ,ليست بهذه البساطة ,حيث يتم إغفالها بهذا الموقف أو ذاك الذي يختزل القضايا الكبرى إلى مجرد شعار يجري عزله بطريقةٍ إرادوية ساذجة ,عن مجمل المتغيرات الإقليمية والدولية ,وسياقها التاريخي المتحول بصورةٍ عاصفة ومتسارعة .

المراجعة النقدية ,إذن, والتأسيس النظري للقضايا ,يتطلب العودة إلى تحديد الأهداف التي يقاربها,ولا نقول يتضمنها,الشعار الرئيس للتغيير الوطني الديمقراطي .وفي هذا الإطار يمكن أيضاً تحديد التخوم الفاصلة والمميزة لمفهوم وأبعاد الديمقراطية ,ومضامينها التي تميزها عن الليبرالية المزعومة ,ونقول عنها كذلك , نظراً لما أصابها من انحرافات طاغية وتحريف لدلالة المنظومة الرئيسة التي انطلقت منها تاريخياً ,حيث أصبحت تلك الانحرافات تشكل ,هي الأخرى, منظومة بديلة ومولَدة لكل أشكال الطغيان الرأسمالي المعولم .

ونستبق ,هنا,لنقول أنَه ليس ثمَة خلافٍ بأي وجهٍ من الوجوه حول المشترك الرئيس بين الليبرالية والديمقراطية التي نقصد ,والذي يفصح عن نفسه باعتبار الحرية الإنسانية قيمةُ عليا لا يجوز الانتقاص منها بأي شكلٍ كان ,وهي كذلك بدلالة النزوع الطبيعي لكلَ الأمم والشعوب الطامحة للتحرر والحرية .

1 – في بناء الدولة الحديثة: وسط الوضعية العربية الراهنة الموسومة بالتجزئة والتخلف والاستبداد السياسي ,وفي السياق التاريخي والجيوسياسي الراهن للوطن العربي,والذي تخترقه مشاريع القوى الخارجية والإقليمية المعادية ,والمتقاطعة فيما بينها على السيطرة عليه ,فإنَ الخطاب السياسي للحركة الوطنية الديمقراطية في أقطارها عندما يشير إلى أنَ الهدف المباشر للتغيير الوطني الديمقراطي هو بناء الدولة المدنية الحديثة ,دولة الحق والقانون ,دولة الكل الاجتماعي (دولة لكلَ مواطنيها) …الخ ,وذلك بديلاً عن الدولة المقبوض عليها بقوة السطوة الأمنية لسلطةٍ غاشمة ومتغولة على كل أركانها ومؤسساتها ,يفترض بهذا الخطاب أن يشير بوضوح إلى التعينات الموضوعية لمقومات هذه الدولة والتي يتجلى أبرزها في :

أ- الاستقلال الوطني بكلَ مضامينه وأبعاده إضافةً للسيادة الوطنية غير المنقوصة للدولة والمجتمع . ب – الوحدة الديمقراطية لكافة مكونات المجتمع المعني . ج – سيادة القانون المدني ومدننة السياسة وتعميمها ,والتأكيد على حقوق الانسان والمواطن في إطار منظومة الحقوق والواجبات الفردية والاجتماعية ,وكافة منطويات الديمقراطية الكلاسيكية . د – التنمية المستدامة والمتطورة بكل أبعادها الاقتصادية والبشرية والعلمية والثقافية ,وما يحتضنها ويشكل ضماناً لاستمرارها من ضرورات لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي ,والفاعلية الإنتاجية . ه – العمل الوطني في الإطار العربي والإقليمي بدلالة المشروع النهضوي العربي ,وليس بدلالة مشروع الدولة القطرية المأزومة والمنكفئة على ذاتها ,أو المرتبطة والتابعة للقوى الخارجية أو الإقليمية .

والآن :ما الذي يجمع هذه المقومات ,وما ينبثق عنها من مهام وسياسات اقتصادية واجتماعية وثقافية وحقوقية ,وما الذي يحدد طبيعة النظام الديمقراطي وفلسفته العامة التي تؤدي إلى الربط الجدلي,على نحوٍ ما, بين هذه المقومات ؟؟ وما الذي يحكم جدل الاختلاف والتعدد السياسي ,والتنوع الاجتماعي والثقافي في مجتمع معين ؟؟ وما الذي يعيد إنتاج الارتباط الجدلي بين منطلق الدولة السياسية ومستقرها الوحدوي العربي في زمن العولمة الرأسمالية .

في اعتقادي ,ليس ثمَة ما يجمع بين كل هذه القضايا والمهام والمقومات الرئيسة التي ذكرنا ,سوى العقد الاجتماعي ,أو التعاقد المدني الديمقراطي بين مجموع الأفراد الأحرار المكونين للمجتمع , والذي يفصح عن نفسه تاريخياً ,في الحاضر والمستقبل ,بمقولة الاجتماع البشري بالمفهوم الحضاري للمقولة ,هذا الاجتماع الذي يبقى قائماً من خلال المتغيرات والتحولات ,ومراحل التراجع والارتداد ,وحتى الانقسام ,ومن ثمَ الانبساط والتقدم والتوحد الذي يصنعه ويعيد إنتاجه في كل تحولاته التاريخية والحضارية ,ومن خلال اختلافه أيضاً عن مواصفات وقوام المجموعات التي يحتضنها في إطاره المجتمعي , والذي تنبثق في داخله وعبر ديمومته واستمراره كل الفعاليات الإنتاجية ,الاقتصادية منها والثقافية والعلمية والسياسية والإبداعية .

في هذا الإطار العام لتشكل المجتمعات البشرية ,ومن ثمَ اندراجها في سلم التطور الحضاري للإنسانية ,يحقق الإنسان /الكائن العاقل,وجوده وحضوره الفردي والاجتماعي ,إلاَ أنَ الشرط الضروري ,وغير الكافي ,والباعث على ذاك التحقق هو الحرية الإنسانية في مفهومها الفلسفي والواقعي, وفي تعيَنها الموضوعي في إطار الحياة الإنسانية . وهي المشترك الرئيس بين الليبرالية والديمقراطية ,وشتى أنواع التصورات والأفكار والفلسفات التي حاول ويحاول أصحابها بصورة دائمة تفسير أبعادها ومضامينها تبعاً للتحولات الجارية في الفكر الإنساني .

ومن هنا,فإنَ الدولة السياسية ,هي الدولة التعاقدية بين أبناء المجتمع ,بكليته ,وتوحَده ,واندماجه الحضاري في مختلف الميادين . وهي ,في نفس الوقت المهمة التي تمَ تمثَلها وإنجازها ,وتجاوزها في كلَ الدول المتقدمة , وهي أيضاً ما تزال إلى الآن ,وفي الأفق المنظور, المهمة الراهنة على جدول عمل الحاضر والمستقبل في كلَ الأقطار العربية ,وبدونها ليس ثمَة معنى للحديث عن آليات تحقيق المشروع النهضوي العربي وآفاقه المستقبلية .

إن الانطلاق من مسألة توحد المجتمع واندماجه في الحاضر والمستقبل , في إطار الدولة المدنية الحديثة ,يؤسس بحدّ ذاته إلى السؤال عن طبيعة العلاقات الداخلية التي تشكل محور هذا الاندماج والعوامل الذاتية والموضوعية التي تؤسس للنسيج المجتمعي, والتماسك الداخلي في لحظة إطلاق مفاعيل التنمية والتقدم للمجتمع المعني .

في الإجابة على هذا السؤال,وغيره من الأسئلة حول المشروع الوطني الديمقراطي وسط هذا العالم وتغيراته التي تسير بوتيرةٍ مذهلة ,يتبادر للذهن ضرورة البحث في مضامين وأبعاد الشعارات المجردة التي طاولها التغير والتطور عبر التحولات العميقة التي أصابت المجتمعات البشرية منذ إطلاق الفلسفة لمنظومة القيم الليبرالية, وحتى اللحظة التي انطلقت منها أفاعيل الليبرالية الجديدة, وسط التنافس القاتل بين مجموعة الاحتكارات الكبرى المعولمة ,وآليات العولمة الثلاث التي أشرنا إليها* .

التمييز بين الديمقراطية والليبرالية :

يمكن القول ,بدايةً أنّ جذر تكوّن ما يمكن اعتباره التيار الليبرالي في الوطن العربي حالياً ,ليس ناجماً عن ولادة الروح الفردية القوية والمستقلة ,والمبادرة في العمل السياسي ,وفي مجال الإنتاج الاقتصادي ,كما يتوهم البعض ,وإنما هي نتيجة لخيبة الأمل من الأنظمة الشمولية التي فرضت نفسها على المجتمع تحت شعارات الدين ,أو القومية,أوالاشتراكية ,في إطارٍ من الإكراهات المولّدة للعسف والاضطهاد كعلاقةٍ ناظمة بينها وبين معظم فئات المجتمع ,وخاصةً تلك التي حكمت باسمه ورفعت راياته ,دون أن يكون ثمّة مضمون حقيقي للشعارات المطروحة , سواء في النظام الاقتصادي أو النظام القانوني ,وإنما تحوّلت إلى غطاء لممارسة ما يتعارض معها ,في ظلّ المناخ العام لتقديس السلطة الفاقدة لشرعيتها الدستورية .

فمن الملاحظ ,حالياً أنّه ثمّة خلطٍ كبير ,في دلالة المفهوم بين الديمقراطية والليبرالية الموسومة بتحولاتها الأخيرة على مستوى العالم , في الأوساط الثقافية والسياسية العربية , وبالتالي لا بدّ من التمييز بينهما ,بوصف الثانية تقع في وسط ما هو أشمل منها ,ونقصد به الارتباط الجدلي الوثيق بين القيم الرئيسية الثلاث :الحرية والعدالة والمساواة, بوصفها منظومة القيم الديمقراطية التي ينبغي الاشتغال على تعميمها على المستوى النظري , من جانب, والبحث عن السبل والوسائل التي تجعل من مهام التحول الديمقراطي في الوطن العربي مسألة تحظى بالأولوية الوطنية والاجتماعية .

وبالتالي فإنّ التأكيد المبالغ فيه على قيمة الحرية الفردية ,والمتحررة من كل القيود بما فيها الضمانات الاجتماعية ,من شأنه أن يحوّل هذه القيمة الإنسانية إلى مجرّد يوتوبيا نظرية تفتقد لمعظم عناصرها في الواقع الموضوعي ,مما يمنح الفرصة للنظم الشمولية للعمل على محاولة إلغائها أو بالأحرى النيل من مقوماتها ,وذلك حين يتم فصلها عن سياق التحول الديمقراطي المجتمعي ,ومهامه المتعددة ,وخاصةً ضمان المصالح الاجتماعية المرتبطة بقضية المساواة بين كافة المواطنين. كما ينبغي على الفكر السياسي أن يدرك أن مفهوم “الحرية المطلقة “كتجريد نظري ليس له في الحقيقة أي مضمون حقيقي في الفضاء الخاص بالحريات الديمقراطية ,ويمكن لهذا المفهوم أن يقود إلى ما يتناقض معه من استئثار يمثل الوجه الآخر للاستبداد الذي يكون في هذه الحالة مسلّح بمنظومة خاصة من “القوانين” الفالتة من عقال التعاقد المدني الديمقراطي, وذلك حين يتم توظيف النظام القانوني العام لمصلحة نظام اقتصادي رأسمالي معولم.

لا بدّ, إذن, للفكر السياسي العربي في إطار الاهتمام بضرورة حل المسألة الديمقراطية في الوطن العربي ,من الابتعاد عن الخلط بينها وبين مآلت إليه الأوضاع والتوجهات السياسية والاقتصادية في المراكز الرأسمالية العالمية ,نظراً للاختلاف الكبير بين طبيعة المهام المطروحة لدى كلٍّ من الجانبين ,والوضعية الخاصة بالوطن العربي حالياً ,والموسومة بنظام الدولة الأمنية/الشمولية , إضافةً للتجزئة السياسية والتخلف الحضاري في مختلف الميادين .

وفي إطار الاختلاف بين مواقع التقدم والتخلف ,تجدر الإشارة إلى عددٍ من الملاحظات التي تسهم بدرجةٍ كبيرة في توضيح نقاط الاختلاف أو التمايز بين الديمقراطية ومضامينها السياسية والاجتماعية الحيوية في بلدٍ متخلف ,وبين الليبرالية والظروف الموضوعية التي حكمت مآلها الأخير في البلدان الرأسمالية:

1. لقد ارتبطت الفلسفة الليبرالية زمن نشوئها وبلورة عدد من المفكرين والفلاسفة لمضامينها, بالنزعة الإنسانية , والرفض المطلق لكل أشكال التقييد لحرية الفرد وحقوقه, وفي المقدمة منها الاضطهاد السياسي, سواء كان ذلك من جانب السلطة أو من جانب فئة اجتماعية معينة حاكمة ومتحكمة بالمجتمع ,وبذلك تشير الليبرالية إلى فلسفةٍ إيجابية في مواجهة النظم الشمولية التي تنكر على الفرد حرياته الأساسية ,وتركّز على الحقوق الجماعية ,في الوقت الذي لم يحصل فيه المجتمع على معظم هذه الحقوق.

2. إلاّ أنّ مفهوم الليبرالية لم يعد ذاك الذي كان عليه زمن النشوء والارتقاء, لأنّ النظم الغربية الليبرالية في القرن التاسع عشر, قادت بلادها إلى أزمات اجتماعية كبرى ,نتيجةً لإغفالها العوامل الاقتصادية والاجتماعية في ممارسة الحرية , ومن ثمّ لم تعد المسلمة الليبرالية القائلة بفكرة التطابق العفوي بين الحريات الاقتصادية والحريات السياسية ,أو فكرة الانسجام الطبيعي بين المصالح الفردية والاجتماعية قائمة بذاتها ,لأنها لم تستطع اجتياز امتحان التجربة العملية ,والتي قادت إلى نقيض ما بشّرت به في أمرين أساسيين : الأول احتكار القرار السياسي من قبل فئات معينة نتيجةً لسيطرة أصحاب المصالح الكبرى على الحياة الاقتصادية والاجتماعية , وبذلك أفصحت عن نفسها بأن الحريات أصبحت شكلية . الثاني: اشتغال النظام الاقتصادي كلياً لصالح الفئة الرأسمالية ضدّ مصالح الأغلبية من المجتمع الذي لم يعد يملك لا سلطة ولا موارد اقتصادية كافية ,ولا حتّى وعياً مستقلاً بذاته . وبذلك شكّلت الماركسية ,من بين مختلف الأفكار والتصورات التي طرحت حينها,الردّ الأبرز على نهج الأنظمة الليبرالية ,ومسارها المفارق للمنظومة الأساسية للنزعة الإنسانية التي انطلقت منها (1)

3. وبناءً على النجاحات الأولى التي حققتها الشيوعية في إحداث تغييرات هامة في البلدان التي أسست لدولٍ “اشتراكية” ,وفي مواجهة التحولات الاجتماعية والسياسية داخل القارة الأوربية أقرّت الأنظمة الليبرالية بخطأ مسلمتها الأولى التي ذكرنا , وقام عدد من الاقتصاديين الغربيين وعلى رأسهم ” كينز” بتطوير نظرية لتدخل الدولة عن طريق التوجيه والإنفاق وتنظيم سياسة الأجور ,وضبط إيقاع التحولات الاقتصادية بما يضمن للدولة قدرتها على توسيع نطاق قطاع الخدمات العامة للمجتمع .

4. إلاّ أنّ التطورات العلمية والتقانية المتسارعة في النصف الثاني من القرن العشرين ,وأبرزها ثورة المعلومات والاتصالات والمواصلات ,وتعاظم دور رأس المال المالي بالتزامن مع توسع نطاق الشركات العابرة للقارات ,والاحتكارات الكبرى, وما ارتبط بها من تنافس اقتصادي على مستوى العالم ,أدى بالتالي إلى إعادة تحجيم دور الدولة, وظهور الليبرالية الجديدة القائمة على إلغاء المكتسبات الاجتماعية في البلدان الصناعية, والعودة إلى سياسة تهميش دور البلدان النامية ,وفرض شروط وإملاءات النظام العالمي الجديد في الاقتصاد والسياسة والعلاقات الخارجية.وذلك في ظلّ إعادة إنتاج النزعة الثقافوية التي كانت سائدة في مرحلة الاستعمار الغربي والتي تقوم على الزعم القائل بتفوق الثقافة الغربية والقيم المنبثقة منها على غيرها كما عكس ذلك كتاب هنتغتون في “صراع الحضارات” . (2)

5. لذلك فإن الليبرالية الجديدة ليست مجرد مرحلة انتقالية في حاضر ومستقبل البلدان المتقدمة ,ويمكن لها أن تنتهي مع استكمال العولمة الراهنة لأبعادها الاقتصادية والجيوسياسية العالمية, وإنما هي تأسيس جديد لمستقبل العلاقات الدولية, والقائمة على نظرية متكاملة في مجال الاقتصاد المعولم, وهي ناجمةُ أيضاً عن إعادة إنتاج الأزمة الاقتصادية في عقد السبعينات من القرن الماضي. وقد اعتبر الليبراليون الجدد آنذاك, ان سبب الأزمة عائدُ إلى تدخل الدولة في تنظيم الحياة الاقتصادية, وذلك عن طريق المشاركة بقطاعٍ عام واسع , وزيادة الإنفاق العام, إضافةً لتمويل مشاريع الضمانات الصحيّة والاجتماعية, مما أدى برأيهم إلى إضعاف القدرة الاقتصادية اللازمة للتنافس, وهذا ما جعلهم يطالبون الدولة بالتراجع عن ذلك وترك قوانين السوق الاقتصادية تعمل بصورةٍ طليقة, وتخفيف الأعباء المالية عن أرباب العمل من أجل تقوية موقعهم التنافسي في السوق الرأسمالية العالمية. (3)

ويمكن تلخيص ذلك بالقول, أنّ السياسة الليبرالية حالياً, ترتبط أساساً بفكرة تخلّي الدولة عن التزاماتها الاجتماعية, والسعي لخصخصة كل القطاعات العامة في التعليم والصحة ومجالات المجتمع المدني عموماً,وإخضاعها لقانون السوق في العرض والطلب, كما ترتبط أيضاً بالعمل على بناء السوق العالمية للقرية الكونية , حيث تُفتح المنافسة على أشدّها بين مختلف الشركات والاحتكارات القادرة عليها, وبذلك تغدو سوقاً مقتسمة بين الدول الصناعية في الوقت الذي يكون فيه مصير الدول النامية غير واضح أو معروف. كما أن هذه السياسة ترتبط كذلك بنزعةٍ أثنية أوربية,من شأنها أن تحوّل ثقافة اللون الواحد إلى سلعةٍ تجارية, في محاولةٍ لتصفية بقية الثقافات الأخرى وإنهاء التنوع الثقافي .

ليس المقصود من هذه الملاحظات , المبادرة إلى تسجيل إدانة إيديولوجية للفلسفة الليبرالية , وإنما هي عبارة عن توصيف لواقع موضوعي لما آلت إليه الأمور في البلدان المتقدمة ,والتي تختلف في درجة تطورها والمهام الخاصة بها, عن المهام التي تحكم الدول المتخلفة (أو بالأحرى الموجودة في درجة معينة من سلم تطورها التاريخي ), من جانب, والتداعيات السلبية لتفاعل التطورات الأخيرة لليبرالية الجديدة مع الوضعية الراهنة في الوطن العربي , والتي تتجلى في محاولات التهميش التي تتسع أبعادها في الآونة الأخيرة من القرن الماضي وبداية الألف الثالثة للميلاد ,حيث تتعرض الأمة العربية لعملية النهب المنظم والمضاعف ( في الداخل والخارج) للموارد الرئيسة للثروات الوطنية, إضافةً لعدم الاستفادة الناجعة والفاعلة من مكتسبات التقدم العلمي والتقني الهائل الذي تتسم به هذه المرحلة من تاريخ البشرية.

من هنا يمكن القول, أنّ ما يذهب إليه الكثير من الليبراليين العرب في أطروحاتهم النظرية حول منظومة القيم الإنسانية , لاتخرج في معظم مضامينها وأبعادها عن منظومة الحريات الديمقراطية التي نعمل سوياً لتحقيقها, وبالتالي لابدّ من التدقيق النظري أن يأخذ دوره لدى المثقفين والسياسيين لتصويب الإجابة على أسئلة الحاضر والمستقبل, إضافةً لإعادة التأسيس للمواقف السياسية من جدل الاختلاف بين الداخل والخارج .

الديمقراطية والتحول الديمقراطي: يبدو لي ,إذن, أنّ مرحلة التحول الديمقراطي في الوطن العربي هي المرحلة الأهم في تاريخنا المعاصر , وهي بنفس الوقت المرحلة الأكثر حساسيةً وتعقيداً نظراً للتداخل الكبير في الأفكار والآراء والتصورات, حول إعادة تأسيس منظومة جديدة للقيم الديمقراطية وسبل تحقيقها ,وذلك وسط الجدل الدائر على مستوى العالم بين الاتجاه الرئيس للعولمة الرأسمالية وتجلياتها في الليبرالية الجديدة التي أدت وفقاً لتوجهاتها الاقتصادية والسياسية إلى افتقاد ما سمي سابقاً بدولة “الرفاه الاجتماعي” لقدرتها على مواكبة الاحتياجات المتزايدة لمجتمعاتها, وإمكانية استمرار المساهمة الفاعلة في تقديم الخدمات الخاصة بها. إضافةً إلى أنّ الشروط الموضوعية لإطلاق مفاعيل التنمية والتقدم ,وتلبية الاحتياجات الإنسانية المتنامية للمجتمع في دولةٍ وطنية ديمقراطية في الأقطار العربية ,يحتاج إلى جهودٍ فائقة لتحقيقها , حتى في ظلّ توافر الحريات الفردية والجماعية, وذلك نظراً لوجود مجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية , الداخلية منها والخارجية, والتي من شأنها عرقلة إنجاز المهام الرئيسة لمرحلة التحول الديمقراطي, وأهمها التجزئة السياسية والضعف الكبير في الطاقة الانتاجية, والتخلف الحضاري في مختلف الميادين التنموية والعلمية والثقافية والاجتماعية, إضافةً لحجم الضغوط الناجمة عن مسار العولمة الراهنة واحتكاراتها الكبرى ,والانعكاسات السلبية الخاصة بتنافسها على اقتصاديات الوطن العربي ,بوصفه المنطقة من العالم الذي تتقاطع فيه مصالح القوى المالية والإنتاجية المعولمة.

لذلك تعتبر مرحلة التحول الديمقراطي التي ينبغي لها أن تكون مرحلةً وطنية مقاومة لكافة الشروط والإملاءات الخارجية , مرحلة حافلة بالصعوبات. ومن السذاجة بمكان اعتبارها مجرد مرحلة انتقالية من السهل إنجازها بسلام ,دون أن تواجه تحدياتها الخاصة بها, لذلك تبدو أهمية تنظيم آليات التغيير الوطني الديمقراطي في مختلف المجالات التي تجدر الإشارة إليها:

1. المجال القانوني : ويتضمن ثلاثة محاور رئيسة تتعلق بالحريات العامة والسياسية أولاً والبنية السياسية والقانونية للدولة الوطنية المزمع إعادة بناءها على أسس مدنية ديمقراطية ثانياً وطبيعة العلاقات القائمة بين مكونات المجتمع ,وبينها وبين مؤسسات الدولة ثالثاً .ومن شان الترابط الجدلي بين هذه المحاور وتجلياتها الاقتصادية والثقافية والسياسية, أن يجعل موضوع العقد الاجتماعي أمراً بالغ الأهمية, بوصفه المرجعية النظرية للتأسيس للنظام القانوني من خلال الدستور والقوانين المنبثقة عنه.

إنّ المقولة السائدة في خطابنا السياسي حول طبيعة الدولة بوصفها دولة الحق والعدل والقانون في أبعادها السياسية والحقوقية ,ودولة الكل الاجتماعي في مدى تمثيلها الديمقراطي للمجتمع, تتطلب إدراك حقيقة التحولات التي أصابت بنية الدولة في المراكز الرأسمالية المتقدمة , والتي ساهمت هي نفسها بتراجعها في العقود الثلاثة السابقة, لتصبح من ملحقات القوى المنتسبة إلى الليبرالية الجديدة, وذلك من خلال تنازلها عن وظائف الإدارة والقيادة إضافة للتنازل عن أبرز وظائفها الملازمة للاقتصاد , وقيامها بنقل الحماية الاجتماعية والصحية إلى الشركات الخاصة, والضامنة لعدم وجود رقابة عامة عليها إثناء قيامها مثلاً بتسريح آلاف العمال من شركاتها الانتاجية دون خشية من المحاسبة القانونية.

ومع هذا لا يعترينا أي وهم بأن الدولة الغربية يمكنها أن تذهب إلى حد الانتحار, لأنها في الواقع تعتبر أحد المتعهدين الأساسيين لفائدة المشاريع الخاصة : الأسواق العامة والمساعدات الأخرى “إعانات التوازن وتأمين التصدير ” وبذلك تعتبر الدولة في الغرب الضمانة الرئيسة لحياة القطاع الخاص.

لهذا السبب, فإنّ الليبرالية الجديدة خادعةً تماماً طالما أنها, وعلى الرغم مما تقوله عن نفسها تلجأ بشكلٍ كبير إلى خدمات الدولة ,على حساب الوظيفة الأساسية لهذه الدولة في تحديد المنفعة العامة منها.

لذلك نلاحظ أنّ المجتمعات الأوربية تتحدث كلها الآن ,عن أنّ أفول الدولة أدى إلى تراجع ملحوظ للديمقراطية, بعكس الأفكار الشائعة والقائلة بأنّ أيّ تراجع للدولة يمنح المزيد من تقدم الحريات, وتشير هذه المجتمعات إلى حقيقة أنّ البنى الأوربية هي أقل ديمقراطية بكثير من الدول التي يتكون منها الاتحاد الأوربي .

وفي ظل هذا الوضع الليبرالي الجديد أيضاً ,نلاحظ بالنسبة لعدد كبير من الدول العالمثالثية, ومنها الدول العربية ,إنّ وضعها تحت الوصاية يتبلور من خلال إطار ما يدعى ب” خطط الضبط الاقتصادي البنيوي” إذ يحول هذه الدول إلى مجرد منظمات تنفيذية للمؤسسات المالية العالمية التي تسيطر عليها وتضع نظامها القانوني بشكلٍ خاص الولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذه الحالة تفقد الدولة معظم المقومات الأساسية لسيادتها . ففي الوقت الذي كان تاريخ الدول التابعة في العقود السابقة يُفسّر بتاريخ الدول المتسلطة, كما كتب غرامشي, فإنّ تاريخ العلاقات الدولية اليوم, هو أساساً, تاريخ السلطات الخاصة”الشركات المالية والمصانع والاحتكارات عابرة القومية” .

في ظل هكذا أوضاع دولية حافلة بتحولاتها العميقة, وفي واقع ازدياد التوتر بين السلطة الشمولية والمجتمع في سورية والوطن العربي عموماً ,يبدو أنّ حل المسألة الديمقراطية لابدّ وان يستند إلى نظام قانوني واضح, بحيث يشكل الضمانة الحقيقية لوظيفة الدولة الوطنية في ضمان الحريات العامة لكافة المواطنين والقوى السياسية وعموم منظمات المجتمع المدني ,إَضافةً لحماية الضمانات الاجتماعية الخاصة بتحقيق العدالة والمساواة والحزمة الخاصة بالمطالب الديمقراطية الكلاسيكية ,وتحديد النظام القانوني للبنية السياسية للدولة والتوجهات العامة للسياسة الخارجية والعلاقات العربية والإقليمية والدولية بما يضمن توطيد أركان السيادة والاستقلال الوطني الحقيقي.

2 – المجال الاقتصادي : لم يعد الاقتصاد الأوتاركي المنكفئ على ذاته, بقادرٍ على إطلاق مفاعيل التنمية الاقتصادية في الإنتاج والاستثمار ,والوفاء بكافة احتياجات المجتمع المعاصر ,وذلك في ظل الثورة المعلوماتية وثورة الاتصالات والمواصلات ,وتنامي القدرات الاقتصادية للشركات الصناعية والمؤسسات المالية العالمية العابرة للقومية. كما لم تعد شعارات “الإحلال محل الواردات..وسياسة الاكتفاء الذاتي..والتنمية المستقلة..” المصاحبة لذلك الاقتصاد الممركز ,وتوجهاته الداخلية المحاصرة لذاتها بقادرة على تحقيق الجدوى الاقتصادية منها ,إضافةً إلى كونها اتسمت بالتضييق غير المحدود على المجتمع وحرياته الأساسية, كما لم تعد تلك الشعارات تتسم بالفاعلية السابقة في مواجهة النزعة الاستهلاكية وثقافتها التي تتسع أبعادها في معظم الأوساط الاجتماعية في الدول المتقدمة والنامية ,وإن بدرجات متفاوتة بينها.

من جانبٍ آخر, وإلى جانب التوظيف المعولم للتكنولوجيا الفائقة في تقدمها, تواجه البلدان النامية , ومنها أقطار الوطن العربي وخاصةً الفقيرة منها, مخاطر التداعيات السلبية لهيمنة قطاع رأس المال المالي العالمي , والذي ينعكس في عدد من الجوانب, من أبرزها سياسة النهب المنظم للثروة العالمية ,وتجلياتها الإقليمية في السيطرة الكاملة على مفاصل اقتصاد الدولة القطرية,مما يؤدي ,في ظل واقع التخلف الحضاري العربي, إلى توسع آليات التبعية والتحكم الرأسمالي ,وإعادة إنتاج التبادل التجاري غير المتكافئ, وفسح المجال في الداخل الوطني أمام تنامي ظاهرة الفساد والإفساد الإداري والاقتصادي في الدول العربية,وخاصةً منها الخاضعة للأنظمة الشمولية القائمة على احتكار السلطة ,والتصرف غير المسؤول بالثروة الوطنية والاستئثار بمواردها الرئيسة. وذلك في ظل وضعية اقتصادية تتسم بالتخلف وضعف مردود الطاقة الانتاجية ,وسياسة الهدر المتنامية التي جعلت من القطاع العام موئلاً رئيساً للفساد ومجالاً للنهب المنظم لمعظم مداخيله الاقتصادية .

في مرحلة التحول الديمقراطي, وإعادة التأسيس للدولة الوطنية القادرة على إنجاز مهام هذه المرحلة, يعتبر الاقتصاد في مجالاته المتعددة من أبرز المحاور التي يتوقف عليها إنجاح هذه المهام ,وذلك من خلال إعادة هيكلته وفقاً لنظام متكامل يشمل كافة آليات الإنتاج والتنمية. ومن أبرز الأسس الموضوعية الخاصة بهيكلة الاقتصاد:

1 – إطلاق مفاعيل الإنتاج الاقتصادي المتكاملة داخلياً حسب الإمكانات المتوافرة, دون اللجوء إلى محاصرتها بما كان يؤمل سابقاً من سياسة “الاكتفاء الذاتي” والتي أخفقت في معظم الدول, إذ لابدّ ان يكون للتبادل التجاري الخارجي دوره الكبير في هذا المجال, وذلك بإشراف الدولة دون أي تدخل لمؤسساتها

في مجالات القطاع الخاص الذي ينبغي له أن يسهم بدورٍ بارز وفاعل في العملية الإنتاجية, إضافةً لتنظيم العلاقة الداخلية وفق منظومة من القوانين الاقتصادية التي تضمن تحرير التجارة الداخلية والخارجية, ووضع الآليات المناسبة لتوسيع إطار الاستثمار الإنتاجي لموارد الثروة الوطنية .

2 – التوظيف الكامل لفائض الإنتاج ورأس المال المتحرر من القيود الأوتاركية في مجالات العمل والإنتاج بما يضمن تحقيق التمنية المستدامة .

3 – التأكيد على قيام الدولة بوظيفتها الاجتماعية والاقتصادية وتوسيع نطاق الخدمات والضمانات التي من شأنها أن تؤدي إلى رفع مستوى المعيشة كسياسة مستمرة وملازمة لعملية التنمية البشرية, إضافةً لإنجاز مهام الإصلاح الإداري والمصرفي, وتوفير الكتلة المالية اللازمة للمزيد من مشاريع التنمية من قبل المواطنين, في إطار التأكيد على العدالة الاجتماعية وتطبيق مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين كافة الفئات والفاعليات الاجتماعية

4 – توسيع نطاق التعاون الاقتصادي في الإنتاج والتجارة وتبادل العمالة بين الأقطار العربية , عبر التوسع في المشروعات الإنتاجية المشتركة, على قاعدة توفير الشروط العامة للتكامل الاقتصادي, وتحرير التجارة بصورة نهائية بينها, وضمان الحقوق الكاملة للعمالة المهاجرة داخل الوطن العربي.

3 – المجال الثقافي: يرتبط التغيير الديمقراطي في مآله الأخير بأنماط التفكير السائدة في المجتمع , وسبل تطويرها عبر تجاوز الأنماط التقليدية والموروثة اجتماعياً من زمن التأخر التاريخي الذي ما يزال ممتداً في صورٍ شتى ,إضافةً لإدماج العناصر الحديثة للثقافة العالمية المعاصرة في متن الأفكار والتصورات التي تدعو ,ويطمح أصحابها لتجديد النهوض, وبناء الأسس الفكرية للنهضة الحديثة .

ولاشكّ في أن للنظام الشمولي مرتكزاته الأيديولوجية الحاضنة للوعي الزائف والخاطئ والذي بمكن له أن يحول الشعارات والمقاصد النبيلة إلى ما يتعارض معها ويناقضها في معظم الأحيان, مستغلاً بذلك, مجموعة من العوامل الظرفية والعابرة في تاريخ المجتمع المعني ,إضافةً لقصور كبير في الرؤية الواضحة وافتقاد الوعي النقدي لدى العديد من أبناء طبقات المجتمع ,وحتى العديد من عناصر وكوادر القوى والأحزاب السياسية.

ولا يقتصر وجود وانتشار هذه الأسس الأيديولوجية في أوساط النظم الشمولية وحدها , إذ أنها غالباًَ ما تشكل معظم تلاوين النسيج الفكري والثقافي لدى القوى السياسية والتيارات الأصولية التي تنزع للاصطفاف في إطارٍ من التكتلات والتشكيلات المجتمعية ما دون المدنية, غير القادرة على التخلص من إرث الأفكار والتصورات الماضوية التي ترفض التجديد الثقافي وإعادة إنتاج الثقافة الحديثة

لذلك لا يمكن للتغيير الديمقراطي أن يكتسب مضامينه وأبعاده,دون ان يتقدمه فكرُ واضح يحتاج في منطلقه ومستقره إلى مراجعة نقدية للتجربة التاريخية التي مرت وتمر بها الأمم والشعوب المتقدم منها والمتخلف على حدٍّ سواء .ومن خلال هذه المراجعة تتضح الكثير من القضايا والمسائل التي تثير الجدل والسجال بين أطياف المعارضة الوطنية في الوطن العربي ,ومنها تلك المسائل التي تتعلق بطبيعة المهام المطروحة في الحاضر والمستقبل ,وكيفية تحديد الاتجاهات النظرية التي تؤسس لعقلانية سياسية يمكن لها أن تسهم في اتخاذ موقف محدد مما يطرح من أفكار وآراء وتصورات داخلية ووافدة .

ومن أبرز مهام التغيير الوطني الديمقراطي , الاهتمام بإعادة بناء المنتج الثقافي وفق رؤية موضوعية تفسح في المجال لنشر الوعي الثقافي الذي يتجاوز أنماط الفكر التقليدي ومكوناته الأصولية التي تصادر على ممارسة المجتمع لحرياته في التعبير والحوار والمناقشة الحرة والمتحررة من قيود المرجعيات القديمة , والتي لم تعد قادرة على مواكبة التطورات الفكرية والثقافية العالمية والمعاصرة .مع ملاحظة وضع كافة الجوانب الحية من تراثنا الفكري والحضاري بوجهٍ عام في مركز الاهتمام, في إطار عملية التجديد الثقافي التي تعتبر أبرز المحاور في عملية التحول الديمقراطي ,بوصفها مرحلة للتحول العام نحو إعادة إنتاج النهضة المعا صرة والخلاص من حالة التأخر التاريخي التي يعاني منها المجتمع العربي – انتهى

*كاتب سوري

المراجع:

1 – د. غليون , برهان مقال في الرد على الليبراليين العرب ( 1-2 ) 2005

2- المصدر السابق ( 2-2 ) 2005

3 – المصدر السابق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى