العلاقة بين الوطن والمواطن
صبحي غندور
أبرز التحديات التي تواجه أي وطن أو أمَّة تتمحور حول مسألة الحرّية سواء أكانت «حرّية الوطن» من الاحتلال أو «حرّية المواطن» من الاستبداد الدّاخلي. لكن رغم صحّة هذا الأمر من الناحية العامة، فإنَّ أساس المشكلة في الواقع العربي الراهن هو غياب الاتفاق على مفهوم «الوطن» وعلى تعريف «المواطنة».
ولعلّ ما حدث ويحدث في العراق وفي فلسطين والسودان ولبنان ودول عربية أخرى، من خلافات حول ماهيّة «الوطن» «المواطن»، لأمثلة حيّة على مكمن المشكلة السائدة في المجتمع العربي.
إنَّ احتلال أيّ بلد في العالم ليس ناجماً فقط عن قوة المحتل وجبروته، بل عن ضعف أيضاً في جسم البلد الّذي يخضع للاحتلال، وهو أمر بات يُعرف بمصطلح «القابلية للاستعمار أو الاحتلال».
وبالتالي فإنَّ كلاً من العنصريْن (قوّة الغازي وضعف المغزوّ) يؤدّي إلى تقوية الآخر. هكذا كان الحال في الحروب العربية ـ الإسرائيلية، وما سبقها من حقبة الاستعمار الأوروبي في مطلع القرن العشرين، عقب الحرب العالمية الأولى. إذن الاحتلال هو نتيجة وليس السبب فقط لمأساة عربية هنا أو هناك.
ومواجهة الاحتلال لا تكون حصراً بالمواجهات العسكرية ضدّ الجيش المحتل، بل أيضاً (وربما تكون هي المواجهة الأهم) في إسقاط الأهداف السياسية للمحتل، وفي بناء قوة ذاتية تنهي عناصر الضعف التي أتاحت للاحتلال أن يحدث أصلاً.
إنَّ حال الضعف العربي المتراكم في العصر الحديث هو بناء تدريجي قام على انعدام التوافق على مفهوم «الأمّة» بعد انتهاء حقبة الحكم العثماني، وتجزئة المستعمر الأوروبي بالتالي للمنطقة العربية وقيام أوطان ضعُف فيها الولاء الوطني الواحد وساد في معظمها أوضاع انقسامية طائفيّة وقبليّة، فامتزجت التجزئة بين البلدان العربية مع الانقسامات الداخليّة في الأوطان. وحينما يقع أيّ بلد عربي في أزمة أو مواجهة مع طرف خارجي، يتساءل أبناء هذا البلد: «أين العرب»، لكنّهم لا يتساءلون قبل الأزمة أو بعدها: «لِمَ لا يكون هناك اتحاد عربي أو بالحدّ الأدنى تكامل عربي»!!.
لقد سأل مراسل صحيفة أميركية الرّئيس الراحل جمال عبدالناصر عقب حرب عام 1967: «كيف تنهزمون كعرب أمام إسرائيل وأنتم تملكون أكثر من 10 جيوش عربية فاعلة»؟ وكان ردّ عبدالناصر: «انهزمنا لأنَّنا كذلك، فليس للعرب جيش عربي واحد»، وهذا ما حدث أيضاً في أوروبا بمواجهة الجيش الألماني النازي والّذي انتصر على جيش كل بلد أوروبي قاومه إلى حين قيام قوات مشتركة لدول الحلفاء ضدّ النازيّة.
وكانت حرب أكتوبر 1973 خير مثال على أهميّة التضامن العربي، وكيف بإمكان الحدّ الأدنى من التنسيق العربي الشامل أن يصنع انتصاراً عسكريّاً سرعان ما جرى تفريغه من مضمونه السّياسي، وعادت الصراعات العربية، على مستوى الدول وبين الجماعات المؤلِّفة لبعض الأوطان، إلى الواجهة.
وقد كان ممكناً أن تعيش البلاد العربيّة ظروفاً أفضل لو كانت المشكلة حصراً في غياب التنسيق والتضامن فيما بينها، لكن عمق الأزمة الرّاهنة يكمن في تراكم التجزئة مع استمرار الخلل في البناء الدّاخلي، إن كان ذلك على الصعيد السياسي والدستوري أو في الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية حيث الفقر وندرة العدالة وارتفاع نسبة الأميّة ومحدوديّة فرص العمل وزيادة هجرة الكفاءات لخارج الأوطان العربية.
هناك الآن في المنطقة العربية حالة شبيهة بما حدث فيها في مطلع القرن العشرين من سعي أجنبي للهيمنة عليها وعلى مقدراتها. وهناك في المنطقة الآن أيضاً حالة فكريّة وسياسية مماثلة لحال العرب آنذاك، من حيث انعدام التنسيق المشترك والتوافق على مفهوم «الأمّة «والهويّة المشتركة والانقسامات الداخليّة أيضاً على أسس طائفيّة وقبليّة وعرقيّة.
وهناك في الأفق، مشاريع إسرائيلية وأجنبية لعدد من بلدان المنطقة يقوم على إعادة تركيبها بأطر سياسيّة ودستوريّة جديدة تحمل الشكل الفيدرالي الديمقراطي، لكنّها تتضمّن بذور التفكّك إلى كانتونات متصارعة وذلك في ظلّ الانقسامات الداخليّة والدور الإسرائيلي الشّغال على الجانبين الأميركي والمحلي العربي لدفع الواقع العربي إلى حروب أهليّة عربيّة شاملة.إنَّ إسرائيل هي في قلب المنطقة العربية ولها طموحات إقليميّة تتجاوز حتّى المشاريع الأميركية، رغم توافق المصالح مع واشنطن.
ولا يعقل أن تكون إسرائيل فاعلة في أميركا وأوروبا وإفريقيا وشرق آسيا، ولا تكون كذلك في محيطها الإقليمي الّذي منه انتزعت الأرض وعليه تريد بناء دولتها الإقليمية العظمى. إنَّ السنوات الماضية شهدت ضغوطاً أميركيّة كثيرة من أجل التطبيع العربي مع إسرائيل، كمدخل مطلوب لمشروع «الشرق الأوسط الكبير».
وهو المشروع الّذي كانت نواة الحديث عنه في مطلع التسعينات مرتبطة بمؤتمر مدريد للسلام، وبما كتبه شيمون بيريز آنذاك من دعوة لتكامل التكنولوجيّة الإسرائيليّة والعمالة المصريّة مع المال الخليجي العربي في إطار شرق أوسطي جديد يُنهي عمليّاً صيغة الجامعة العربية ويؤسّس لوضع إقليمي جديد.
إنّ المنطقة العربية بمعظمها تعيش الآن مخاطر التهديد للوحدة الوطنية كمحصّلة لمفاهيم أو ممارسات خاطئة لكلٍّ من الوطنية والعروبة والدين. وقد عانى العديد من الأوطان العربية، ولايزال، من أزمات تمييز بين المواطنين، أو نتيجة ضعف بناء الدولة الوطنية ممّا أضعف الولاء الوطني لدى الناس وجعلهم يبحثون عن أطر فئوية بديلة لمفهوم المواطنة الواحدة المشتركة.
وقد اعتقد بعض العرب، خاصّة ممّن هم في مواقع الحكم، أنّ إضعاف الهويّة الثقافية العربية أو الانتماء للعروبة بشكل عام، سيؤدّي إلى تعزيز الولاء الوطني، لكن ذلك كان كمن أراد إضعاف التيارات السياسية الدينية من خلال الابتعاد عن الدين نفسه، عوضاً عن الطرح السليم للعروبة والدين، وبإفساح المجال للتيّارات كلّها أيضاً في حرّية التعبير السياسي والفكري.
هناك الآن وقبل فوات الأوان حاجة قصوى لوقفة مع النفس العربيّة، وهناك حاجة إلى فكر عربي جامع يتجاوز الإقليميّة والطائفيّة والمذهبيّة، ويقوم على الديمقراطيّة وعلى نبذ العنف واعتماد مرجعيّة الناس ومصالحها في إقرار النصوص والدساتير والقوانين.. هناك حاجة ملحّة للفرز بين «الديمقراطيين العرب» لمعرفة من يعمل من أجل الحفاظ على النّسيج الوطني الواحد وبين من يعمل من أجل كانتونات فيدراليّة تحقّق مصالح فئوية مؤقتة.