الرأي والتعبير… و الحرية
1
د. نصر حس
تأملت ملياً صيغة بيان الرأي حول الرسوم المسيئة للرسول (ص)الذي أرسلته إدارة موقع الأوان المعبر عن توجهات ” رابطة العقلانيين العرب ” التي تأسست في نوفمبر 2007 بباريس , فبدت بصيغتها المباشرة أشبه بدعوة ناعمة للمشاركة والتعبير عن آراء المثقفين العرب المضغوطة اليوم بالعديد من الكوابح الذاتية والخارجية حول أشد المسائل إشكالية في وعيهم وذاكرتهم,وإذا كان المباشر فيها هو قياس ردود فعلهم ومستوى تعاملهم معها في هذا المنعطف الخطير الذي يمر به العرب و المسلمون ومعهم من يشاركهم الهيام في الماضي ومن يحفزهم على الغرام في حداثة مبهمة هي الأخرى ,
وغير المباشر وحسبما نعتقد هو تحريك عقل وقلم أهل الفكر والثقافة والعاملين بالشأن العام إلى ساحة صراع مصطنع موجه إلى دريئة واحدة هي الإسلام , للمشاركة بتفسير وتبديد الحيرة في سبب السهام التي تنهال عليه من كل حدب وصوب, بما يشبه شقلبة وقولبة لصراع وهمي متعدد المستويات العالمية في مستوى واحد, وفرضه على أنه الصراع الأساسي في هذا القرن الجديد.
وبشكل عام إن المشاركة رغم أنها “طلبية ” أي بعيدة عن المبادرة المنهجية الذاتية , فهي مع ذلك تمثل في أحد جوانبها مدى الإحساس بالخطر , خطر تمويه الصراعات الأساسية الذي يواجه الحياة الإنسانية المعاصرة , بفرض صراع تصوري وهمي أولاً, وإسقاطي ثانياً ,وأصولي سياسي ثالثاً, ويأخذ أبعاد مشكلة مفتوحة في تطرفها رابعاً, ومتمددة سرطانياً في العالم ومنه الإسلامي خامساً ,يرافقها الجمود والتخلف والدوران حولها بقدر ما يرافقها أيضاً تكثيف صراع مصالح لحصرها في اتجاه العنف والتطرف في دورة حديثة من صراع الغريزة والقيم الإنسانية , وعليه هو خطر يجب أن يحفز على تشغيل العقل والعمل والنقد وغربلة محتوى الذاكرة الاجتماعية والثقافية والمعرفية العربية وتحديثها , وأيضاً يحفز على الفعل بعد أن ألفت أدواته (العقل ) السكون حيناً, والهيجان ورد الفعل العشوائي حيناً آخر , في خضم هذه المعمعة المصطنعة في بعض صورها والموجهة سياسياً في بعضها الآخر ,رأينا مقاربة الموضوع بمستواه المعرفي الأساسي بما هو المتن قدر الإلمام به وليس بشكل سياسي إعلامي وقتي , رجوعاً في الخاتمة بمرور على تقاطع المعرفي الثقافي مع السياسي فيه , وسبب الفعل ورد الفعل عليه وما وراؤهما وبعض المقاربات الموضوعية لفك فتيل الفتنة , منطلقين أن الحضارات الإنسانية لها قلوب وعقول وقيم ومسار, وليست مختبرات وسلع ودعاية مغرضة وسوق وشركات احتكار.
وبشكل سريع نذكر أن علاقة الفرد بالآخر أو شعباً بآخر أو حضارة بأخرى ,قامت في الماضي علىمستويين اثنين , الأول هو القوة الطاغية التي تلغي كل قيمة أو بعداً للآخر وتخضعه لها بالكامل , والثاني على احترام الآخر ومقدساته وثقافته وقبوله والألفة معه , الشق الأول عج به التاريخ وهو يمثل نفي الآخر جملةً وتفصيلاً وتفكيك ثقافتة ومنظومته المعرفية واحتلال بشع لذاكرته , والعبث بمحتوياتها وتوليفها على قبول الاستلاب , الثاني يمثل الوجه الإنساني المعذب في التاريخ , القائم على احترام الآخر حتى في حالات خاصة من تناقض المصالح والوصاية والاحتلال .
والحال كذلك نحن أمام منهجين مختلفين لتحديد الآخر وتبعاً المفهوم العام ” حرية التعبير” , المنهج الأول الذي يرى الآخر على أنه حجر عثرة يجب إزاحتة من الطريق طغى على العلاقات البشرية على امتداد التاريخ , ولم يعرف استثناءً له سوى الديانات التوحيدية التي تمثل نوابض الحضارة وآخرها الإسلام وحديثاً في شرعة حقوق الإنسان, فالدين ومنه الإسلام هو في حقيقته وزمنه دفع التاريخ البشري إلى مستوى إنساني حضاري جديد, هنا نعني المنظومة القيمة الأخلاقية المعرفية الإنسانية التاريخية له , ولا نعني تجلياته السياسية في هذا الإطار أو ذاك في هذا المكان أو ذاك , فتجارب الإسلام السياسية هي بنت ظروفها وهي ككل التجارب فيها ما فيها من خير وشر وعدل وظلم وتقدم وتخلف ,وهي خاضعة للنقد العقلي العلمي المتنور وليست استثناءً منه وهذا هو واجب المسلمين قبل غيرهم , الاستثناء كان ومازال في محتواها التاريخي الإنساني القانوني الحقوقي الأخلاقي بالعلاقه مع الآخر , الذي طبق ببراعة في بداية انتشار الإسلام,ولم يستطع المسلمون لجملة من العوامل الداخلية والخارجية أن يعيشوا باستمرار حيويتها وصيرورتها البشرية , وعاشوها طقوساً ذهنية لفظية معزولة عن قوتها الروحية الداخلية وواقعها البشري المتبدل, وقطعوا الصلة الحية معها وحاصروا أنفسهم وعقولهم بالجمود , فتوقفت أفعالهم في تلك اللحظة الزمنية المبهرة , ولم يستطيعوا الفكاك منها والاندماج مع حركة التاريخ , بحكم سلسلة طويلة من السبات ,أفرزت القطيعة والاضطراب الحالي
2
لماذا توقف عقل العرب والمسلمين وتخشبت وسائل اتصالهم وفهمهم ؟! سؤال مركب يتداخل فيه الذاتي الداخلي والخارجي ويطول الكلام فيه , فالأمر يفرض قدراً سريعاً من التوضيح حتى تأخذ المقاربة بعدها العملي الموضوعي , وجوهره أن المسلمين لاحقاً تمثلوا الماضي برومانسية ووهم عاليين وبجمود لغى حيويته وحركيته وزمنيته ,و شوه العلاقة معه فتوقفت الصلة العقلية مع ماضيهم,وتقوقعوا حول صوره وتجلياته الخارجية ,ولم يتفاعلوا مع محتواه التاريخي ولم يتمكنوا من تحريكه إلى إحداثيات العصر, فابتعدوا عن التجديد والتفاعل مع منجزات العلم الحديث وأسس المنهج العلمي الذي أفرزته الطفرة العقلية والثورة الصناعية واختراع الآلة, وراوحوا في المساحة العازلة بين قديم انقطعت الصلة الحية معه ومع ضرورات الحياة , وبين جديد لازالوا تائهين خارجه في مرحلة معقدة من استمرار تفاعل دورات التاريخ .
وبهذا الحال عاشوا تطور مستويات الصراع البشري حول هدف واحد هو نزعة البقاء , الذي أخذ مستويات عدة أوضحها القوة ,فمن طور ماضي كان البقاء فيه من نصيب الأقوى والأعنف, انسحب من الأعنف إلى الأصلح واليوم إلى الأنجح وفي المستقبل إلى الأذكى والأسرع , أي انتقل شكل الصراع من القوي يأكل الضعيف إلى السريع الذي يدوس البطيء في دوائر متداخلة من الفناء والبقاء , ومقياس البقاء هذا فرض سلسلة من الأنماط الثقافية المتصارعة التي تصوغ سلوك المجتمعات والشعوب والتي تستمرعملاً بنظام الاصطفاء بالقوة , القوة المهيمنة التي تفرض الإطار العام للثقافة والحياة,فالقوة التي تمثل ناقل حركة التاريخ من مستوى لآخر تتمظهر اليوم في منجزات الثورة العقلية الحديثة التي حدث خلالها التطور الفعلي في فهم الإنسان لنفسه وعقله والآخر , أنتج هذا بدوره أساليب فعالة للتحكم في سلوك الإنسان ومشاعرة وصيرورته, مجمل هذه الأساليب نزلت إلى الخدمة الميدانية في التحكم بالعقول وحتى بحقائق الحياة التي ارتبطت عضوياً بوجود الإنسان وشبكات علاقاته الخاصة والعامة , ووجوده الذي لخصه ديكارت ببلاغة ” أنا أفكر إذن أنا موجود” أنا أفكر إذن أنا أتمتع بحريتي ,أي أعاد ارتباط أساس التعبير ووجود الإنسان بالحرية.
بيد أن الحرية وقعت من جديد أسيرة القوة والسيطرة والتطور, فمن مفارقات التطور أن الثورة الصناعية الآلية تمظهرت بأسوأ بضاعتها (السلعة ) أي الاحتكار والربح واعتباره المحرك الأساسي لكل شيء , والمؤسف أن التطور العقلي تخلف عن نجاحات الثورة الصناعية وتنحى جانباً وفسح المجال لسياسة الربح والاحتكار بالدخول إلى نسيج المجتمعات وثقافاتها وحياتها بدون ضبط ولا معيار سوى الربح , فكانت تلك التغييرات الهائلة في حياة الإنسان هي التي ساهمت وستساهم في توليف وعيه وإنتاج ثقافته وتحديد سلوكه وعلاقته بالآخر, وانحصر الصراع بين الأشكال التقليدية للمعتقدات والثقافات والقوانين وبين الآلة ومنتجها ومالكها , وأصبح أساس الصراع هو بين السلعة والحرية والإرادة , وضمناً حرية الرأي والتعبير ضمن القواعد التي استقرت عليها الشعوب في هذه المرحلة , هنا لامناص من التذكير بأن استخدام الآلة والأدوات والأساليب الحديثة لأغراض إيجابية يرافقه سوء الاستخدام أيضاً , فالطاقة النووية تستخدم في مساعدة البشر على الحياة وقتلهم أيضاً , أي أن المعرفة العقلية ( العلم ) أنتجت (خصمها) أي معرفة يمكن إساءة استخدامها باضطراد , وفي المنظور بالتأكيد ستسمح عملية التطور التقني السريع إلى اكتشاف آلي جديد يتحكم بفعالية كبيرة في عقول الناس وحتى في عقول أمم بأكملها , إذن الآلة تقدمت على العقل وهذا له استحقاقاته , وستبقى متحكمة فيه لحين شهود تطور أو طفرة في العقل الإنساني تعمل على توازن العلاقة بين الآلة والعقل والإنسان .
والحال كذلك فعالم اليوم تقوده شركات كونية احتكارية عابرة للقارات وقيم الإنسان معاً , أكثر مما تقوده نظم قيم وثقافة وأخلاق , شركات ضغطت أبعاد الإنسان بشكل كامل وحولته إلى سلعة من السلع بواسطتها تحقق الربح واستمراريتة,وبالتالي كرست الصراع وربطته بإحكام بالآلة المخيفة في مرحلة الثورة الرقمية المفتوحة الآفاق في كل الاتجاهات , واليوم بدون شك لدى الشركات الكونية نيات وبرامج وربما آلات غاية في التعقيد والتطور والفائدة والخطورة معاً , والمفارقة التي تنتج الخلل في التوازن العالمي هي أنه لا يتوفر ما يعادلها من قوة عقلية إنسانية لازمة لضبطها وإدارتها على الوجه الصحيح, لسبب واضح وهو تخلف قدره مئات السنين بين الآلة والعقل أو بين التنمية الآلية والتنمية العقلية .
وبهذا ” نجد أنفسنا أمام طفل يحمل بندقية مليئة بالطلقات , قد يطلقها على نفسه أو على غيره ولن نستطيع انتزاعها منه ,لأننا لا نستطيع أن نرجع عقارب الثورة الآلية إلى الوراء دون أن نفقد أساسياتها الموضوعية التي نحياها والتي باتت جزءاً من حياتنا, لكننا على أي حال نستطيع بذل المحاولات المتتالية لنبصره بأخطار البندقية التي يلعب فيها ,ولكي يستوعب ذلك يجب أن يكون قد بلغ نضجاً وتطوراً كافياً ,وهذا النضج والتطور هو الأمل في أن تقوم به الثورة التكنولوجية المعلوماتية المحمولة على شرعة حقوق الإنسان ” .
ومظهرهذا النضج العقلي العملي المباشر هو الإقرار الذاتي بأن عيش الفرد مرتبط عضوياً مع عيش الآخر , أي قبول الحياة جنباً إلى جنب معه بأقل قدر من الخصومة والصدام , وأي بطء في نضج الجانب العقلي الإنساني سيكون له نتائج كارثية على مستقبل البشرية
3
والحال كذلك فإن الخطورة هي حصر الصراع بالآخر الإنساني وليس بالبيئة وكوارثها ! وبواقع ما يشير إليه مفهوم الآخر و صنوه ” حرية الرأي والتعبير” , هو يؤشر الموقف من الآخر المختلف ودرجة قبوله , فالآخر في سياق التطور الإنساني هو الشريك وليس الخصم,هنا تتمركز القضية في شكل الاختلاف حول الحقيقة ونظام إنتاجها ومعيار تحديدها,وهي عملية مركبة يحددها بشكل كبير النظام السياسي الذي يحركها ,وقلما أسعفتنا الأحداث التاريخية بتجربة تكامل وتفاعل إنساني ,بقدر ما كان المسيطر هي القوة المادية وسياسة التفكيك والهدم ونقل نظم المعرفة والثقافة من حالة إلى أخرى على طريق القضاء عليها ,هنا يتمثل دور القوي النامي وتأثيره على ضعيف يتحلل تدريجياً في شكل معرفي سياسي مهيمن جديد, خلاصة القول أن العلاقة بين الأنا والآخر الحالية هي علاقة صراع تقودها السياسة أكثر ما ترشدها الأخلاق والحقوق, بتكثيف الأمر أكثر هو غياب البعد الإنساني في صراع مخيف بين قوة عناصر السوق( العولمة ) .!.
واستطراداً إن العلاقة المزدوجة ذات اتجاهين بين الأنا والآخر والذي يحددها مفهوم “حرية التعبير ” , يمكن فهمها من خلال فهم حديها الحرية والتعبير , هنا نرى أن الأمر يتطلب تفكيك المفهوم لغوياً وحقوقياً إلى حديه وتحديدهما على انفراد ,لمعرفة أبعاد كل منهما على حده ومن ثم إعادة التركيب إلى المفهوم لمعرفة أبعاده الثقافية والاجتماعية والإنسانية كمفهوم واحد” حرية التعبير” ودلالاته العملية في الواقع , هنا يرتبط المفهوم أساساً بتحديد مستوى فهم الحرية,ومعناها وحاضنتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية والبيئة الاجتماعية والسياسية التي تتحرك فيها ,وما هي حدودها ومجالاتها وضوابطها التي تجعلها قيمة إنسانية في شتى الظروف والأمكنة .
فهي ,أي الحرية في منطق الإسلام محددة باحترام خيار الآخر وحريته ورفض العبودية ” متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا” , وفي هذا لا أريد البتة أن أسحب المفهوم إلى ساحة الدين , بقدر ما أريد توضيح أن الاسلام في تكثيفه الاجتماعي وحقيقته يعكس شكل المعاملة مع الآخر المختلف , من وحي هذه المقولة ندرك أن وجود الإنسان وكرامته مرتبط بشكل جدلي بقيمة الحرية وتوفرها , ففي غيابها يسيطر الشكل العبودي بكل ما تعنيه الكلمة من استلاب , ولعل الرد على الاستلاب مثلته الديانات التوحيدية وأدب الحرية على مر التاريخ , الذين حاولوا تأنيس صورة الصراع والتطلع إلى الحرية والخلاص من نظم العبودية كأطر فكرية وأنظمة حكم سياسية, أي محاولة تطوير شكل ومستوى العلاقة بين الأفراد لتأخذ بعدها الإنساني ,وهي أولاً وأخيراً احترام الآخر واحترام قيمه وثقافته وخياره , وضمن علاقات قائمة على التفاعل والتفاهم والحوار وبعيدة عن مفاهيم الصراع والعدوانية,أي تأصيل البعد الاجتماعي الإنساني في التصورات والأفعال وكل أشكال السلوك والتعبيرالأخرى .
فالتعبير لا معنى له بدون بعده الاجتماعي أي العلاقة مع الآخر , أهي علاقة حث وتفاعل أراء وإرادات وثقافات وحضارات ؟,أم فرض رؤى وإلغاء آراء وهدم ثقافات وتسفيه قناعات الآخرين ومعتقداتهم؟, أي أن التعبير هو أيضاً مستوى النظر إلى الآخر على اعتباره شريكاً وليس خصماً, والتعبير بما هو رأي لا يمكن أن يتصف ببعده الإنساني بدون احترام رأي وخيار الآخر على مستوى الأفراد والشعوب والحضارات الإنسانية , واستطراداً إن التعبير ليس جين وراثي يميز هذا عن ذاك ,أو إرث يملكه هذا ولا يملكه ذاك , بل هو ثمرة التقدم والوعي الإنساني , وهو بهذا المعنى حق لكل فرد في كل مجتمع وفي كل ثقافة وفي كل حضارة وفي كل وقت , واستقامة التعبير وصوابه وخطأه تقيسها مسطرة العلاقة مع الآخر ,والحد الفاصل بين الخطأ والصواب هو الإقرار بتعدد ونسبية الرأي وحتى الحقائق وطبيعة العلاقة مع الآخر, أي قبول رأي الآخر والتخلي عن الفهم اللاهوتي والأصولية المعرفية والثقافية والعرقية وثنائية الشر المطلق والخير المطلق في مقاربة الأمور.
واستطراداً إن مفهوم ” حرية التعبير ” كمفهوم معرفي ثقافي يخص علاقة الفرد بالمجموع والمجموع مع بعضه , يعني حرية قول الرأي والتعبير عنه بأي شكل من أشكال التعبير ووسائله هو حق للجميع ,وهو في حقيقته يؤشر طبيعة العلاقة بين الأفراد والشعوب والثقافات ,ويبطن في طياته الموقف من الآخر بكل أبعاده الدينية والفلسفية والنفسية والاجتماعية والإنسانية , ويلخصه حد واحد تتفرع عنه كل أشكال العلاقة مع الآخر , وهو احترام رأي الآخر والقطع مع علاقة الخصم والتسفيه التي تقوم على الجهل والغريزة وإلغاء الآخر , والانتقال إلى علاقة العقل القائمة على احترام الآخر ودوره ورأيه وقناعاته, وتعميق الحوار معه بهدف تعميق مفهوم الحرية ودفع العلاقات الإنسانية إلى الأمام الحقوقي والإنساني, والإقرار بأنه لا حرية فردية بدون حرية الآخر ولا قيمة لرأي بدون احترام رأي الآخر , إنها في العمق موقف من الصراع بين الاستلاب والحرية.
4
تاريخياً إن عملية الكفاح من أجل الحرية تركزت في جوهرها حول الدفاع عن حرية الإنسان وكرامته ,هنا تبرز المشكلة في أبعادها الاجتماعية وارتباط حرية الفرد ومصالحه مع مصالح الآخرين, وهو ما يمكن وصفه بتقاطع ثقافة مع ثقافة أخرى وتحديد شكل علاقتهما , لأن الحرية والرأي بالمحصلة هي أفكار تصوغ ثقافات وتحولها إلى قيم يهتدي فيها الأفراد والشعوب ويدافعون عنها , هنا تبدو ضرورة النظرة النسبية إلى أبعاد الفرد وحريته وعلاقته بالآخر , بمعنى أن ما هو لمصلحة الفرد يجب أن يرتبط بمصلحة الجماعة , ويؤكد علماء “الأنثروبولوجيا ” على النسبية تلك كبديل متسامح لعلاقة الخصومة , وإلى التفاعل والحوار كبديل من تحويل الثقافات إلى مجموعة من المتماثلات الأخلاقية والدينية والسياسية ( العبودية), لأنه ما من ثقافة في حالة توازن دائم واستقرار وكمال لأنها مرتبطة بظروفها المتغيرة من شكل إلى آخر في التاريخ.
نصل إلى بيت القصيد , نسبية الرأي والتعبير والحرية والآخر كمؤشرات ثقافة , والثقافة بما هي سلوك مستقر في حياة الإنسان , تحدد أخلاقه التي بدورها تضعه في نسق معين بين الأخلاق العامة المتفاعلة مع المجموع, أوبين أخلاق صفوة معزولة ومضادة للمجموع ,وبهذا الشأن يؤكد علماء الأخلاق المقارنة على أن الثقافة أو الأخلاق المرتبطة بالملامح العدوانية ونفيها للآخر هي المسؤولة عن صراع البقاء( لي) والفناء للآخر,وبكل أسف لازال يرخي بغريزته على المسار الإنساني , فالأخلاق بما هي مجموعة ضوابط لعلاقة الأفراد هي أساس التعامل مع الآخر , وهنا ضمناً يأتي مفهوم ” حرية التعبير ” ودلالاته واستعمالاته وأهدافه وارتباطه الوثيق بالحرية , فلا أحد يشك بحاجة السكين لتسهيل الحياة اليومية للإنسان ولا أحد يشك أيضاً بأنه هناك فرداً شاذاً أو معوقاً عقلياً وإنسانياً يستخدمها في جرح الآخر وأحياناً في جرح نفسه, بتكثيف الأمر إن حرية التعبير من الناحية المنهجية هي المحرك الأساسي لتطور المفاهيم والثقافات والسلوكيات نحو المزيد من التماسك الإنساني ,والقطع مع الخصومة والانعزال ووهم اختلاف القيمة والصفاء وتمايزها بين الناس , وحرية التعبير في غايتها الأساسية هي النقد الموضوعي في مساحة المجموع, المساحة التي تحددها حرية الإيمان والمعتقد والرأي والآخر ,بما هي رؤى دينية وفكرية واجتماعية لدى الفرد والشعوب .
ومروراً بالرسوم المسيئة للرسول الكريم (ص) وكتاب سلمان رشدي ” آيات شيطانية” , والقاسم المشترك الخطير بينهما وهو التعرض لأقدس رمز عند المسلمين مع الفرق الكبير بطريقة العرض تلك , بين رسم كاريكاتوري وهمي وبين عمل روائي ,وكلاهما مثّل عمل طائش ضد الإسلام والمسلمين ,ونرى أنه لايمت إلى حرية الرأي والتعبير والنقد العلمي الموضوعي بصلة, والرسوم لا نراها تعبر عن شيء سوى الاستفزاز ,ولن تصل إلى شيء سوى تغذية الكراهية والتطرف وتوفير حطب الحروب العبثية,وفي شكلها وبعدها العام ليست رأياً ولا تعبيراً بل تشهيراً بكل ما تعنيه الكلمة من ازدراء , وهي النسخة الغريزية التي تتقوقع في فهم أن الآخر هو خصم يجب تسفيهه وتسفيه مقدساته وعقيدته , وتناولها بطريقة السخرية والاستهزاء هو بالضد من قيم “حرية التعبير” بل هو فعل صارخ من التشهير بآراء الآخرين , ونكوصاً أو انحداراً عن التعبير النزيه الذي يفرض النقد النزيه بشكله وأسلوبه وصورته ومحتواه وهدفه واتجاهه , باختصار هي ضربة في صميم شرعة حقوق الإنسان .
فالرسول محمد (ص) الحقيقي التاريخي هو ذاكرة أمة وهويتها وتاريخها وحضارتها,وقبلها من أعظم عظماء الإنسانية في الصدق والأخلاق والاجتماع والقانون واحترام الآخر,ومنحى علاقته مع أهل الكتاب هو المنارة في التاريخ الإنساني التي تضيء فضاء العلاقة مع الآخر , وبعدها هو نبع التوازن الروحي الأممي التاريخي بين الأعراق والثقافات والحضارات , ولاشك أن ما هو موجود من صورة الرسول الكريم (ص) في أذهان المسلمين قبل غيرهم ومعهم عقول أصولية ذات بعداً واحداً هو بعيداً جداً عن حقيقة محمد (ص) ورسالته المجسمة الأبعاد ,والتي يصر بعض المسلمون الحاليون وكل الأصوليون الكفرة والمؤمنون على حرفها وتحريفها وتحويلها إلى صناعة المحارق والعنف والكراهية, فالناقد الملم بالتاريخ والثقافات والحضارات والمرتكز إلى الأخلاق العامة الإنسانية لا يقع في مثل هذا الانحراف المنهجي في تقييم الأمور , وعملية فهم الإسلام من خلال مظاهر العنف والتطرف التي تلصق فيه هو معالجة سطحية قاصرة عن فهم حقيقته أولاً ,و وعمل استفزازي بامتياز ثانياً , وتصور مشوه عن وعي مراحله التاريخية ثالثاً , ونقص في مستوى منهجية التعبير عن الرأي رابعاً ,وأقرب إلى التسفيه والموقف السياسي الأصولي منه إلى حرية التعبير والرأي الحر المنهجي العلمي الموضوعي المجرد خامساً , ويعكس الفهم الموجه والإسقاطي على التاريخ والحاضر والآخر كفرد وثقافة وشعب سادساً , ولا يفهم أن الإسلام فوق النقد , أبداً على الإطلاق , بل هذا ما يحتاجه بقوة ,وهذه هي مهمة المتنورين من المسلمين بقدر ما هي مهمة كل المستشرقين النزيهين , مهمة قراءة التاريخ الإسلامي بمنهجية علمية محايدة , أي التزام منهج النقد البناء القائم على أرضية نزيهة وهدف نبيل في محاولة لتكبير معامل حوار الثقافات والحضارات ,وتصغير معامل الانحراف الإنساني في التاريخ البشري
5
يبقى رد الفعل الذي جاء على الرسوم ليس مفاجأة , إنه من طبيعة وجنس الفعل نفسه , نفسه لدى الفاعل بما هو محاولة سياسية مقصودة ومدفوعة فجة جداً لإحداث مزيداً من الاضطراب والتباعد والكراهية في العلاقات بين الشعوب والحضارات, وفعل غير مسؤول نتيجته المباشرة هي الاستمرار بتوجيه التاريخ البشري نحو الانكسار , ونفسه لدى من ردوا على الفعل بهمجية ونفاقاً مدفوعاً هو الآخر من الأنظمة السياسية في بعض الدول الإسلامية التي تسجن فيها الحرية والتعبير صباح مساء , وكلا الفعلين هما من صنع الغريزة نفسها , فالفعل ورد الفعل من نفس الصنف لكن من مواقع مختلفة فهو لدى الفاعل من موقع التهكم المدروس الذي يغطى بحرية التعبير عن الرأي لكن له مقاصد أخرى ليست غائبة , وهو لدى رد الفعل دفاعاً ضعيفاً وغوغائياً لايجدي بل يزيد سكب الزيت على نار الكراهية المشتعلة باضطراد , والخطورة كلها هي الإصرار والعناد على المشي في هذا الطريق الغريزي إلى الهاوية المشتركة . فمن العبثية التعامل التفاضلي بين صور العنف والتطرف ودينه ومكانه وأبطاله هنا وهناك , لامكان للتفاضل على الاطلاق فهو مشتق من نفس المعادلة الغريزية الفردية وهو أساس وأس لها بنفس الوقت , من هنا ومن هذا التناقض تتولد كل بشاعات العنف والتطرف وصور الإرهاب الذي أراده البعض عنواناً لهذه المرحلة من تطور البشرية , ومعرفة الأساس والأس هي البداية لمعرفة المصدر والمنشأ والغاية ومن فرض هذا السرطان على الحياة الإنسانية المعاصرة , وعليه تكمن المشكلة في جذوره وليست في مظاهره , في سياسة يقررها ملوك رأس المال الاحتكاري العالمي اللذين احتكروا الثروة والسوق والغذاء والسلاح والتقنية وكل ذلك باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحداثة ,يستخدمونها في أبشع صورها ضد التكامل الإنساني بين الشعوب , فالاحتكار هو مصدر الشر والعنف والتطرف , احتكار السلطة الذي يولد ردود فعل معين ضدها ,واحتكار الحرص على النظام العام ومعه احتكار الخير والشر والثروة والرغيف الذي يولد هو الآخر مظاهر أخرى من الرد عليها , فالخطورة تكمن في أن النار والزيت في يد واحدة والباقي أصبح بتسلسل وقوداً لها .
ولاشك أن صور العنف والإرهاب المحلي منه والمستورد والذي نرفضه ونقف ضده جملةًً وتفصيلاً أياً كان مكانه ومصدره وشكله وتبريره , فهو كله بلا دين ولاضمير ولاهدف سوى التدمير والخراب النفسي والمادي لدى الجميع , وبهذا الصدد لا نعتقد أن التطرف والعنف الذي يشهده العالم الإسلامي هو أغرب من العنف الذي ساد أوربا قبل التنوير , لكن خطورته هي الفرق بين حامليهما , الأول كان يعبر عن تناقض داخلي حامله التكامل والتنوير والحقوق مدنية والديمقراطية ,والثاني مصطنع كقناع وهمي إسقاطي سياسي حامله الاحتلال والصراع والتمزيق والظلامية وسرقة حقوق الآخرين وحتى حياتهم , فأي حرية تعبير سوى المعاناة والفقر واليأس والموت تقريباً في كل العالم الإسلامي , فمن نافل القول إن عملية التنمية الإنسانية أساسها الرأي النزيه والنقد العلمي المنهجي القائم على البناء , وليس التهكم ونزعة التسفيه والهدم والإلغاء .
والخلاصة يمكن تكثيفها في مستويين, الأول متعلق بالمسلمين أنفسهم وبواقعهم الحالي , والثاني متعلق بالموقف الخارجي منهم , فعلى المستوى الأول نقول بوضوح أن مقدمات المشكلة وأبعادها هي في الوضع المتخلف الذي يصف حالهم وسببه المباشر هو داخلي يتمثل في عاهتين خطيرتين ,الأولى هي طغيان أنظمة حكم سياسية فردية أمية ديكتاتورية هجينة غوغائية متخلفة لاتفقه شيء غير ممارسة الاقصاء والعنف والنهب والإفقار والعجز عن تحقيق حد أدنى من التنمية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وتطوير المنظومة الحقوقية والمدنية والانسانية ,وهدر الثروة الوطنية المادية والبشرية وامتهان كرامة شعوبها وكسر إرادتها ,أنظمة متهالكة تعاني من فصام سياسي وطني قومي مظهره خطاب سياسي كاذب متناقض كلياً مع واقع الشعوب وحاجاتها وضرورات تقدمها وتطورها على مستوى الداخل من جهة , والتبعية الكاملة للخارج الذي يوفر لها الغطاء والحماية من جهة أخرى , والحال كذلك كانت تلك الأنظمة هي الحاضنة الرئيسية للتخلف والفقر والتطرف بكافة أشكاله وألوانه .
والعاهة الثانية هي غياب المرجعية الدينية الجامعة الواقعية المتنورة الحديثة ,الأمر الذي فتح الأبواب كلها أمام فتاوى فردية جزئية ثانوية مظهرية غير دقيقة وغير مدروسة وفي غير سياقها الديني والدنيوي الاجتماعي والزمني وأحياناً مقصودة تصب في محصلتها العامة في إظهار وجه متطرف متخلف خرافي وهمي لايمت إلى الاسلام وحقيقته ومظاهر الحياة الحديثة بصلة , ولاشك أن حالة التخلف والظلم والفقر واليأس التي تعيشها الشعوب الإسلامية هي التي أفرزت بدورها الاضطراب والتشتت والتشبث الرخو الحنيني الخيالي بالماضي , وأخطر من ذلك تمظهرها في تبعية ذهنية مقلدة مكررة غير مستوعبة للفرق الإحداثي الزمني التاريخي بين الماضي والحاضر , مما جعلها خوفاً وعجزاً تلغي النقد والتفكير والبحث العلمي الموضوعي عن حل لأزماتهم ,فراوحوا بعجز مهين بين حدين تاريخيين هما الماضي حيث قوتهم التاريخية الكامنة والحداثة حيث ضعفهم التاريخي الواضح , فالخروج من ثنائية الماضي والحداثة لايتم سوى عبر الصراحة العلمية في نقد التراث وإعادة فرز وهيكلة عتاد العقل الإسلامي , وتجديده وممارسته بشكل يتسق مع ماضيه الحي ويؤهله للاندماج مع العصر ,ولاخيار في ذلك سوى المبادرة إلى إحكام النقد ودور العقل وتجديد نظرته إلى الاسلام وتعشيقها مع حركة التاريخ من جديد , أو الافتراق والتحلل في مرجعيات العصر الحديث التي تتسع الهوة المادية والتقنية والحضارية معها ,وخرجت عن دائرة السيطرة والمواجهة والاحتواء ,وغدت عنوان عريض لصراع عولمي متعدد الأمكنة والمستويات والأشكال .
الرأي والتعبير …والحرية
6
على المستوى الثاني المتمثل في الموقف الخارجي من العرب والمسلمين يجب القول بصريح العبارة أيضاً , وفي حدود حرية الرأي والتعبير لايمكن فصل الهدف عن الهادف ولا الشكل عن الأسلوب ولا الفكرة عن الموضوع ولا الرأي عن السبب والقصد ولا الوسيلة عن الغاية , نلاحظ هنا حشر أو خلط متعمد بين رأي معرفي نزيه مطلوب هدفه الحقيقة, وبين استخدام سياسي تهكمي أهوج يخدم حالة معينة وقولبتهم في مستوى واحد , والحال كذلك يكون التعبير كما في الأخير مأسوراً في قطر دائرة الصراع الغريزي المغلقة وإفرازاً لها , ولايمكن والحال كذلك أن يكون نزيهاً ومفيداً سوى بالخروج منها, ولاشك أن بروز مثل تلك الظواهر ليس غريباً في ظل تعطيل أو تأجيل العمل بالقيم الديمقراطية وشرعة حقوق الإنسان والقانون الدولي ,وهو عمل غير مشروع وغير مبرر وليس هناك من سبب في العالم يستدعي التراجع الإنساني وتهميش قيم التنوير والحرية والقانون والمساواة ,بل يجب الاصرار على التمسك واتباع الطرق والوسائل المشروعة إنسانياً لحل كافة استعصاءات النظام العالمي التي تتكثف بشكل مقصود في ثنائية متناقضة متنافرة , أي في صراع الخير والشر أو النهاية والبداية , أهي مرحلة أحياء العصبيات على المستوى الإنساني من جديد وفرضها عنواناً للقرن الحادي والعشرين ؟!.
باختصار القول ومباشرته : إن الازدواجية والانتقائية في ممارسة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وتطبيق القانون من جهة , وشيوع ممارسة الظلم والصمت عليه من جهة أخرى ,هي السبب وراء حالات الخلل والاضطراب في العلاقات الدولية, وهي التي فتحت الأبواب لشياطين الغريزة لتطفو على السطح , تقود وتوجه التعبير والرأي العام باتجاه خدمة أهدافها السياسية البعيدة كل البعد عن القيم والأخلاق والقانون الدولي , ولاشك بأن المرجعية الحديثة التي تمثلها الديمقراطيات الغربية هي المهيمنة ,ولا شك أيضاً في جدواها على المستوى الإنساني , لكن في وقوع بعضها لعبة في يد اليمين المتطرف وتجار السياسة والاحتكار فقدت بعض اتساقها الإنساني ,فهي كما الحداثة الحالية تعاني خللاً حضارياً وإنسانياً يتمثل في موقفها من الآخر, وتحديداً من الأقليات الحديثة المتزايدة في صفوفها ومنهم العرب والمسلمين .
هنا يجب فهم الأمر بعمقه المعرفي الثقافي الإنساني الحضاري التاريخي , فالاتساق أو عدمه هو ليس إشكالاً دينياً أو معرفياً أو ثقافياً , بل هو خللاً واضطراباً بوسائل وتجليات المرجعية المهيمنة ( الديمقراطيات الغربية ) التي تبني الوعي وتعيد إنتاجه من جديد ,أي هي مشكلة أدواتية سياسية قانونية مدنية تتعلق بالموقف من الآخر كفرد وشعب وثقافة من جهة , وبنجاعة سياسة التكامل والإندماج المعمول بها من جهة ثانية , وفي إطار الحسم نرى ضرورة اعتماد المقاربات المرنة للمعالجة والخروج من وباء الكراهية ورفض الآخر , اعتماد برامج يضعها خبراء علم النفس والحضارات والثقافات والأديان ,وفلاسفة اجتماعيين وديمقراطيين حقيقيين يؤمنون بالتعددية الدينية والعرقية والثقافية , متنورين ومتحررين من الروابط العصبية الضيقة في المكان والزمان , وليس سياسيون موظفون يمثلون الواجهة الحقيقية لأدوات صراع رأس المال الاحتكاري المباشر مع قيم المدنية الحديثة الإنسانية .
هل في وسع الجميع البدء في مرحلة تأسيس جديدة ؟! أم أن الأمر في عصر السرعة اصبح استهلاكياً في كافة تجلياته وخرج عن هذا السياق ؟! نوع الإجابة ومستواها ,وحدها تحدد شكل المخرج أو الغوص أكثر في المأزق التاريخي ..!.
في محاولة الإجابة نرى أن ماأفرزه التطور السياسي تحديداً خلال العقود الأخيرة المنصرمة وخاصة ً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وظهور راديكالية متطرفة جداً بدلت مواقعها من اليسار إلى اليمين ووصلت إلى دوائر رسم السياسات وصنع القرار في الغرب , هي التي أسست لمايشهده العالم اليوم من مآزق واستعصاءات ,أوضح ملامحها هي وصم المرحلة الحالية عنوةً بصراع الحضارات وفي مباشرتها صراع الأديان سواءً على المستوى الداخلي في المذاهب المسيحية والإسلامية نفسها ,أو بشكل بيني بين المسيحية والاسلام , وفي هذا الطريق تراجعاً وتردياً واضحاً عن قيم التنوير , وأشبه بتدوير المسألة الدينية وإثارتها من جديد وجعلها عنواناً بديلاً لقيم العقلانية والديمقراطية وحقوق الإنسان , أي نقض المنجزات الفكرية والثقافية والسياسية التي أفرزتها مرحلة التنوير, إنها باختصار مرحلة الالتفاف على الحداثة وقيمها ومعاييرها , إنها في العمق مشكلة عالمية ساحتها المباشرة اليوم هي الشرق الأوسط لكنها متمددة باستمرار وليست متوقفة هناك ,وعليه إن معالجتها هي مهمة عالمية إنسانية , الجميع معني بالاشتراك للإجابة عليها وتخليص الإنسانية من أخطر مراحلها .
واستطراداً إن حرية الرأي والتعبير الهادفة يجب أن تأخذ مداها الكامل الجريء من موقع احترام الآخر ,وهذا ماتحتاجه حالة العالم اليوم بقوة بدون تحريفات وتحديدات تلغي دورها, وأن تكون أي حرية التعبير منطلقة من هدف نزيه ومعبر عنها بسلوك إيجابي متسامح حضاري مسؤول , وليس ممارستها تحت غطاء الكراهية والتسفيه ,فالاختلاف بين الأفراد والشعوب والثقافات هو في أهم صوره يمثل جدل الحياة وصيرورتها وحريتها وتقدمها فالعبودية وحدها تفرض التماثل , هنا يجب التأشير بصراحة بأن مايجري من تعميم مظاهر البؤس والسلبية والفعل ورده غير المنسجم مع التطور الإنساني ,خاصةً مع تغول وتردي إدارة الآلة الإعلامية السريعة التي تضخ سمومها على مدار الساعة والتي تغلب عليها الدعاية وتوليف الرأي العام على إنتاج التعصب والكراهية والفوضى ,هو توظيف غير أخلاقي ومؤذي ومتناقض مع قيم التسامح والعصر التي دفعت البشرية ثمناً غالياً لها , فتوحيد العالم حول عقيدة واحدة غير ممكن من جهة ,وهو مشروع للتعصب بامتياز من جهة أخرى , أهي مرحلة التبشير بنهاية التاريخ الإنساني ؟! واستمراره بشكل آخر ومحتوى آخر وأدوات وقيم ومعاييرأخرى ؟! .
فالتاريخ الإنساني يتوقف عن التقدم وينحدر ” إذا وفقط إذا ” شهد انكساراً حاداً في مساره الإنساني , ومقدمته هي استمرار مشروع الكراهية بدون رادع والذي بدت مظاهره تنذر الشعوب بوضوح وقلق بالغين, وعليه إن عالم اليوم يحتاج إلى رؤى وآراء تمثل معززات إيجابية للتكامل والتسامح والاحترام والعيش المشترك, وصياغة مستقبلاً إنسانياً واحداً أصبح واقعاً لامفر منه أو فناءً مشتركاً وشيكاً لامهرباً منه , والحال هذا فإن التكامل الإنساني لايحتاج إلى محترفي نبش عقد ومقابرالتاريخ ومحارقه , بل يحتاج إلى نقيضه تماماً ,هنا تفرض الضرورة الأم نفسها وهي الحاجة إلى اختراع إنساني جديد أو المشي بهذا الطريق في أضعف الأحوال , بحاجة إلى مهندسين إنسانيين متنورين في تصميم السلوك وحرية الرأي والثقافة والعلاقات الحضارية بين الأمم والشعوب قبل فوات الأوان !.
د.نصر حسن