“تصفية القمم”
د. طيب تيزيني
يمر إثنان وثلاثون عاماً على صدور كتاب (المقدمة- القسم الأول – المجلد الأول- بيروت، دار النهار) للمفكر اللبناني شارل مالك، وقد أُرِيد لهذا الكتاب أن يكون “مقدمة” لآثار الكاتب باللغة العربية، فهو من ثم، استخلص، في حينه، “عُصارة” آرائه المؤسِّسة -منهجياً وأيديولوجياً- لما يتتالى له من كتابات. هكذا أراد الباحث لأعماله أن تندرج في ظل مظلة أولية عمومية.
ولأن “المقدمة” لم تكن -حيث صدرت- نصاً عادياً ورتيباً، على صعيد الثقافة والإيديولوجيا العربيتين، فهي كانت صيغة متقدمة من صيغ “المركزية الأوروبية” العريقة، في تجلِّيها الشهير تحت مصطلح “المعجزة اليونانية- الغربية”. وضمن مقتضيات تقديمها عربياً أو شرقياً، نقول، لأنها لم تكن كذلك، فقد حفزت رهطاً من الكتاب والباحثين على الكتابة حولها كشأن من شؤون الفكر العربي المعاصر. وكنت واحداً من هؤلاء، حين أتيت على ذلك في بعض كتاباتي، ومنها كتاب: مِنْ ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني، لكن الأمر لم يتوقف عند هذه الحدود الزمنية، فقد استمر تناول المسألة المعنية هنا إلى سنين أخرى تالية تصل إلى زمننا هذا المعيش. فقد دعيتُ إلى لقاء فكري الأسبوع المنصرم، أُريد له أن يتناول الكيفيات التي ظهرت فيها “المركزية الأوروبية” المذكورة عربياً، أي في نطاق الفكر العربي المعاصر، الذي نراه ممتداً من مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى مرحلتنا الراهنة.
وكانت الحوارات النقدية المُتقدّمة مع العرض الذي قدمته أمام جمهور غير واسع من الزملاء الباحثين والطلبة في حقل الدراسات العليا- علوم إنسانية، قد أشاعت حالة من الوهج الفكري المنهجي. وهذا بدوره سمح بالتوغل في قضايا ظرفية من التاريخين الفكريين الغربي الأوروبي والعربي، مِما عمق الرؤية حول مفاهيم القطيعة والتراكم والتأثير والتأثر والمقارنة والاختراق وغيرها على صعيد الفكر، وما يطرأ عليه من تطور وتقدم. وقد لجأتُ للعودة إلى بعض النصوص، التي قدمها كتّاب حول “مقدمة” شارل مالك، وحول ما كتبه البعض في تعرُّضه لماِ كتبتُه حول الموضوع المعني هنا. وفي سبيل ضبْط ذلك، ألجأُ الآن إلى تقديم مجموعة من النقاط، أتى عليها كاتب لبناني، أراد لها أن تكون حالة سجالية نقدية بين ما كتبتُه ، وبين ما سجله هو نقداً لها.
ونحن هنا نعود لنصّ نشره صاحبه (واسمه السيد عبداللطيف خطاب) في مجلة “المستقبل” بتاريخ 2002/4/9 ببيروت. فقد لاحظت أن كيفية القراءة هذه واجهتها في الفكري المذكور الذي حدث قبل أسبوع كما أشرت، مما يضع أمام الفكر النقدي العربي مهمة السير الوطيد قُدماً باتجاه تعميق الأدوات الفكرية النقدية (بالاعتبار الأقرب إلى الشمول) في الفكر المذكور. أعلن الكاتب المعْني في مقالته ما يلي: “إن شارل مالك لا يقطع إبيستيمولوجياً مع تراثه الذي علينا أن لا نحدده بتراث واحد فقط”. ولأن المسألة تتعلق بركيزة منهجية حاسمة بالنسبة إلى تحديد صيغة (المنهج التاريخي العلمي) وموقف شارل مالك منها، فقد تعيّن علينا ألا نأخذ بها على نحو غير مدقَّق فكرياً منهجياً ولغوياً.
وقد قدمتُ عرضي حول المفكر المذكور، مستعيناً بطريقة المقارنة النصية، وبالدلالات التي يمكن أن تُفضي إليها، وهذا لم يعبأ به الكاتب المذكور، فظل ما وصل إليه أسير قراءة انتقائية وتفتقد القدرة على تقصّي النص المالكي في حدوده المتاحة.
يكتب شارل مالك على هذا الصعيد ما يلي، مأخوذاً من كتابه (المقدمة): “إذا نظرتَ إلى القمم المئة أو المئتين الفاعلين، الحاسمين للمصائر لوجدتَ أنهم يقعون جميعاً في التراث الإغريقي-الروماني- العبراني- المسيحي -الإسلامي- العربي- الأوروبي- الغربي. أقول (الإسلامي- العربي) كذلك (العربي بمعنى أنهم كتبوا باللغة العربية)، لأن الفارابي وابن سينا وابن رشد، بسبب تلقُّحهم بالتراث الإغريقي، هم بكل تأكيد بين القمم المئة أو المئتين. أما إذا نظرت إلى الذرى العشرين، أو الثلاثين، فكل هؤلاء تجدهم فقط في التراث الإغريقي- الروماني- العبراني- الأوروبي – الغربي المتراكم- ص363”. وبهذه الطريقة الانتقائية واللاتاريخانية القائمة على إقصاء وتذرير التراث العربي وغيره، يتابع مالك “تصفية القمم”، ليحصر الموقف في قمة القمم: “إن تاريخ الفلسفة كله ليس إلا مجرد تعليقات كتبت على هامش أفلاطون، أولها وأهمها أرسطو طاليس نفسه، ص448-449”. وإذا كان الأمر بهذه الخصيصة المتفردة كونياً، فإن شارل مالك، يجد أنه من ضرورات الحقيقة أن يوجه الكلام إلى كل ذي عقل، قائلا: “يجب أن تضع نفسك كيانياً في حذائه (أفلاطون) أي حذاء أعظم تراث هو التراث الأفلاطوني الغربي- ص372 و373. وهكذا الكون أمام خطوتين من النقد، نقدِ ما كتبه شارل مالك، ونقد من كتب مهللاً بما كتبه، ممن لقيتهم مؤخراً.
جريدة الاتحاد