هل تستطيع سورية عقد السلام مع إسرائيل؟
جي. سكوت كاربنتر
ستطلب دمشق، في أي مفاوضات ناجحة مع إسرائيل تكون الولايات المتحدة وسيطتها، ضمانات بأن تخفف واشنطن من ضغوطها على النظام وربما بأن تسمح لسورية باستعادة سيطرتها على لبنان، لكن هذه الخطوة ستحدث مشاكل جمة في أميركا وسترسل بأسوأ رسالة ممكنة إلى شعوب المنطقة، خصوصاً اللبنانيين.
يعتقد مراقبون أميركيون وأوروبيون أن حكومة إسرائيل الجديدة ستسعى لعقد السلام مع دمشق في محاولة لجذب النظام السوري بعيداً عن طهران، كذلك يمنح المضي قدماً في المسار السوري إدارة أوباما منفذاً لطاقاتها التي تخصصها لصنع السلام، نظراً إلى التعطل المستمر في السياسات الفلسطينية، لكن الرئيس بشار الأسد نفى هذه الاحتمالات في قمة جامعة الدول العربية في الدوحة، واصفاً الجهود لعقد السلام مع إسرائيل بـ»العقيمة».
على الرغم من هذا الخطاب، يأمل مناصرو المسار السوري بأن تمسك دمشق المعزولة واليائسة اقتصادياً بغصن الزيتون، لتحدث بذلك إعادة تنظيم استراتيجية في المنطقة وفترة من الاستقرار النسبي. صحيح أن هذه أهداف تستحق الثناء، إلا أن السلام مع سورية يبقى بعيد الاحتمال لسبب رئيسي، ألا وهو: من دون إسرائيل كعدوة، يفقد نظام حكم الأقلية في سورية مبرره الوحيد للاحتفاظ بالسلطة.
خلفية الأحداث
بدأت السياسة السورية مسارها الراهن في عام 1948، حين حاولت دمشق وحلفاؤها العرب خنق دولة إسرائيل الحديثة الولادة في المهد، لكن هزيمة الجيش السوري أدت إلى انقلاب ناجح لـ»حزب البعث» في الثامن من مارس عام 1963. كذلك ساهمت خسارة عسكرية موجعة أخرى في عام 1967 في إيصال حافظ الأسد إلى السلطة في شهر نوفمبر عام 1970.
منذ البداية، اعتمد الأسد في سعيه إلى السلطة اعتماداً كبيراً على الضباط العلويين الأوفياء الموزعين في أسلحة الجيش وأجهزة الأمن المختلفة. حتى اليوم، لايزال العلويون، الذين يمثلون 12% فقط من الشعب، العمود الفقري للنظام البعثي الحاكم. داخل هذه الأقلية، تمتع آل الأسد بمزايا كبيرة جداً، خصوصاً منذ موت حافظ، ففي الوقت الراهن، تتحكم مجموعة صغيرة محيطة بالرئيس بشار الأسد بكل مفاتيح السلطة السياسية تقريباً وتحظى بنفوذ هائل في الاقتصاد.
بغية المحافظة على هيمنة هذه الأقلية، فرض النظام البعثي حالة الطوارئ منذ 46 سنة، مزوداً الدولة بمجموعة واسعة من الأدوات لمراقبة كل أساليب التواصل الاجتماعي والحد من حرية التعبير والاجتماع، فاستُخدم قانون الطوارئ، منذ إعلانه في عام 1962، كمبرر رئيسي للممارسات المستبدة وبالتالي صون نظام حكم الأسد، والأمثلة على ذلك كثيرة.
حماة
في عام 1982، تحدى مقاتلون من جماعة «الإخوان المسلمين» في حماة شرعية النظام، فسُحقوا بوحشية، وتذكر منظمة العفو الدولية أن ثلاثة أسابيع من القصف أودت بحياة ما يرواح عددهم بين 10 آلاف و25 ألف شخص، وقد زود قانون الطوارئ الغطاء القانوني لأفعال الحكومة، التي شملت التعذيب، وعمليات الإعدام الجماعي، والاستخدام المزعوم للغازات السامة، وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان المخيفة، وكما أشار حافظ في خطاب له عبر الإذاعة في السابع من مارس عام 1982، «الموت ألف مرة لـ(الإخوان المسلمين) المأجورين، الذين ربطوا أنفسهم بأعداء الوطن والذين استخدمهم الأعداء الإمبرياليون الصهاينة والرجعيون». وبعد مجزرة حماة، صار كل مَن يتجرأ على معارضة النظام يُصنَّف خائناً أو عدواً للدولة التي لاتزال في حالة حرب مع إسرائيل.
ربيع دمشق
بُعيد موت والده، أصبح بشار الرئيس في يونيو من عام 2000، وبما أنه كان يملك روابط أقل متانة تجمعه بالركيزة العلوية، فضلاً عن ثقافته البريطانية وزوجته السُنية، نادى بشار برغبته في تحرير المجتمع السوري، ولمدة قصيرة، صارت التعددية مقبولة وتجرأ المفكرون والمصلحون على الحلم بالتغيير، ولكن تبين أن ما يسمى «ربيع دمشق» لم يدم طويلاً، إذ بلغ نهايته في عام 2001، حين أدركت المجموعة الأمنية التي يسيطر عليها العلويون أن سياسة الانفتاح التي اعتمدها الرئيس القليل الخبرة قد تهدد وجود النظام واستمراريته وهيمنتهم داخله.
برزت أولى الإشارات إلى تبدل الوضع مع توقيف المنشقين والإقفال القسري للصالونات والمنتديات الفكرية، ففي الآونة الأخيرة، حُظر «منتدى الأتاسي» بعد أن قرأ أحد أعضائه بياناً صادراً عن علي صدر الدين البيانوني، زعيم «الإخوان المسلمين» في المملكة المتحدة، متخطياً بالتالي أحد الخطوط الحمراء الواضحة التي تحددها الحكومة، ومرة أخرى قدّم قانون الطوارئ المبرِّر العام لهذه الخطوات القاسية.
إعلان دمشق
في خريف عام 2005، اجتمع عدد من الأطراف السياسية والمفكرين لإصدار إعلان دمشق، ومن بين المطالب التي شملها تعليق قانون الطوارئ و»تبني الديمقراطية كنظام حديث»، فاعتُبر ذلك تهديداً، ولو بسيطاً، لنظام بشار، الذي جاء رد فعله كما هو متوقع، فقد سارع إلى تجريم حركة إعلان دمشق وصدرت بحق كثيرين من موقعيه، بمن فيهم رئيس الحركة رياض سيف، عقوبات قاسية بالسجن بتهم «إضعاف الحس الوطني» و»نشر أخبار خاطئة ومبالغ فيها تؤثر في معنويات البلد».
التوجهات الراهنة
بررت هذه التكتيكات القانونية الانتهاكات الروتينية لحقوق الإنسان، فقد كُبحت الحريات داخل سورية اليوم إلى حد كبير، خصوصاً مع تراجع القاعدة الداعمة لبشار، فقد اعتبرت منظمة «بيت الحرية» سورية «غير حرة»، وأشارت إلى تراجع في مكانتها مقارنة بعام 2007 «بسبب تجدد قمع أعضاء من المعارضة الديمقراطية»، علاوة على ذلك، بصعوبة يُعامل أفراد الأقلية الكردية الكبيرة كمواطنين، كذلك يُمنع أعضاء الأغلبية السنية من تبوء الكثير من المناصب الرفيعة، وكل مَن يتجرأ على رفع صوته يُعتقل سريعاً ويُسجن.
ودفاعاً عن سجلها في مجال حقوق الإنسان في عام 2006 أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، عللت الحكومة السورية احتفاظها بقانون الطوارئ بالإشارة إلى «تهديد وشيك على وحدة البلد»، قائلة: «… الوضع الراهن، خصوصاً التهديد الحقيقي بنشوب حرب، واحتلال إسرائيل المتواصل لجزء من أراضي الجمهورية العربية السورية، والخطر الحقيقي بتوسع هذا الاحتلال، كل هذه انتهاكات لقرارات الأمم المتحدة، يفرض حالة خاصة تتطلب تعبئة سريعة واستثنائية للقوات والجهود السورية بغية تمكين الإدارة من التحرك بسرعة لمعالجة هذه المخاطر الوشيكة بما ينسجم مع الدستور والقوانين المرعية الإجراء في الجمهورية العربية السورية. لذلك كان من الضروري إعلان هذا القانون وإبقاؤه ساري المفعول».
نتيجة لذلك، يلغي إنهاء «خطر الحرب» بعقد السلام مع إسرائيل الحاجة إلى إبقاء هذا القانون ساري المفعول، أمر من الواضح أن النظام يرفضه. قد يحاجج البعض قائلين إن مصر تمكنت من المحافظة على قانون الطوارئ بعد أن ضمنت سلاماً بارداً مع إسرائيل، ولكن من غير الممكن مقارنة شرعية هذين النظامين، فنظام مبارك، بغض النظر عن مصادر شرعيته، لا يرتكز على الدعم الضيق لأقلية طائفية داخل البلد، إذن، الرهان مختلف بالنسبة إلى البلدين، وبشار الأسد يحتاج إلى إسرائيل عدوة له.
المحصلة
بما أن تهديد إسرائيل كان خرافة أساسية وضرورية لإبقاء دمشق في قبضة الأقلية العلوية المستبدة، يسلب زوالها نظام الأسد علة وجوده، ونتيجة لذلك، ستطلب دمشق، في أي مفاوضات ناجحة مع إسرائيل تكون الولايات المتحدة وسيطتها، ضمانات بأن تخفف واشنطن من ضغوطها على النظام وربما بأن تسمح لسورية باستعادة سيطرتها على لبنان، لكن هذه الخطوة ستحدث مشاكل جمة في أميركا وسترسل بأسوأ رسالة ممكنة إلى شعوب المنطقة، خصوصاً اللبنانيين الذين يناضلون لتحرير أنفسهم من حكامهم المستبدين. قد تبدو التضحية بحقوق الإنسان في سبيل الحصول على صفقة سلام محتملة مقايضة جيدة في نظر البعض، ولكن بما أن الزمرة الحاكمة تعتبر أن السلام والمحافظة على نظام الحكم خيارين يلغي أحدهما الآخر، يشبه السعي وراء اتفاق سلام مطاردة السراب.
* أحد المشاركين في منحة Keston Family في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» ومدير مشروعه Firka