عَن الدّين والفتنَة
محمد بنيـس
انفجرت هذه الأيام في المغرب، على حين غرة، قضيتان تتعلقان بالعقيدة الدينية. التشيّع والتنْصير. كانت قضية التشيّع هي الأولى التي تم تقديمُها للرأي العام بما هي خطرٌ على النزعة السّنية للمغاربة عبر التاريخ. خطرٌ على وحدتهم وتماسكهم. ثم جاء التنصير الذي تقوم به جماعةٌ من المبشرين، القادمين من خارج المغرب، ضداً على الإسلام الذي تشبث به المغاربة عبر تاريخهم. حركة التنصير هي الأخرى أصبحت قضيةً تمس الثوابت المغربية التي تضمن للمغاربة وحدتهم وتماسكهم. والقضيتان معا تدخلان ضمن منطق الفتنة، التي تفتت المجتمع وتؤدي به إلى الهلاك.
القضيتان تتصلان بالعقيدة الدينـية. وهما، في جميع الأحوال، ليستا جديدتين في حد ذاتهما. فللتشيّع تاريخٌ في المغرب، قديم وحديث، وللتنصير تاريخٌ هو الآخر، يعود إلى ما قبل الاستقلال، على الأقل. وما أثارني هو عدمُ سماع صوت المثقفين المغاربة، المدافعين عن التحديث. فهم برأيي أول منْ يجب أن يضيءَ لنا الوجه الخفيّ للقضيتين معاً. من خلالهم يمكن للمغاربة أن يتعرفوا على أفكار جديدة تتناول مفاهيمَ الثوابت والوحدة والتاريخ، بقدر ما تتناول مفاهيم الحرية والتعدد والاختلاف. ما قرأته وتتبعته هو صوتُ الفقهاء والمدافعين عن الإسلام السني في المغرب، أو صوت المؤسسات الدينية المسيحية المقيمة في المغرب. فالأولون أيّدوا الموقف الرسمي وسلوكه واعتبروه السلوكَ الصحيح، بدون أي إحالة على القانون والقضاء ليكون الفاصل، والآخرون أوْضحوا حدودَ ممارسة شعائرهم واحترامَهم لعقيدة المغاربة، التي يحرصون على التعامل معها كتكامُل في الاعتقاد وكطرف يسمح بالحوار في قضايا العقيدة والتوحيد.
كل من له اطلاعٌ على تاريخ المغرب منذ الفتح الإسلامي، أو على تاريخ الصراع بين المغرب والأجنبي، بعد سقوط الأندلس، أو تاريخ الإصلاح الديني في المغرب مع بداية الحركة الوهابية حتى اليوم، يمكن أن يفهم ما الذي تعنيه هاتان القضيتان، اليوم. لا أجادل هذا الطرف ولا ذاك. ولا أتكلم باسم الموقف الرسمي ولا ضده. ولا أخوض في تغيّرات السياسة الرسمية تجاه تعاملها مع الدين عموماً. ما يهمني يوجد في مكان آخر.
انفجرت القضيتان معاً باسم الدفاع عن وحدة المغاربة وعن الثوابت المغربية عبر التاريخ. يأتي ذلك ليؤكد من جديد أنّ الدينَ، من خلال الإسلام السُّني تحديداً، هو الأسبق في وحدة المغاربة، لا في القديم فقط، بل في الحديث أيضاً، أي في زمن أصبح المغرب يتوجه نحو التحديث.
عندما ننظر إلى التحديث في الغرب نراه يعتمد اللغة بدلاً من الدين، في اعتماد وحدة المجتمع.
ففي كل بلد من بلدان الغرب تتنوعُ وتتعددُ العقائد الدينية مثلما يشيع الإلحادُ وتعبّر الوثنياتُ عن نفسها بكل حرية. فالعقيدة الدينية (أو اللادينية) تعودُ للأفراد، حتى في الحالات التي تكون الأغلبية الدينية للمجتمع مشكّلة من المسيحيين الكاثوليك أو البروتيستانت أو الأرثودوكس. وفي بلدان عربية، في الشرق الأوسط، تألف المجتمع، عبر التاريخ، من مسلمين ومسيحيين ويهود، ضمن وحدة البلد. لذلك قامت الحركة القومية العربية على اعتماد اللغة لا الدين كمصدر أول للوحدة بين العرب.
هذا المفهوم للوحدة العربية عانينا من مآسي جانب منه ولا نزال. ولا فائدة في الرجوع إلى إثارته، على مستوى المناطق أو التكوين التاريخي والاجتماعي والعرقي والثقافي في البلاد العربية، مشرقاً ومغرباً، بدون تمييز. فما يهم هو الانتقال إلى ما نحنُ فيه، مفيدين من تراكم الأفكار النقدية والدفع بها إلى ما يفتح الأفق. فليس لنا من الوقت ما نضيع في إثارة ما تمّ الوصول بشأنه إلى خُلاصات أصبحت متداولة وصالحة، لحد الساعة، في معرفة الأوضاع المركّبة للمجتمعات العربية وتاريخها، ومن ضمنها المغرب.
على أن هذا كله يسمح لي، من جديد، أن أطرح بعض الأسئلة: ما السبب الذي يجعل الخطاب الرسمي المغربي يستمر في اعتبار الدين أسبقَ من اللغة في توحيد المغاربة في العصر التحديث؟ لمَ لا ينظر الخطاب الرسمي المغربي إلى اللغة بما هي عنصر من عناصر الوحدة؟ وكيف يتبنى التحديث دون أن يتبنى لغة وطنية؟ هذه الأسئلة الأولية يمليها الانشغالُ بالحديث، ويصبح لها معنى أوسع، في هذه الظرفية الخاصة بإثارة الخطاب الرسمي وجهة نطره في تجنب الفتنة بالدفاع عن وحدة المغاربة والتزامهم بالثوابت الموروثة عبر التاريخ. وهي تؤدي إلى طرح أسئلة من درجة ثانية: لماذا يتبنى المغرب، باختيار واضح منه، الفرانكوفونية لغة الإدارة والاقتصاد والتجارة وقسط عريض من التعليم والإعلام؟ كيف لا يقال عن الفرانكوفونية إنها مهددة لوحدة المغاربة رغم أنها لم تكن في القديم من ثوابت المغاربة؟
لماذا يترك المغرب المجال مفتوحاً لتعليم خصوصي تتكاثر (ولا تتعدد) لغاته الأساسية، من فرنسية وإنكليزية وإسبانية وإيطالية؟ ثم لماذا لا يرى في النموذج الأجنبي الذي تسير وفقه جميعُ هذه الأصناف تهديداً لوحدة المغاربة وثوابتهم التاريخية؟
هي أسئلة حضرتني وأنا أتتبع مشاهد الموقف المانع في المغرب لكل من التشيّع والتنصير. وإذا كانت هناك بعضُ اللحظات في التاريخ تسمح بطرح ومناقشة قضايا كبرى تدلّ على خطوط المستقبل، فما الذي يمنع من أن تكون للمثقفين كلمتهم، اليوم، في موضوع كهذا؟
ولماذا يتركون الفقهاء يتكلمون وحدهم في قضايا لا تعنيهم وحدهم؟ ومن غيرُ المثقفين قادرٌ على مدّ المجتمع برؤية أعمق للأفكار وللعلائق المتشعبة بين عناصر تكوين المجتمع والتاريخ والسلطة؟ وبالتالي من غيرُهمْ يمكن أن يسأل بوضوح: أيّ فتنة؟
تصيبني هذه الأسئلة بحمَمها. وهي لا تتوقف عن مواجهتي كلما حاولت الإفلات منها. لا تتوقف لأنها تعرضُ لي الدور الاستثنائي للمثقفين في المجتمعات الحديثة، في كل مكان من العالم، وهم يُعيدون صياغة الرؤيات والمساهمة في تقديم تصورات مختلفة، نقدية، لها الجرأة على الانتقال من زمن المسلمات إلى زمن الشك فيها وتفكيكها من جديد، في أفق بناء مستقبل الحرية.
القدس العربي