أيام عسر الإسلام السياسي: أيام يُسر الوفاق الوطني؟
عبد الاله بلقزيز
طرأت على مشهد الصراع بين السلطة والاسلاميين متغيرات عدة في معظم البلدان العربية التي عاشت على التقاطب الاجتماعي والسياسي بين هاتين القوتين طوال العقد الحالي وبعض سنوات العقد الماضي. وقد يكون اهم تلك المتغيرات جميعا خفوت حدة الاقتتال في امتداد قرارات متعاقبة بوقف العمل المسلح، اتخذتها فصائل سياسية اسلامية، وتعاظم مشاركة التيار الاسلامي في الحياة السياسية وفي المؤسسات بعد حقبة من الرفض العقائدي لشرعيتها.
وقد يكون المثير في الصورة ان تراجع الحركات الاسلامية عن العنف، واختيار معظمها العمل السياسي الشرعي، جرى دون ان تكون السلطة قد أبدت اي نوع من التنازلات في التعاطي مع وجود التيار الاسلامي! وهذا اذا كان يشجع بعضا على الاعتقاد بنجاج سياسة الاستئصال ومواجهة الارهاب بلا هوادة، فانه يشجع بعضا آخر على الاعتقاد بواقعية التيار الاسلامي، وحرصه على عدم فقدان قدرته على التواصل مع جمهوره، وهو عريض، باختيارات انتحارية تنوب فيها الميليشيات عن الناس، فيخسر فيها التيار اياه جنده وشعبه معاً!
والواقع الذي يدركه كل مهتم بملف الصراع بين الاسلاميين والنخب الحاكمة العربية، ان الميل نحو العمل باستراتيجية سياسية سلمية ليس جديدا في اوساط التيار الاسلامي، فقبل ان تتخذ “الجماعة الاسلامية” في مصر، و”جيش الانقاذ الاسلامي” في الجزائر قرارا بوقف عملياتها المسلحة ضد الدولة ومصالحها، وقبل ان تعلن حركة “حماس” – في الماضي – عن سياستها بعدم الاحتكاك مع السلطة الفلسطينية والانجرار الى اقتتال اهلي… كان قسم كبير من الحركة الاسلامية قد كرّس استراتيجية العمل السياسي السلمي، منذ حركة “الاخوان المسلمين” في مصر – اوائل السبعينات – الى “حركة الاتجاه الاسلامي” فـ”النهضة” في تونس، خلال الثمانينات، وصولا الى الحركات الاسلامية في المغرب، والاردن ولبنان واليمن.
بل حتى الحركات التي لجأت الى العنف – مثل “الجبهة الاسلامية للانقاذ” في الجزائر – بدأت سيرتها السياسية بالاختيار السلمي الديموقراطي قبل ان تُحْشر في الزاوية الاضيق، وتُدفع دفعاً الى حمل السلاح في وجه السلطة. واذا أضيف الى ذلك كله ان التيارات الاسلامية الأفعل في ساحة المواجهة – مثل “حزب الله” و”حماس” و”الجهاد الاسلامي” – اعطت الاولوية الاستراتيجية والبرنامجية للتحرير على التغيير، اي للقضية الوطنية على قضية السلطة، اجتمعت القرائن كافة للاعتقاد بأننا على اعتاب حقبة جديدة – في الصراع السياسي الداخلي – لن تكون فيها الكلمة للرصاصة، بل للرأي والحجة. ولا ينال من هذا الاعتقاد في شيء أن تستمر اعمال عنف متفرقة هنا او هناك (كما في الصعيد المصري او بعض الجزائر) ذلك ان القوى الاسلامية الرئيسية اختارت وضع سلاحها جانبا، بل ورفع الغطاء الشرعي عن بندقية قطاع الطرق، من مأجورين، ومهووسين ممن لا قضية لهم الا صناعة الموت!
لقائل أن يقول ان تراجع “حركات الجهاد” عن العنف ليس خيارا استراتيجيا، بل هو تكتيكي نابع من شعورها بالاخفاق نتيجة ما كيل لها من ضربات امنية موجعة. ومع انه لا يمكن المرء ان يجحد بعض عناصر ودواعي هذا التفسير، بالنظر الى فاعلية اجراءات القمع التي اصابت هذه الحركات في بناها التحتية التنظيمية وفي قاعدتها السياسية، و – أحياناً – في العمود الفقري لبعضها، إلاّ انه ليس وارداً – في باب التحليل السياسي – الاعتداد بالنيات، فالشيوعيون – ايضا – يعملون بنية تطبيق الاشتراكية في الاقتصاد، واحتكار الحكم عملاً بالنظرية البلشفية في السلطة؛ ومع ذلك فانهم يشاركون في الحياة السياسية اليوم، ويدخلون
الى البرلمان، ويُحجبون عن ممارسة العنف.
ولو فتحنا باب النيات في السياسة، لما كانت هناك سياسة ولا عمل سياسي اصلاً! والى هذا كله نضيف ان اهمية هذه الهدنة السلمية التي اختارها الاسلاميون – بقرارهم وقف العمل المسلح وتعزيز المشاركة في الحياة السياسية – لا تكمن في انها خيار استراتيجي، كما لا ينتقص منها انها خيار تكتيكي اضطراري، بل اهميتها في انها تحقن الدماء أولاً، وتعطي خيار السلم الاهلي والمصالحة الوطنية فرصة تاريخية ثانياً، وتحرّر السياسة من اعباء الغرائزية المتوحشة لتعيد تعريفها بصفتها منافسة سلمية نظيفة ثالثا. وفي الظن انها حقائق ليست هيّنة الشأن في حساب السياسة والاستقرار السياسي في مجتمعات شديدة الهشاشة في التركيب الاجتماعي، وشديدة الحساسية في الصراع السياسي.
ثمة – في الصورة – مسألة جديرة بالتنبيه: ان القول بأن قرارات وقف العنف تفتح الباب امام حقبة سياسية جديدة في البلاد العربية، لا ينتمي الى اسلوب التسويق التبشيري، بل هو يحاول – بحسّ مقارن – ان يستشرف مستقبلاً مبهماً من حصيدة واقع فاقع. لكنه يتسلح – في الوقت نفسه – بتحوطات مشروعة تبررها ملاحظة ظاهرة عدم استجابة القرار الرسمي العربي لادارة الهدنة التي عبّرت عنها مواقف المعارضة الاسلامية! فالخشية من ان تدفع حال عدم الاستجابة الرسمية تلك الى اعادة الاسلاميين النظر في اختيارهم السلمي!
لقد جنح الاسلاميون الى السلم، فلتجنح لها السلطة لتنتهي هذه
الكربلاء الطويلة التي أكلت الدولة والمجتمع.
(كاتب مغربي)