الأزمة المالية العالمية

فكرة مجنونة

محمد السعيد ادريس
كشفت الأزمة المالية الأمريكية الأخيرة التي امتدت الى الأسواق الأوروبية وكادت تطيح بالنظام المالي العالمي عن مجموعة من الحقائق المهمة التي سوف تفرض نفسها بقوة على إدارة النظام العالمي كله وليس مجرد الشق المالي منه.
أول وأهم هذه الحقائق أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تكون قائدة منفردة للعالم، تشرع له وتفرض عليه ما تريد بعد أن أثبتت الأزمة عجز الولايات المتحدة بمفردها عن التصدي لها، وتدخل الاتحاد الأوروبي بقوة كطرف مباشر في عملية الإنقاذ. وهكذا نستطيع أن نقول إن هذه الأزمة التي جاءت في نهاية عهد جورج بوش قد أطاحت بالحلم الامبراطوري الأمريكي وباتت تفرض على الولايات المتحدة أن تقبل بدور الشريك أو حتى الشريك القوي في إدارة النظام العالمي.
ثاني هذه الحقائق، هي أن النظام العالمي الراهن أضحى في حاجة ماسة إلى الإصلاح والتطوير وربما التغيير على نحو ما دعت إليه القمة الأوروبية الطارئة التي عقدت في باريس بدعوة من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وشاركت فيها الدول الأوروبية الأربع الكبرى الأعضاء في مجموعة الدول الصناعية الثماني (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا) فقد دعت هذه القمة في ختام أعمالها الى إعادة تشكيل النظام العالمي “على نحو يكون قادراً على تفادي مثل تلك الكوارث والأزمات”.
ثالث هذه الحقائق، أن النظام الرأسمالي، وعلى الأخص في شقه المالي، وبعد أن انزلق الى مرحلة التوحش في إطار دولي معولم، لم يعد قادراً على البقاء من دون مراجعة أو تدخل ومراقبة من الدولة. القمة الأوروبية المشار إليها دعت الى “إعادة النظر في قواعد الرأسمالية المالية”، ولكن الرئيس الفرنسي كان صريحاً أكثر في تحليله للأزمة، عندما قال “إن الأزمة عميقة، وإن النظام الرأسمالي العالمي على وشك كارثة”، والأهم قوله “إننا في حاجة لإعادة بناء النظام المالي والنقدي العالمي من جذوره”.
وإذا كانت الولايات المتحدة قد أفاقت على هذا الحلم المزعج أو الكابوس الذي فجرته أزمة “الرهن العقاري” فإن أوروبا وهي تتجه نحو المشاركة في الإنقاذ تحركت بدوافع استعلائية ليس في العلاقة مع دول الجنوب في العالم الثالث، ولا حتى مع القوى الدولية الكبرى الأخرى مثل الصين وروسيا والهند واليابان، بل وعلى المستوى الأوروبي نفسه. فالقمة الأوروبية التي عقدت لمواجهة الأزمة المالية العالمية اقتصرت، كما أشرنا، على دول أربع فقط هي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا، وهذا ما دفع فنلندا الى توجيه انتقادات شديدة لهذه القمة، وقالت إن كل الدول الأوروبية يجب أن تبدي رأيها بشأن سجل تسوية الأزمة، وليس البلدان الكبيرة فحسب. خطورة هذا الإقصاء أنه ربما يمتد الى جهود إعادة تأسيس نظام عالمي جديد بحيث يأتي هذا النظام إقصائياً هو الآخر.
أما الأهم من ذلك فهو أن معظم دول العالم التي لم تشارك كطرف مباشر في حل الأزمة بما فيها الدول العربية، ما زالت غير واعية بضرورة أن تكون شريكاً في الحل على الأقل، بقدر ما هي شريكة في دفع أثمان هذه الأزمة سواء بشكل مباشر بصفتها من أهم المستثمرين في السوق المالية الأمريكية والأوروبية، أو بشكل غير مباشر باعتبارها دولاً تربط عملتها بالدولار الأمريكي.
إقصاء دول العالم الثالث ومن بينها الدول العربية لنفسها عن المشاركة في الحل امتد الى إقصاء نفسها عن التفكير في مستقبلها هي وعلى الأخص موقفها من النظام الرأسمالي والتحديات التي تواجهه، ابتداء من مراجعة نظام السوق ودور الدولة في الاقتصاد، إذ لا يمكن تصور قبول أن الدول الرأسمالية الكبرى تتجه إلى تشريع دور قوي ومتزايد للدولة في إدارة الاقتصاد الوطني على حساب اقتصاد السوق في الوقت الذي تتجه فيه دول عربية الى مزيد من بيع أصول ملكية القطاع العام وإطلاق يد القطاع الخاص في السيطرة الكاملة على الملكية، فاستمرار هذا التوجه من شأنه أن يوقع هذه الدول أسيرة لما وصفه الرئيس الفرنسي ب “الفكرة المجنونة”.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى