تحريض في محله
كلوفيس مقصود
في المقال الذي نشر الاحد الماضي بعنوان “من اجل قيام لبنان المثال” دعوت الى القيام بحملة متوازية لخطاب لا طائفي تمهيداً لمشاركة الاجيال اللبنانية الآتية واجتماعها في ظل نظام مدني بدل البقاء في المستنقع الطائفي، وبالتالي ليشكل تنوع لبنان بوصلة محتملة تساهم في نهضة عربية واعدة بدل تكريس صلاحية التعددية الطائفية التي تمعن في تعميم التفتيت الذي يؤول الى تفليت الغرائز وتفقد المجتمعات المدنية المناعة وبالتالي يُقعدها عن القيام بابسط مسؤوليات الحاكمية حيال الوحدة الوطنية وادارة متطلبات التنمية والرعاية الاجتماعية وتلبية مستلزمات الامن الوطني والأمان للمواطن.
لذا اعيد تأكيد الحاجة، التي تبدو اكثر الحاحاً يوماً بعد يوم، في الاسابيع التي تفصلنا عن الاستحقاق الانتخابي الى ان تستعجل هيئات المجتمع المدني كما فعلت في ذكرى 13 نيسان في طرح الخطاب اللاطائفي بإصرار تمهيداً اقله لتمكين مشاركة جيل من يبلغون الثمانية عشرة عاماً، والذين حرموا المشاركة في الانتخابات الراهنة، ولعل هذا من حظهم لانهم لن تمسهم لوثة الطائفية، وكذلك الجيل اللبناني الذي سيبلغ الثامنة عشرة في الانتخابات المقبلة.
ان الاصرار على ان تواكب المجتمعات المدنية والمؤسسات المهنية والنقابية واجيال لبنان الطالعة خلال الاسابيع الستة المقبلة الخطاب الطائفي الطاغي على العملية الانتخابية الراهنة يجب ان يقابله الخطاب المدني اللاطائفي والذي يعبر عن حيوية التنوع ورفضه القاطع للخطاب الذي يفرزه – ويا للعجب – تعريف لبنان بكونه اطاراً لتعددية الطوائف، وبالتالي “احزابها وتياراتها المتنافسة” وهذه تندرج – أو بالاحرى تعرّف بكونها عن اقتناع او عن اضطرار مرآة لهذه التعددية وتعيش بدورها وتتصرف في عوالم غريبة بعضها عن بعض على رغم “تحالفات هشة” لا تكاد تحصل حتى تندثر تحت وطأة المخاصصة التي تفرضها الحصص في ما بينها. واكثر من ذلك تعمم مفهوم التعددية الطوائفية في الاغتراب القائم في ما بينها الى درجة كاد ان يصبح لكل طائفة علاقات دولية مكنت العديد من الغاء الدور اللبناني عربياً ودولياً مما جعل المراهنة على الغير والارتهان الى الغير في التنافس على النفوذ من خلال تجمعاتنا الطائفية مما جعل لبنان عاجزاً عن السير في توجه موحد والتزام واضح ومسؤول، وبالتالي بات مجهضاً ما هو مؤهل لان يكون: “لبنان الرسالة”. وتكفي في هذا المجال اشارة الى التباينات الاقليمية والدولية التي تساهم في التحريض المتبادل الذي يربك بدوره الحضور الدولي للبنان، كما يربك الدولة حيث تحاول الطوائف التناتش في ما بينها، لاغية بالتالي الى حد كبير عناصر الاهلية والكفاية والمهنية باعتبارها الشروط الاولية لتبوؤ المواقع المطلوبة. ولكن في مقابل هذه الاوضاع التي تفرزها التعددية الطائفية والتي بدورها تعرّف لبنان “كإطار لتعدد طوائفه” بدل الوحدة الوطنية المنبثقة من كونه متنوعا في تركيبته وبالتالي لحمته كوطن، نرى ان الفترة التي تمتد الى 7 حزيران المقبل يجب ان تكون فرصة لاطلاق حملة تثقيفية سياسية مدنية تأخذ اشكالا عدة. والاهم ألا يستأثر الخطاب الطائفي، وإن تلطى بشعارات “مطلبية” او “قيمية” بل ان يكون الخطاب المقابل واضحا في اتجاه الغاء النظام الطائفي ويركز على اولويات حقوق الانسان، تفعيل طاقات المجتمع المدني، ربط حقوق الانسان بضرورة تلبية لحاجاته وبالتالي مكافحة الفقر، تجفيف مصادر الاذلال والتمييز وغيرها من المطالب المغيبة.
هذا الخطاب المقابل لا يعني بالضرورة مقاطعة الانتخابات الحالية، بل ان مهمة الخطاب المدني المقابل هي في المرحلة الحالية زرع بذور المواطنة للاجيال الآتية ورؤية للبنان متجدد وقادر بالتالي على مواجهة الاخطار لبنانيا وعربيا وأحد اشرس الاخطار التي تواجه لبنان والأمة العربية كشف عن انيابه اخيرا بتشكيل “الليكود” الحكومة مع “اسرائيل بيتنا” الذي يتزعمه أفيغدور ليبرمان. واسرائيل اليوم تدعو الى التمدد الاستيطاني باعتبارها دولة يهودية ولليهود فحسب. ودور لبنان في هذا الصدد ان يكون الرد الحضاري الواضح على العنصرية الاسرائيلية التي عبرت عن حقيقة خطرها، لا على النموذج اللبناني المحتمل بل على ما تنطوي عليه اسرائيل من خطر على الامن القومي العام وعلى النسيج الاجتماعي، بحيث يتفاقم الخطاب المذهبي والطائفي والعرقي الذي نشاهد الكثير من تجلياته في التقسيمات الطائفية والعرقية في العراق، وفي مفردات اتهام الحكومة المصرية بأن من يهددون امنها يلجأون الى “التشييع”، وهذا من شأنه افتعال ازمات للبنان وفلسطين ومصر هي في غنى عنها، وبالتالي تحرفنا جميعا عن الاستعداد للتكيف مع التطورات الحاصلة في مناطق العالم واحتمالات التعديلات – ان لم تكن التغييرات في سياسات ادارة الرئيس الاميركي باراك اوباما.
إن الخطاب المقابل المطلوب القيام به في شكل فوري ومدروس في مقابل الخطاب الفاقع او المتعمق في طائفيته هو المدرك ان التعبئة التي ندعو اليها يجب ان تشمل تسليط الاضواء الكاشفة على التطور الخطير المباشر الذي شكلته الحكومة الاسرائيلية الجديدة، بل ايضا التداعيات المفتعلة التي جاءت في اعقاب ازمة الخلاف بين “حزب الله” والحكومة المصرية والاضرار الفادحة التي جعلت شيمون بيريس رئيس دولة اسرائيل يقول: “يتقاتلون – اي العرب – من دوننا وهذا ايضا جيد، قاصدا كما قالت هآرتس في 16/4/2009 “ان هذه قضية لا تتعلق باسرائيل، وان اساسها يقبع في النزاع بين حزب الله ومصر”. واوردت افتتاحية هآرتس في اليوم نفسه ان “الرد الحازم من جانب مصر ضد شبكة التخريب يدل مرة اخرى أخرى على المصالح المشتركة التي تغذي علاقات السلام بين مصر واسرائيل الخ. كما تندرج تعليقات كثيرة من الصحف الاسرائيلية في خانة “الشماتة” مما يدفعنا الى مزيد من المطالبة، بل التحريض ربما على أن يرافق الخطاب اللاطائفي المقابل الذي نحض المجتمع المدني عليه، تركيز على الاخطار القائمة والمرشحة للتفاقم، والتي يشكلها التمادي الاسرائيلي في تهميش القضية الفلسطينية تمهيداً لالغائها من أولويات الاهتمامات الدولية، كما بيّن تعامل اسرائيل مع السناتور ميتشل المندوب الخاص للولايات المتحدة في ما يتعلق بصيغة “الدولتين”، وازالتها من الهموم المركزية للأمة العربية وفي مقدمها لبنان.
المهم أن تعطي مؤسسات المجتمع المدني أولوية لحملة التعبئة وتعميم الخطاب اللاطائفي وأن تكون سمة الاقناع والتنوير سائدة، وأن تكون في طليعة اهداف هذه الحملة توعية المجتمع اللبناني على ان الجيلين المقبلين لهما في ذمتنا ألا يبقيا سجناء عيب الطائفية وان يتمكنا من استعادة القدرة على صناعة التاريخ بدل البقاء ضحايا صناعة الغير لتاريخنا. من هذا المنظور تكمن الاهمية القصوى لضرورة قيام الخطاب المطلبي المبرمج والمتسم باحاطة للقضايا المصيرية لبنانياً وعربياً، والذي من شأنه اعداد الجيلين المقبلين على الاقل لاسترجاع البوصلة التي غيبتها الطائفية والمرجعية الموثوق بها والتي غيبتها… الطائفية ايضاً.
هذا تحد فرضته الآن… فلا مجال لأن تبقى مؤسسات المجتمعات المدنية في لبنان سجينة اللاحسم!
النهار