بما يخصّ هيمنة الخطابات السياسية العربية
ماجد كيالي
ما زالت الخطابات السياسية العربية السائدة، والمهيمنة، اسيرة مفاهيمها التقليدية، أو العتيقة، لقضايا الصراع الدولي وأدواته وغاياته، وضمن ذلك ما يتعلق بالصراع الجاري على الشرق الأوسط.
لكأن هذه الخطابات غير قادرة على استيعاب ما يجري حولها، بالرغم من مرور ستة عقود على حصول غالبية البلدان العربية على استقلالها وتحكمها بادارة شؤونها، وغرقها في مشاكلها الداخلية (السياسية والاقتصادية والاجتماعية)، وعلى الرغم من مرور عقدين على انتهاء عالم الحرب الباردة، وتسارع مسارات العولمة، التحول فيعناصر القوة على صعيد العلاقات الدولية، بتنامي دور العلم والتكنولوجيا والقدرات الاقتصادية، على حساب العناصر التقليدية المتمثلة بمساحة الدول وعدد السكان، وثرواتها الطبيعية وقدراتها العسكرية.
هكذا ثمة في الخطابات السائدة تفسير لكل موقف او حركة بعقلية المؤامرة، او الخطة الخارجية، التي تقودها الامبريالية او الصهيونية او كلاهما معا، للحؤول دون التقدم والوحدة والتحرر في المنطقة العربية.
وتفيد التجربة بأن معظم الخطابات السياسية، الانشائية والعاطفية، التي ملأت العالم العربي صخباً في العقود السابقة، لم تفد شيئاً في فهم تردي الواقع العربي، بقدر ما أشاعت قدراً عالياً من الاحباط والانفصام في الوعي. فضلا عن انها لم تقدم شيئاً في ادراك اسباب استمرار البنى والعلاقات والمفاهيم التي تنتج هذا الواقع المتردي، بالنظر لاستمرائها احالة حال العجز والتخلف وضعف الارادة الى العامل الخارجي، في حجب واضح للمشكلات العضوية النابعة من الواقع العربي ذاته.
فطوال القرن الماضي استغرق التفكير السياسي العربي في الشعارات والمقولات العامة دون ان يدرس مدى تمثلها في الواقع على مستوى الأنظمة والمجتمعات. بل انه في أحيان كثيرة، وعلى الضد من “ثوريته” او “طهريته” الظاهرتين، كان فكراً سياسياً مراوغاً ومتواطئاً مع الواقع الذي يزعم تغييره، ان بتبريره، او بهروبه منه الى الامام، بدفع من تحيزات السياسة والقوة التي تستغلها المؤسسات المسيطرة، حتى في انتاج خطاب سياسي متواطئ يبرر ويزين ممارساتها.
هكذا، مثلاً، يجري تكرار الحديث عن ضرورة التكامل الاقتصادي والوحدة العربية لمواجهة العدو الصهيوني، او لمواجهة مشاريع الشرق أوسطية والمتوسطية والعولمة، دون تمييز معرفي (سياسي وتاريخي) بين هذه المفاهيم، بحيث يجري رفضها وادانتها، باعتبارها مفروضة من الخارج للسيطرة على العرب والحاقهم سياسياً واقتصادياً، لصالح الصهيونية والامبريالية.
وما ينبغي طرحه هنا ليس مشروعية التوحد، وضرورته، باعتبار المرحلة الراهنة هي مرحلة التكتلات الكبرى، وليس رفض المشاريع الخارجية من عدم ذلك، وانما المطروح هو: لماذا لم يستطع العرب التوصل لأدنى اشكال التوحد حتى الآن؟ وهل رغبوا في ذلك فعلا؟ في وقت نشهد فيه ان تنقل المواطنين بين البلدان العربية اصعب بكثير من تنقلهم بين بلدان اوروبا، وحتى اصعب بكثير من تنقل المواطنين الأجانب في البلدان العربية، ومستوى التبادل التجاري بين الأقطار العربية لا يتجاوز 8 ـ 10 بالمئة من حجم التجارة العربية، اما الموجودات المالية في الخارج والتي تبلغ اكثر من الفي مليار دولار فلا يستثمر منها في البلدان العربية سوى عدة مليارات فقط، وحتى ان التبادل الثقافي هو في ادنى احواله، في حين انه يكاد ان لا يوجد تنسيق في اعداد الكتب المدرسية الخاصة حتى بتلاميذ المرحلة الاساسية.
من جهة ثانية فان الخطابات السائدة لا تتحدث عن مشروعية وضرورة مشروعات التكامل والتنسيق والوحدة بين الأقطار العربية الا باعتبارها ضرورة من ضرورات الصراع والمواجهة (ضد اسرائيل والهيمنة الغربية)، في حين ان هذه المشروعات ضرورية لهذه الأقطار من اجل اطلاق عمليات التحديث والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، اي انها ضرورية للمواطنين وللدول، في آن معا، بوجود الصراع مع اسرائيل وبدونه ايضا، مثلما هي ضرورية في ظروف العولمة او بدونها.
وفي مجال الصراع ضد اسرائيل، تبدو الخطابات العربية مفعمة بالروح الشعاراتية الحماسية، في حين ان الواقع يبين بأن العرب باتوا لا يملكون سوى ابداء مشاعر الغضب والاحباط وطرح الشعارات ازاء عدوهم. فهم، مثلا، يستوعبون عدم قدرتهم على محاربة اسرائيل لكنهم لا يريدون تحمل تبعات السلام معها، او هم يريدون السلام معها، لتجنب تبعات العداء لها، ولكنهم لا يستطيعون فرض السلام عليها او حتى اقناعها بالسلام معهم! ويبدو هذا الاضطراب واضحا في تفاوت التعاطي مع القضية الفلسطينية التي تبدو احياناً عبئاً على الوضع العربي وأحياناً آخر مجرد يافطة يجري توظيفها، في حين يبدو الشعب الفلسطيني في معظم الأحوال عبئاً او مجرد حالة سياسية وأمنية! اما الحديث عن المقاومة فبات لازمة شعاراتية، اكثر منه ممارسة عملية على كافة الأصعدة.
وفي مسألة الديموقراطية فان الخطاب العربي يركز على رفضها بدعوى عدم نضج الظروف المناسبة لها في التربة العربية (فمن ينضجها ومتى ومسؤولية من؟)، او بدعوى انها بدعة خارجية، ومؤخراً بدعوى المحاولات الاميركية فرضها بالقوة والقسر، في حين يجري السكوت عن التسلط المحلي، في واقع تبدو فيه المجتمعات العربية احوج ما تكون الى ظرف تتعلم فيه الديموقراطية، والى شرط تتمكن عبره من ايجاد وتطوير ديموقراطيتها، لتحقيق التكافؤ بين الحاكم والمحكوم في دولة مواطنين، وتعزيز مكانتها ازاء العالم.
وبالنسبة لمعارضة الانفتاح الاقتصادي، او معارضة الليبرالية الاقتصادية، فهي تبدو، بدورها، نكتة سمجة في واقع ينتج المنفتحين والفاسدين، كما الليبرالية المتوحشة المدعومة من مراكز التسلط، وهو واقع لا يمكن فيه التفريق بين النهب الداخلي والخارجي، بالنسبة لمجتمع يعاني من الطفيليين ومن هدر الثروات الوطنية، ومن الفقر والبطالة والنزعة للهجرة.
أما عن الجهة المقابلة، فان الخطابات العربية الجادة، التي عالجت الواقع العربي من داخل بناه وعلاقاته ومفاهيمه، ما زالت تعاني من نكوص الفكر وتأزم مسارات الحداثة وثقل البنى التقليدية، في البلدان العربية، يفاقم من هذه الحال ضمور مؤسسة الدولة وطغيان السلطة، وتغييب المجتمعات، وانصراف الناس عن الاهتمام بالشأن العام، وانشغالهم بهمومهم الحياتية اليومية، في ظل تنامي نسبة الفقر وتدني مستوى الخدمات الأساسية، من التعليم الى الصحة والسكن والعمل والبنى التحتية، وكل ذلك مع تزايد نسبة الأمية وضعف الميل للمطالعة وانتشار “الثقافة التلفزيونية”، والقيم الاستهلاكية.
المستقبل