صفحات العالم

معجزة هندية

ساطع نور الدين
انها شهادة جديدة على ان الهند التي بُنيت على الاساطير ما زالت تصنع المعجزات.
ففي واحد من اكبر واهم واغرب الطقوس السياسية في تاريخ البشرية، بدأ نحو ثلاثة ارباع مليار انسان من بلد واحد في التوجه امس الى مراكز الاقتراع لممارسة حقهم الانتخابي. وهو عدد يوازي مجموع الناخبين في بقية بلدان العالم التي تعتمد انظمة ديموقراطية حقيقية، ويفوق مجموع الطامحين الى اعتماد مثل هذه الانظمة، او السائرين نحوها.
منذ سنوات عديدة، توقفت الهند عن اجراء احصاء دقيق لعدد سكانها، او لعلها اهملت القيام بمثل هذه الخطوة الضرورية لاي عملية سياسية. يعرف الهنود انهم تجاوزوا المليار نسمة . ثمة من يقول ان المجموع لا يربو على المليار ومئة مليون، وثمة من يدفع الرقم حاليا الى ما يزيد على مليار و350 مليون نسمة. وهو رقم يفوق عدد سكان الصين ببضع مئات من الملايين. لكن المهم ان هذه الكتلة البشرية الهائلة تمثل شعبا واحدا في دولة واحدة وفي نظام سياسي موحد، يقدم الان دليلا جديدا على ثباته واستقراره.
منذ ان نالت استقلالها من المستعمر البريطاني في اربعينيات القرن الماضي في ثورة شعبية سلمية نموذجية، لم تكف الهند يوما عن تقديم المثال للكثير من دول العالم الثالث، التي لا تختلف في معظمها عن تلك الدولة الشديدة التنوع العرقي والديني والاجتماعي، ولم تتوقف عن تحدي العالم المتقدم الذي كان يفترض ان تلك الدولة الهائلة الحجم السكاني والجغرافي، والتي ولدت ممزقة، لن تستطيع الاستمرار من دون مستعمر او مرشد اجنبي، ولن تستحق الانضمام الى اسرة الامم الحديثة… مثلها مثل الدولتين اللتين انقسمتا عنها اي باكستان وبنغلادش.
كانت ديموقراطية الهند صنيعة الهنود انفسهم. لم يجر استيرادها من الخارج، ولا استنساخها من المحتل البريطاني السابق. كانت الاكتشاف السياسي الاول الذي توصل اليه بطل الاستقلال المهاتما غاندي ورفاقه، والذي ترسخ مع الايام وتحول الى شرط حياة وبقاء في بلد كان اكثر من نصف سكانه يعيشون تحت خط الفقر او النبذ، وكان نصفهم الاخر مقسما على خطوط تكاد تختصر كل ما انتجته البشرية من اعراق واديان ومذاهب وفلسفات… لكنهم جميعا باتوا اليوم يعيشون في ظل اقتصاد يتقدم بمعدلات مثيرة، ويحتل المرتبة الخامسة او السادسة بين دول العالم الغنية.
ليست الهند مدينة فاضلة، ولا تبدو ديموقراطيتها مثالية. لكنها بحسب المعايير العالمية، تجربة ناجحة جدا، بل حتى انها خيالية بالنسبة الى دول العالم الثالث التي توقفت غالبيتها عن النمو والتطور منذ ان نالت الاستقلال من مستعمريها. هي تجربة رائدة في توجيه 750 مليون انسان نحو ذلك الصندوق السحري الذي سيخرج منه عند فرز الاصوات رجال ونساء يتولون مسؤولية ادارة دولة تثير الذهول والحسد، ولا سيما من بلدان تشعر انه عندما يستعد ناخبوها للتوجه الى مراكز الاقتراع، يقترب موعد الحرب الاهلية.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى