أسئلة حول تكون فئات وسطى جديدة
جمال باروت
أبرزت مسارات وبرامج الإصلاحات الاقتصادية الجارية بسرعاتٍ مختلفةٍ في البلدان العربية كافة، مؤشرات تكون فئة وسطى جديدة «متعولمة» و «شبه متعولمة»، ناهضة بشكل خاص في قطاع الخدمات، ومطواعة سياسياً، ومتكيفة مع السمات الكوزموبوليتية لاتجاهات عملية العولمة الليبرالية الجديدة. وتختلف هذه الفئة في تكوينها ووظائفها عن الفئات الوسطى الحديثة التي تصدرت عملية بناء الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال، ومثلت العمود الفقري للحركات السياسية الراديكالية التي تستهدف تحقيق التغيير المجتمعي الشامل، ولحركة الإنتاج الفكري والثقافي والأدبي العربي.
وفي حين تخمّر صعود الفئات الوسطى الحديثة في مرحلة ما بعد الاستقلال في الأحزاب والحركات السياسية العقائدية، أو في المكاتب الحكومية والثكنات بسبب التوسع في نظام التعليم وربطه بتوفير حاجة أجهزة الدولة الجديدة ومشاريعها التنموية إلى الكوادر، وتضخم حجم الجيوش الوطنية، ونشوء قطاعات عامة واسعة في مختلف البلدان العربية بغض النظر عن لافتاتها الأيديولوجية والسياسية المعلنة، اضطلعت فيها الدولة بوظيفة رب العمل الأول والأقوى.. إلخ، فإن الفئات الوسطى المعولمة قد تكونت في السوق في مرحلة عولمة الأسواق وانفتاحها وتشابكها واندماجها، وتراجع دور الدولة في الاستثمار العام لصالح الاستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية التي أخذت تعمل في إطار ما يسمى بالتحالفات الإستراتيجية فيما بينها، وبشراكات اندماج رأس المال المحلي مع رأس المال العربي أو الأجنبي، بتيسير من سلطة الدولة المتبنية لبرامج الإصلاح الاقتصادي «الملبْرل»، والمستبطنة في تشريعاتها وقوانينها وسياساتها الاقتصادية-الاجتماعية لمتطلبات نمو دور ذلك الرأسمال ومحاولة تمكينه من الاضطلاع بالقيام بدور «القاطرة» في عملية الاستثمار ومحاولة رفع معدلات النمو الاقتصادي.
لقد نتج عن ذلك تغير كبير في دور الدولة في عملية التنمية الاقتصادية-الاجتماعية لصالح دور القطاع الخاص. وهذا التغير يختلف في البلدان العربية كافةً بالدرجة وليس بالنوع. وصيغ شعار الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص ليعبّر أيديولوجياً عن هذه الشراكة الجديدة. ويضاف إلى أركان هذه المشاركة المجتمع المدني على سبيل اللياقة لتحقيق التماسك اللفظي الزائف للشراكة، في حين تجري فوق ضعفه الراهن عملية تهميشه وتطويقه والتحكم بمؤسساته وبمشاركته المجتمعية على مستوى المحليات أو المستوى الوطني، ذلك أن البعد السياسي المفترض لعملية «اللبْرلة الاقتصادية» هو البعد المغيّب والمتلاعب بأشكاله المشوهة المسموح بها في البلدان العربية كافةً. لكن القطاع الخاص ليس كتلةً متجانسةً، وهو ما يثير سؤال: من هو القطاع الخاص في هذه الشراكة؟
يمثل الجواب عن هذا السؤال نقطة المحرق في عملية فهم تكون الفئات الوسطى المعولمة، وإضعاف الفئات الوسطى الحديثة والتقليدية (المرتبطة بالبازار) على حد سواء. فالمقصود بالقطاع الخاص هنا على مستوى أوزان الفاعلين وأدوارهم الاقتصادية-الاجتماعية، وجزئياً أدوارهم السياسية، ليس من الناحية الفعلية المتحققة سوى ما بات يطلق عليهم اسم «رجال الأعمال» أو»المستحدثين» بلغة البنك الدولي الذين يخلقون المشاريع ويوفرون فرص العمل في ظل السياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة. وتنطوي هذه الشراكة في ظل تجميد البعد السياسي الانفتاحي المفترض لعملية اللبرلة الاقتصادية على نشوء علاقة لولبية بين أقوياء سلطة بيروقراطية الدولة وبين أقوياء القطاع الخاص الذين يمكن تخصيصهم وتمييزهم على وجه التحديد في فئة رجال الأعمال الجدد الضاربة، والتي تتسم بالعولمة والكوزموبوليتية والاستثمار في قطاع الخدمات والخدمات الجديدة بدرجة أساسية، تحت دعوى تشابك العالم وانفتاحه، وتشكيلها مركز العجلة في عملية النمو الاقتصادي والسيطرة على مشاريع القطاع العام نفسها عبر أشكال الخصخصة المباشرة أو غير المباشرة على حد سواء.
إن تشكل الفئات الوسطى الجديدة المتعولمة نتاج عملية تحول قطاع رجال الأعمال إلى قطاع القاطرة أو مركز العجلة في عملية النمو الاقتصادي ووضع السياسات واتخاذ القرارات، وهو تشكل يتسم بالاندماج مع اتجاهات قطاع الأعمال الليبرالية الجديدة المتعولمة. ويثير هذا التشكل الأسئلة المجددة عن أي شرائح وسطى ستشكل الحامل لمشروع المجتمع المدني والتحويل الديمقراطي في ديار العرب؟ إن الفئات الوسطى تدخل في طور جديد من تطورها، ولم يعد كافياً الحديث بالمطلق عن الفئات الوسطى بل تلمس هذه التحولات الجارية فيها.
العرب القطرية 21/4/2008