إرهاصات التنوير في “عصر الجماهير”… بوعلي ياسين رائداً
بوعلي ياسين : أحد وجوه الفكر النّقديّ(2)
جاد الكريم الجباعي
“الإنسان أشكل عليه الإنسان”
أبو حيان التوحيدي
ساد بيننا، منذ أواخر خمسينات القرن الماضي، أي منذ بدايات “عصر الجماهير”، اعتقاد راسخ أنّ مهمّة الفكر هي تغيير الواقع، تغييراً جذرياً، فبات لزاماً على المثقفين أن ينخرطوا، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في الحركات “الثورية”، القومية والإسلامية والاشتراكية، التي راحت كل واحدة منها تعارض الواقع القائم، كما تراه هي، بواقع مُتخيَّل أو مرغوب فيه، فتبني نموذجاً “نظرياً” لعالم آخر ترى فيه مناط الحقيقة ونظام إنتاجها الوحيد. ولم نفطن إلا بعد وقت طويل وسلسلة من الخيبات والهزائم أن هذه النماذج المتخيلة كانت إعادة إنتاج محسنة، إلى هذا الحد أو ذاك، لنظام الحقيقة البطريركي الاستبدادي.
النزعة الراديكالية، “الثورية”، التي تلبستنا، اتسمت بسمات عدة، أهمها، في موضوعنا، عدم مبالاة بالدين وبالمؤسسات الدينية وبرجال الدين؛ وأنفة من الجنس، الذي كان ولا يزال في دائرة العيب والإثم، وكراهية للحب، وخوف من الحرية؛ وإنكار للصراع الطبقي، الذي يفرق شمل الأمة ويفت في عضدها، (باستثناء الشيوعيين، في مسألة الصراع الطبقي، إذ أبدوا، ولا يزالون، ولعاً خاصاً بالصراع الطبقي والتحليل الطبقي، وفق التصور الماركسي اللينيني/ الستاليني). ما يعني أن وعي القوى الثورية لم يتخطَّ كثيراً المستوى الوسطي للوعي الشعبي، التقليدي، في هذه المسائلة التي كانت ولا تزال من المحرمات أو من المسائل الممنوع التفكير فيها. آية ذلك أن “الثورة” كانت قطيعة معرفية وسياسية وأخلاقية مع الحداثة؛ فما أن قامت قيامة الأولى حتى بددت جميع مكتسبات الثانية.
ففي حين كان معظم المثقفين “التقدميين”، “الملتزمين”، (وفق تعريف غدانوف للالتزام، لا وفق تعريف سارتر)، يظهرون استخفافاً ما بالدين وأثره في تشكيل الوعي الاجتماعي والنظام الأخلاقي، وفي نظام إنتاج المعارف، تعبيراً عن تقدميتهم وثوريتهم وعلمانيتهم، مسلحين بمقولتين أساسيتين: واحدة للتداول العلني: “الدين لله والوطن للجميع”، والأخرى للتباهي: “الدين أفيون الشعب”، وبين هاتين المقولتين كان يثوي وعي ديني تقليدي، و”خوف من الحرية”، تجليا في إعادة إنتاج العلاقات الدينية والمذهبية والطائفية والإثنية في بنى يفترض أنها بنى حديثة، كالنقابات والأحزاب السياسية وما سمي “المنظمات الشعبية”؛ في ذلك الوقت، كان بوعلي ياسين (1942 – 2000) يحفر عميقاً في جذور الظاهرة الدينية وأصولها، بما هي ظاهرة تاريخية من جهة، وإنسانية، كونية، من جهة أخرى1. ويكشف الروابط التاريخية والواقعية المتينة بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني والاضطهاد الجنسي، مستعيناً بماركسية ماركس وبعلم النفس الماركسي حيناً، وبالماركسية اللينينية أحياناً. ويقتحم المحرمات (التابوهات) التي تحرسها، وتعيد إنتاجها، بنى اجتماعية وسياسية وثقافية وأخلاقية مسلحة بقوة العرف والقانون والشرائع السماوية، وبقوة الرأي العام و”العقل السليم” وبقوة الماضي “المجيد” وسطوة “التاريخ” المقدس. ويطرح الأسئلة الممنوعة التي من شأنها أن تفتح طريقاً ما إلى التنوير. ذلكم ما يميز موقفه من مواقف دوغمائية بليدة ومن مواقف نزقة أرادت أن تضع الدين، بجرة قلم، في متاحف التاريخ، مواقف كان أصحابها، ولا يزالون، يرون أن الحل الأمثل لأي مشكلة هو إغماض العين عنها.
الأسئلة بسيطة، من نوع: “لماذا يعارض المجتمع وتعارض الدولة تنوير تلامذة المدارس في الأمور الجنسية؟ ولماذا يلعب رجال الدين الدور الأكبر في هذه المعارضة؟ لماذا يحارب هؤلاء المدارس المختلطة؟ ولماذا يفرض تدريس مادة الديانة في المدارس منذ البداية حتى النهاية”2؛ أجل الأسئلة بسيطة ومستقاة من الواقع المعيش، ولا تزال راهنة، ولكن الإجابات المحتملة عنها قد لا تكون بسيطة، وقد تكلف من يتصدى لها غير قليل من المعاناة. ولعل أكثرها خطورة ما يتعلق بالدين والجنس. لذلك كان كتاب “الثالوث المحرم” (1973) مغامرة، بمعان مختلفة: معرفية واجتماعية وسياسية وأخلاقية. مغامرة ينحني لها كاتب هذه السطور احتراماً، بغض النظر عن الاتفاق مع مضمونه في عدة جوانب أو الاختلاف معه في جوانب أخرى.
الدين، في نظر بوعلي ياسين، “إديولوجيا، حسب تعريف ماركس، ومن بعده مانهايم، هو بديل للعلوم الطبيعية والاجتماعية”. فقد نشأ الدين “لزمن الأدغال من تخيلات بدائية، مثل بدائية إنسان الأدغال والمغاور، من تخيلات أخطأ الإنسان فيها فهم طبيعته الخاصة والطبيعة الخارجية المحيطة به. وكل أديولوجيا، لدى وجودها، تتطور انطلاقاً من مادة التخيل الموجودة، وتتابع صياغتها، وإلا فليست إديولوجيا. وهذا يعني الانشغال بأفكار تعتبر كيانات مستقلة في تطورها، خاضعة فقط لقوانينها الخاصة. في هذا لا يعي البشر الذين تدور في رؤوسهم عمليات الفكر هذه بالضرورة بأن ظروف حياتهم الخاصة هي التي تحدد مجرى هذه العمليات، لا يعون ذلك، وإلا لما كانت هناك أيديولوجية” (ص 15). ويبدو أن انشغال بوعلي ياسين الباكر بمسألة الدين كان رداً على نزعة إلحادية سطحية، إن لم نقل عدمية، هي نوع من تديُّن مقلوب، تلبست معظم اليساريين، ولا سيما الشيوعيين منهم، بقدر ما كان تأسيساً لرؤية علمانية للمجتمع والدولة، لا تقف عند حدود “فصل الدين عن الدولة” بل تتعداه إلى رفع أي وصاية على عقل الإنسان وضميره. فالإنسان عنده هو المبدأ والغاية.
وإذا كان بوعلي قد أولى علاقة الدين بالصراع الطبقي اهتماماً خاصاً، فإن ذلك لم يطغ على رؤيته الإنسانية، ولم يحجب مطلب الحرية، حرية الفكر والضمير، الذي كان شاغله الرئيس. يقول في هذا الصدد: “لقد أصبح من الثابت علمياً أن شكل الدين مرتبط بالمستوى الحضاري للمجتمع المعني وبظروف حياته. في المجتمعات البدائية نصادف الطوطمية والسحر والأرواحية وعبادة الأسلاف. وفي المرحلة التالية من تاريخ الإنسان تنضم إلى قوى الطبيعة قوى اجتماعية، ذلك لأن هذه تكون غريبة مثل القوى الطبيعية، وفي البداية، كذلك، غير مفهومة، فيراها الإنسان بالتالي تتحكم به بنفس الضرورة الطبيعية. وإذا تقدمنا أكثر في تاريخ البشرية نرى جميع الصفات الطبيعية والاجتماعية للآلهة قد نقلت إلى إله كلي القدرة، وهذا الإله الواحد ليس سوى انعكاس للإنسان المجرد” (ص 21 – 22).
فإذا كان الأساس الأنتربولوجي للدين هو العجز والخوف والأمل، فإن أساسه الاجتماعي هو ظهور قوى اجتماعية تتحكم بحياة الأفراد ومصائرهم تحكم القوى الطبيعية، بدءاً من ظهور الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وتوافر فائض في الإنتاج يقتضي المبادلة، التي تظهر من خلالها قيمة السلع على أنها عمل بشري، وصولاً إلى اغتراب المنتجين عن منتجات عملهم وعن عالمهم وعن ذواتهم، فيصير الدين وعياً مقلوباً لعالم مقلوب، بتعبير ماركس. ومن ثم فإن حذف الاستلاب الديني يعني وعي الإنسان ذاته كائناً عاقلاً وأخلاقياً، حراً ومسؤولاً، ووعي حقيقة أن عالم الإنسان هو من إنتاج الإنسان ذاته، في كل زمان ومكان؛ وجعل تقديس الإنسان المجرد (الله) أساس احترام إنسانية الإنسان الواقعي، والاعتراف بحريته وقدرته على الخلق والإبداع، وجعل سمو الله مبدأ وأساساً لسمو القانون (الله مبدأ وحدة العالم؛ والقانون مبدأ وحدة المجتمع والدولة، ومبدأ وحدة الجماعة الإنسانية والمجتمع الدولي).
غير أن الدين لا ينحل في الصراع الطبقي؛ فهذا الأخير لا يفسر كل شيء، لأنه لا يستنفد الديالكتيك، ولا يحل محله، بل لعل “الصراع الطبقي” تحول لدى الكثرة الكاثرة من ماركسيي بلادنا إلى وضعانية مبتذلة، بل إلى ثنوية مانوية، أعني ثنوية النور والظلام والخير والشر، التي قسم العالم في ضوئها قسمين: ثوريين وإصلاحيين، تقدميين ورجعيين، وطنيين وخونة؛ لذلك تحدث بوعلي ياسين عن أديان بدائية، عفوية، “خالصة من تأثيرات الصراعات الطبقية”، وأديان إثنية (أقوامية) يطابق كل منها حياة قوم من الأقوام، وأديان كونية (ص 24)، كالمسيحية والبوذية والإسلام. وبذلك يكون الدين مظهراً من مظاهر “الوعي الذاتي للإنسان، الذي لم يكسب نفسه بعد، أو الذي فقد نفسه ثانية”، أي إنه التحقيق الخيالي، الوهمي، للكيان الإنساني، ما دام ليس لهذا الكيان من تحقيق واقعي، بتعبير كارل ماركس.
ملاحظة بوعلي ياسين هذه فائقة الأهمية، لأنها تدرج الظاهرة الدينية في تاريخ الفكر الإنساني، فتؤسس لتاريخية الظاهرة الدينية، وتشير إلى الفارق النوعي بين الدين بوصفه مظهراً من مظاهر الثقافة، التي بها صار الإنسان إنساناً، وبين توظيف الدين لأغراض اجتماعية سياسية معلومة. ويحيل من ثم على الفارق النوعي بين الدين والأيديولوجة الدينية، وهذه الأخيرة هي الحجاب أو القناع، الذي يحجب الواقع ويقنِّعه، ولذلك صار الدين مصدراً من مصادر السلطة، فارتبط الاستبداد السياسي بالاستبداد الديني، كما بين ذلك عبد الرحمن الكواكبي بوضوح. ومن ثم فإن الدين لا يستنفد في الصراع الطبقي بحكم الروح الإنساني الذي يسري فيه، والذي يسمو على التعارضات والصراعات الاجتماعية والسياسية ويتعداها، وهو نفسه مما يضع حداً للأيديولوجية التي تسوغ الظلم والقهر والاستغلال، وتضفي طابعاً مقدساً على الشروط التي تجعل من الإنسان كائناً خانعاً وذليلاً ومهاناً. وقد أشار بوعلي، في هذا الصدد، إلى الفرق بين موقف مارتن لوثر (1483- 1546)، الذي كان يدعو الفلاحين إلى الطاعة والخضوع لسادتهم، وموقف منتسر (1490– 1525) الذي نادى بحق الشعب في مقاومة ظالميه ومستغليه. وكلاهما من دعاة الإصلاح الديني، ويستندان إلى مرجعية واحدة. كما أشار إلى أن للدين وجهين: سلبي، هو وجه الظالمين، وإيجابي هو وجه المظلومين، الذي عبر عنه يسوع المسيح والنبي محمد وماني وأبو ذر الغفاري والقرامطة وتوماس منتسر. (ص 31).
المسألة هنا هي مسألة الوعي بوصفه الوجود مدركاً على نحو ما، أي مسألة العلاقة الجدلية بين الوعي والوجود، بين الفكر والواقع، وهي أم المسائل. ومن ثم فإن نقد الدين هو نقد أوهام الإنسان عن نفسه وعن العالم، وكشف العوامل الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية، التي تجعل الواقع في حاجة إلى أوهام، وهو إلى ذلك مسعى متصل لوعي الواقع، كما هو، وإعادة بناء صورته في الذهن. فمن هذا المنطلق، أي من استئناف مشروع بوعلي ياسين، يمكن نقد الأيديولوجية العربية المعاصرة، على نحو يكمل عمل عبد الله العروي، غير المسبوق على الصعيد الثقافي، وعمل ياسين الحافظ غير المسبوق على الصعيد السياسي، وعمل الياس مرقص غير المسبوق أيضاً على الصعيد الفلسفي. ويمكن بالقدر نفسه نقد الأيديولوجية القومية العربية التي شكلت الوعي الاجتماعي بوجه عام، والوعي السياسي بوجه خاص، على مدى نصف القرن الماضي، وكشف العوامل التي أدت إلى ضمور العناصر الإنسانية والعقلانية والعلمانية والديمقراطية في الحركة القومية التي انتهت إلى التصالح مع الإسلام السياسي تحت مقولة “الأمة لا تنهض إلا بجناحيها: العروبة والإسلام” (راجع كتاب القومية العربية والإسلام، الذي يضم وقائع الندوة التي أقامها مركز دراسات الوحدة العربية حول هذا الموضوع، ووثائق المؤتمر القومي العربي الإسلامي)
يمكن القول إن بوعلي ياسين كان يتجه إلى نقد الدين والأيديولوجية الدينية مدخلاً ضرورياً إلى نقد السياسة، لا سيما أن فكرنا الحديث والمعاصر لم يعن بهذا الموضوع العناية التي يستحق، وماركسيو بلادنا خاصة لم يسلكوا هذه الطريق التي سلكها ماركس. بيد أن حاجتنا إلى نقد الدين في ذاته، بوصفه مظهراً من مظاهر الوعي الاجتماعي إن لم يكن المظهر الرئيس فضلاً عن كونه أساس النظام الأخلاقي الذي تقوم عليه العلاقات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية، لا تزال راهنة وملحة؛ فنقد الدين لم ينجز عندنا، كما أنجز عند غيرنا؛ وإن قصر المسألة على علاقة الدين بالصراع الطبقي، أو النظر إلى الدين من زاوية الصراع الطبقي، على نحو ما فعل بوعلي ياسين، لا تلبي هذه الحاجة.
في هذا السياق تلفت النظر مقاربة بوعلي “ثورة النبي محمد، التي بدأت عام 609 للميلاد (بوصفها) نتيجة وشبه جميعة synthesis للتناقضات المتفاقمة في مجتمع شبه الجزيرة العربية وفي النظامين الفارسي والبيزنطي” (ص 86) على أنها حركة دينية وحركة اجتماعية، تاريخية، في الوقت ذاته، لا نتبين فيها الفرق بين ما هو ديني وما هو دنيوي (النبي محمد كان زعيماً سياسياً، كما كان زعيماً دينياً، كان يعظ بالإيمان وبالأخلاق الحميدة ويدعو إليها، في ذات الوقت كان قائداً لجيش المسلمين يعين الولاة ويعزلهم. وكان قاضياً بين الناس ومشرعاً في أمور الأسرة والاقتصاد والجزاء وسلطة منفذة للأحكام الصادرة. كان الرسول نبياً ورئيس دولة في آن واحد، كما يقول بوعلي ياسين). وقد استنتج، من هذه المقاربة، أن “الإسلام دين ودولة”. (راجع ص 102 – 103)، كما استنتج حسن البنا، من قبل، أن الإسلام دين ودنيا ودولة، ومصحف وسيف .. فوضع بذلك الأساس “النظري” للإسلام السياسي. وفق هذه المقاربة يكف الإسلام عن كونه ديناً توحيدياً، كاليهودية والمسيحية، تسري عليه القوانين ذاتها، التي تسري على غيره، ولا يعود، كغيره من الأديان، ينطوي على أبعاد أسطورية وأخرى ميتافيزيقية وغيبية وثالثة أخلاقية هي الروح الإنساني الذي يسري في أي دين. ووفق هذه المقاربة تختفي الفروق بين حركة الواقع أو الحركة الاجتماعية (جميعة التناقضات المتفاقمة في مجتمع شبه الجزيرة العربية وفي النظامين الفارسي والبيزنطي) وبين صورة الواقع في الذهن، (الوعي الديني) فيتطابق الوعي والوجود تطابق الحركة الاجتماعية والحركة الدينية. هذه المقاربة تخرج الإسلام ما قبل المملوكي من دائرة نقد الدين، وتصب جام غضبها على إسلام الانحطاط، المملوكي/ العثماني، فتقدم تبريراً ماركسياً، ثورياً، للسلفية الإسلامية وللأصولية. ولا نحسب ذلك إلا من تأثيرات الأيديولوجية القومية العربية، التي بنيت على أساس أن (الإسلام هو روح الأمة العربية).
ومع ذلك بين بوعلي ياسين أهمية فصل الدين عن الدولة وضرورته، وأدرج ذلك في مهمات الثورة الديمقراطية التي يفترض أن تنجزها البروليتاريا في البلدان المتخلفة. انطلاقاً من أطروحة تقول: “في العالم المتخلف يفترض بالبروليتاريا، تبعاً للنظرية اللينينية، أن تمسك بزمام الأمور من مرحلة ما قبل الرأسمالية إلى المرحلة الشيوعية؛ فتقوم بالثورة الديمقراطية البرجوازية (الوطنية التحررية) والثورة الاشتراكية معاً, بهذا تنوب البروليتاريا عن البرجوازية الثورية في أوروبا الغربية. (ص 110)، (فتحقق فصل الدين عن الدولة في سياق تحقيق مهمات الثورة الديمقراطية، التي ستحققها في سياق الثورة الاشتراكية، وفق نظرية “الاجتماع والتحول”، التي تراجع عنها لينين نفسه، ولعل ستالين هو من أعاد لها اعتباراً لم تكن تستحقه).
ولكن بوعلي ياسين لاحظ أن البرجوازية الصغيرة أزاحت في بعض البلدان المتخلفة البرجوازية الكمبرادورية والإقطاعية “لتقوم هي بحل معضلات التحرر الوطني: الاستقلال السياسي، الإصلاح الزراعي، التصنيع، وعلمانية الدولة” (ص 109) غير أن البرجوازية الصغيرة لا تستطيع أن تكون غير مبالية بالدين، ما دام الدين ممثلاً برجاله قد اتحد منذ البداية بالنظام القائم، وإن الطبقتين العدوتين (الكمبرادورية والإقطاعية) تستغلانه لمصالحها، (لذلك) توجب على البرجوازية الصغيرة أن تتخذ موقفاً محدداً من المسألة الدينية. “الثورة الوطنية الديمقراطية تفرض عليها– إن هي أخلصت لهذه الثورة – تحقيق مطلب فصل الدين عن الدولة. في البداية رفعت البرجوازية الصغيرة شعار “الدين لله والوطن للجميع”، لكن لم يكن لهذا الشعار أي مقابل عملي بعد استلامها السلطة. لذلك فإن الدور التاريخي للبرجوازية الصغيرة قد انتهى بعد تسلمها السلطة، فباتت في حاجة إلى تبرير امتيازاتها، فغدت أكثر ميلاً إلى مهادنة الطبقات الرجعية والعودة إلى الدين، كأداة أيديولوجية فعالة. (راجع ص 110).
يمكن للباحث اليوم أن يغض النظر عن الرهان الماركسي ثم اللينيني/ الستاليني على قيادة البروليتاريا للتحولات الاجتماعية، في البلدان المتأخرة، فقد حكم عليه التاريخ. لكن الثورة الديمقراطية لا تزال على جدول أعمال التاريخ في هذه البلدان. ومسألة البرجوازية الصغيرة أو الفئات الوسطى لا تزال موضع بحث ودرس فيها. وملاحظة بوعلي ياسين أن هذه الفئات الوسطى في حاجة إلى الدين لتبرير امتيازاتها وتمويه فسادها ملاحظة في محلها. ولذلك نراه يؤكد أهمية فصل الدين عن الدولة وضرورته لعقلنة المجتمع، و”لإقامة وطن لسكان ينتمون إلى ديانات متعددة” (ص 116). عقلنة المجتمع تعني عنده “إقامة نظام اجتماعي يسير على أفضل طريق توصل المجتمع إلى غاياته. وأياً كانت هذه الغايات فعقلانية التاريخ البشري تعني الاتجاه نحو الإشباع الأمثل للحاجات البشرية، على أنه أفضل مقياس موضوعي لتحقيق سعادة الإنسان. والغايات المذكورة تخضع لمنطق التاريخ حسب المسافة التي قطعها المجتمع على هذه الطريق الطويلة، وإلا يكون مآلها الفشل” (ص 11).
كأني بالراحل بوعلي ياسين قد قال وداعاً للطبقة الوسطى وديمقراطيتها الشعبية، قبل أن يقولها رمزي زكي، فلعله قد خابت آماله في “الثورة القومية”. فشجرة البرجوازية الصغيرة، “الثورية”، كما صنفها الرفاق السوفييت، لم تعد تحجب غابة المجتمع، وشعاراتها لم تعد تحجب حاجاته، وبدت “النظرية” رمادية، على حقيقتها، إزاء اخضرار شجرة الحياة وازدهارها. والأهم هنا هو تعريفه لعملية عقلنة المجتمع، الذي يعيد بناء الصلة بين الثورة والحداثة، ويعيد الاعتبار للمجتمع الذي لا يجوز لأي “طليعة ثورية” أن تنوب عنه في تحديد حاجاته الجذرية. بل إن بوعلي ياسين هنا يعيد الاعتبار للديالكتيك، أي لمنطق سير المجتمع ونموه وتطوره.
“ثورة التطلعات”، التي شهدتها خمسينات القرن الماضي وستيناته (1952 – 1967) انتهت بهزيمة الخامس من حزيران (1967)، وإخفاق المشاريع السياسية العابرة للوطنية، أو ما فوق الوطنية: (المشروع القومي العربي الوحدوي الاشتراكي، والمشروع الاشتراكي البروليتاري، الأممي، والمشروع الإسلامي، الوسطي، المعتدل، والمستنير). ولعله من المؤلم أن نقول إن “الثورة” انتصرت، وإن التطلعات هي التي هُزمَت. وللمرء أن يتخيل، وأن يفكر في مسألة، ماذا يمكن أن تكون الثورة بلا تطلعات؟!، أو ماذا يمكن أن تكون ثورة ذات تطلعات مهزومة؟!. بل للمرء أن يفكر، قبل ذلك كله، في مسألة كيف تكون “ثورة” “من فوق”، أو من وراء ظهر المجتمع، وبصرف النظر عن حاجاته الجذرية، التي من دون تلبيتها لا يكون مجتمعاً، بل تراصف جماعات تتعايش على مضض؟ نعني بالحاجات الجذرية، هنا، الحاجة إلى الدولة الوطنية وحكم القانون والمساواة في الحقوق والواجبات، فضلاً عن التنمية البشرية والاقتصادية والاستثمار الأمثل للموارد.
“الأنظمة التقدمية”، التي جسَّدت “الثورة” الظافرة، انتهت، في غير مكان، إلى أنظمة شمولية/ تسلطية، أو إلى أنظمة استبداد محدث، تستمد كل منها مشروعيتها الرمزية من أيديولوجية مهزومة لا تعترف بهزيمتها. لذلك تجدها مضطرة إلى تحميل الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية جميع أوزار الهزيمة وأوزار تداعياتها، وإلى إعفاء نفسها من أي مسؤولية. ومضطرة، بالقدر ذاته، إلى شن حرب مفتوحة على المجتمع، لإخضاعه والسيطرة على جميع مقدراته، وإلا فلن تتوافر لها شروط “الاستمرار والاستقرار”.
ومهما يكن الأمر فإن بوعلي ياسين لم يكن يحجم عن النقد، أو يتردد، مهما تكن النتائج، شأن أي مثقف يستحق اسمه ويشعر بعبء المسؤولية الأخلاقية الملقاة على عاتقه. ومن واجبنا، نحن أبناء جيله، أن نعترف له بفضل السبق والريادة وبشجاعة العقل وشجاعة القلب.
لا يملك المرء إلا أن يوافق بوعلي ياسين في حاجة البرجوازية الصغيرة إلى الدين لتبرير امتيازاتها. ولكن المسألة تتعدى هذه الحاجة إلى وعي البرجوازية الصغيرة ذاتها، أي إلى وعيها التقليدوي الجديد، بتعبير ياسين الحافظ، بل إلى وعيها الأيديولوجي، وإلى المشروعية “الثورية” التي أقامت سلطتها عليها، فأجهزت بها على جميع مكتسبات الحداثة، ولا سيما النقابات المستقلة والأحزاب السياسية المستقلة والصحافة الحرة والبرلمان …، وإلى موقفها من الدولة ومن سيادة القانون وفصل السلطات والتداول السلمي للسلطة، ومن حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن، ومن الحرية والعدالة والمساواة .. إلخ. يبدو أن التحليل الطبقي الكلاسيكي هنا فوَّت على بوعلي ياسين وعلى غيره تتبع سيرورة تحول سلطة البرجوازية الصغيرة إلى سلطة شمولية (توتاليتارية) اغتالت جنين المجتمع المدني (مجتمع الطبقات والصراع الطبقي ومنظومة الحاجات والمسرح الفعلي للتاريخ) واغتالت جنين الدولة الوطنية، وحولت المجتمع إلى نوع من “مجتمع بلا طبقات”، بتعبير حنة أرندت، وإلى “عدو موضوعي” شنت عليه حرباً مفتوحة لم تنته فصولاً بعد.
العلاقة المنطقية والتاريخية بين الأيديولوجية الدينية والصراع الطبقي لا تتجلى جميع آثارها الاجتماعية والثقافية والأخلاقية إلا بجلاء موقف الدين من الجنس، ومن تنظيم الحياة الاجتماعية، وتبيُّن العلاقة بين الاغتراب الديني والاغتراب الجنسي، فإن تنظيم الحياة الاقتصادية وتنظيم الحياة الجنسية (تلبية دافع الجوع ودافع الجنس، للحفاظ على الحياة، والحفاظ على النوع، مع ملاحظة أن الثاني مشروط بالأول) كانا ولا يزالان أساس تنظيم الحياة الاجتماعية، وإن الاغتراب الديني والاغتراب الجنسي مظهران من مظاهر اغتراب الإنسان عن ذاته وعجزه عن إدراك ماهيته، أعني الحرية، وتحول منتجات فكره إلى سلطة قمعية تقف إزاءه مستقلة عنه ومستبدة به. وهنا تتجلى جذرية بوعلي ياسين ونزوعه الأصيل إلى الحرية.
بيد أن بوعلي في معالجته الهادئة والدقيقة لموضوع الجنس لم يشر إلى الحب من قريب أو بعيد، على الرغم من مقاربته موضوع الجنس في العهد القديم (التوراة)، فلا ندري لماذا تجاهل نشيد الأنشاد مثلاً، ولا سيما قوله: ” المحبة قوية كالموت..3 ولا ندري أيضاً لماذا أشاح عن الحب في المسيحية، وهو موضوعها الأهم وأساسها الروحي ونسغها الأخلاقي. فالخوف الذي كان أساس العلاقة بين الله والإنسان في العهد القديم، استبدل به الحب في العهد الجديد، الذي لم يلغ “مخافة الله”، بل أخضعها للتقوى، أي لضمير الإنسان. ومن المهم الإشارة إلى علاقة الحب بالسلام التي أساسها “أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى باغضيكم” ليصير “في الناس المحبة وعلى الأرض السلام”. الله في العهد الجديد هو المحبة؛ “الله محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه” (رسالة يوحنا الرسول الأولى 4، 12 – 16). الحب هو الروح الإنساني الذي يسري في الدين، بتعبير ماركس.
ونقد الدين هو نقد الشروط التي حالت ولا تزال تحول دون وقعنة الروح الإنساني أو توقيعه في العالم، عالم الإنسان، (المجتمع والدولة)، أي نقد الشروط التي جعلت الحب عيباً وإثماً, الحب شرط لازم لأنسنة الحياة الاجتماعية. وهو يتضمن الجنس بالضرورة، يتضمن الرغبة الجنسية واللذة الجنسية، ويتضمن اللذة على الإطلاق. الجنس كما عرفه بوعلي ياسين هو “معرفة الخير والشر”، إذاً الحب الذي نسجه تاريخ تحسُّن الإنسان حول هذه النواة، أعني الجنس، هو معرفة، والمعرفة شرط الحرية. ولعل أعظم حب هو حب المرأة للرجل وحب الرجل للمرأة، لأنه أول فعل نفسي/ ذهني يكسر قشرة الأنانية ويتجه إلى الآخر بغية الاكتمال به؛ فالمرأة تؤنسن الرجل وتلهمه وتعلمه الحرية، ذلكم هو مغزى أسطورة آدم وحواء، أسطورة الخطيئة الأولى، الخطيئة العظيمة، التي هي برهان على المعرفة وعلى الحرية (لو لم يكن آدم يعرف لما أخطأ، ولما اعترف بخطيئته؛ ولو لم يكن يشعر بأن عليه ألا يمتثل لأي إرادة غير إرادته لما “أخطأ” أيضاً. الخطأ ظل المعرفة وظل العمل، يجب أن نرد للخطأ كرامته، التي هي من كرامة المعرفة).
لا نستطيع اليوم، ونحن في القرن الحادي والعشرين، أن نتحدث عن الجنس خارج إطاره الإنساني، الذي هو مبدؤه وأساسه، أعني الحب والحرية ومعرفة الخير والشر، وخارج الفلسفة وعلم الجمال وعلم الأخلاق وعلم النفس وخارج علوم الطبيعة وعلوم الإنسان، بشرط ألا يكون الحديث عن الحب حديثاً موارباً أو مدلساً أو تقوياً أو طهرانياً (عذرياً)4 أو صوفياً عن الجنس، فنحن في أمس الحاجة إلى تربية جنسية وثقافة جنسية هي فرع من فروع ثقافة الحب وثقافة الحياة وثقافة السلام البادئ بتصالح الإنسان/ الفرد مع ذاته.
الوصاية على عقل الإنسان/ الفرد وضميره والسيطرة على جسده، ولا سيما جسد المرأة، والتحكم بنشاطه الجنسي من أبرز سمات المجتمعات البطريركية والنظم التسلطية التي ترتكز على الأسرة أو العائلة البطريركية، وتعيد إنتاجها. وقد لاحظ بوعلي ياسين أن “الأسرة البطريركية تنتج الطفل الخاضع الخانع المطيع لسيده وأبيه، لا من خلال سلطة الأب الفعلية في الأسرة فقط، وهي سلطة دكتاتورية، بل بقوة الأخلاق والدين والقانون” (ص 60). وأن الامتثال لسلطة الأب إنما يتعدى حدود هذه السلطة إلى الامتثال لأي سلطة أخرى. فالأسرة البطريركية تنتج الطاعة والامتثال والخنوع والإذعان والعجز والتواكل، وتنتج القابلية للتبعية، وهذه تعبير مخفف عن العبودية (العبد، عند أرسطو، هو من ضعف روحه وقلت حيلته فأتبع نفسه لغيره). ذلك لأن الأسرة البطريركية “مؤسسة لتنظيم الجنس وتقييده ولتهيئة الأطفال للزواج وتكوين أسر جديدة منسوخة عن الأسرة الأم” (ص 61) هذه الأسرة “غير قادرة على إشباع الحاجة الجنسية للإنسان. أخلاقها تحرم الاتصال الجنسي من غير زواج، ومع ذلك فهذا يحدث مراراً وتكراراً. تناقض هذا الفعل مع الأخلاق الرسمية يضعف القدرة على الإرضاء، والشعور بالذنب يعيق المجرى الطبيعي للفعل الجنسي ويخلق تشوشات وعصابات وانحرافات جنسية وسلوكاً لا اجتماعياً” (ص 63).
“أمامنا هنا انقسام في النشاط الجنسي؛ فالشاب يرضي شهوته في علاقة مع فتاة لا يرضى بها زوجه، لأنها وهبته نفسها دون عقد قران. وهو معجب بفتاة أخرى من وسطه الاجتماعي الثقافي، لكنه يصعد ميله الشهواني إلى حنان (حب عذري)، فلا يقيم معها علاقة جنسية قبل الزواج، وإلا فإنها لن تبقى مرشحة لتكون زوجة له. تبعة ذلك هي أن هذا الشاب يقوم دوماً بنصف المعايشة الجنسية، بينما الإرضاء التام لا يقوم إلا باجتماع الشهوة والحب في آن واحد. هذا الانقسام يفضي إلى الإحباط وإلى اضطرابات نفسية خطيرة، وقبل كل شيء إلى تضخم الميول السادية العدوانية، التي تمتد إلى الشريك وتميل إلى أن تصير سلوكاً بهيمياً…” (ص 63). يجب أن نضيف هنا أن الفتاة أو المرأة هي مجرد موضوع. حب بلا لذة جنسية وبلا متعة، (سوى متعة المكابدة والمعاناة) وممارسة جنسية بلا حب وبلا أي قيمة أخلاقية وبلا أي قيمة جمالية هي أقرب إلى ممارسة بهيمية، لأنها تفتقر إلى أي شعور بوحدة الشريكين واكتمال كل منهما بالآخر، بتعبير أبو حيان التوحيدي، أو ممارسة جنسية وظيفية لا تختلف كثيراً عن سابقتها، هذا الانشطار هو أساس الشقاء الجنسي، الذي يعيشه أفراد المجتمع البطريركي من الجنسين، ولعله أساس تمييز النفس من الجسد ومعارضة كل منهما بالآخر وقهره به.
هذا الانقسام، كما يرى بوعلي ياسين، يسر الطبقة السائدة والمتسلطة، التي “تستخدم الطاقة الفائضة عبر الكبت الجنسي في سبيل نوع معين من الإنتاج وشكل معين من الاستهلاك”، (ص 64) وتوليد أشكال معينة من الاستجابة الفردية والجماعية. الإنتاج، يفتقر إلى الخلق والإبداع، والاستهلاك، يفتقر إلى العقلانية، وإلى التوازن بين الرغبات، التي يستثيرها الإعلان التجاري، المفعم برموز جنسية، وبين إمكانات إشباعها، الاستجابة، كاستجابة كلب بافلوف، قطيعية أو “جماهيرية” تفتقر إلى أي قيمة إنسانية، لأنها تفتقر إلى الحرية، كالمسيرات المليونية، التي تلهج بالروح والدم، والهياج غير المسبوق احتجاجاً على الرسوم المسيئة للنبي محمد، هذه الاستجابات نتيجة منطقية للتربية البطريركية، بدءاً بالأسرة أو العائلة البطريركية، (وهما من الأسر والعيالة، من الجذر (عال)، وفي أصلها معنى الجور والحيدان عن الحق ومعنى البكاء ومعان أخرى قريبة من ذلك)، وصولاً إلى المجتمع البطريركي، ونتيجة منطقية لتضافر الاستبداد السياسي والاستبداد الديني.
الطاقة الجنسية المكبوتة تتحول إلى عدوانية تضاف إلى عدوانية أخرى “ناتجة من اضطهاد العامل المأجور في عمله وفي حياته. هذه العدوانية المزدوجة “تصرَّف في الحياة الزوجية وفي المحيط العائلي ضد الشريك الآخر وضد الأطفال” (ص 67) وضد الإناث خاصة. وتنتقل عدواها إلى الأمهات؛ الأم الكبيرة عدوانية إزاء زوجات أولادها، والأم الصغيرة عدوانية إزاء أولادها وبناتها. وتسري في المجتمع مولدة حركات فاشية وتنظيمات أصولية متطرفة، وتعيد السلطة السياسية إنتاجها حرباً مفتوحة على المجتمع وحروباً عبثية على “العدو القومي”. وقد ميز بوعلي ياسين العدوانية الناتجة من الاضطهاد الجنسي والعدوانية الناتجة من الاضطهاد الاقتصادي، ولاحظ أن الأولى لا تزول تلقائياً بزوال الثانية، على الرغم من علاقة التسبب بينهما، بل يمكن أن تكون عامل تثبيط لأي محاولة احتجاج على الاضطهاد الاقتصادي.
الاستقلال النسبي للاضطهاد الجنسي، ولاضطهاد المرأة بوجه خاص، الذي تؤطره وتسوغه أيديولوجية دينية أو ذات جذور دينية، كالأيديولوجية القومية العربية، يقتضي بالضرورة حركة تنوير ثقافية تقتحم المحرمات، التي كان بوعلي ياسين سباقاً إلى تعيينها، ولا سيما الدين والجنس والصراع الطبقي. ولعل الحرية الجنسية، بجدلها الداخلي، أعني تعارض الحرية الذاتية غير المحدودة للفرد والحرية الموضوعية، التي يجسدها القانون والنظام الأخلاقي (القانون غير المكتوب)، جزء لا يتجزأ من الحرية وجدلها الداخلي، وشرط لازم للصحة النفسية والحياة الجيدة وشرط لازم للخلق والإبداع. من هذه الزاوية يمكن النظر إلى الحرية، بما فيها الحرية الجنسية، على أنها العلامة الفارقة بين تاريخين: تاريخ ما قبل الإنسان، الذي لا يزال مستمراً حتى يومنا، وتاريخ الإنسان، من دون أن نغفل حقيقة أن الثاني يتكون في أحشاء الأول. ولعل ما شاب قضية الحرية الجنسية وما يشوبها اليوم هو فصلها عن قضية الحرية، التي ليست قضيتنا بعد، لأننا لم نع الحرية بعد، ولم نفهمها بعد، ولم نعقلها بعد، على أنها ماهية الإنسان وجوهره.
التحرر الاقتصادي، في رأي بوعلي ياسين، يرسي الأساس الموضوعي “لتحرر الإنسان من وعيه الخاطئ والموهوم، للاستغناء عن أي سلوان أو مخدر، لإعادة وحدة الإنسان دون نزاعات ذاتية. والوعي الصحيح هو العامل الذاتي الذي يناضل به الإنسان لإقامة المجتمع الأخوي، عندئذ يمكن تنظيم الجنس استناداً إلى العلوم الطبيعية والإنسانية (اللاطبقية) تبعاً لحاجة الإنسان كعضو في مجتمع لا يستغل الجنس خدمة لمصالح استغلالية وتسلطية.” (ص 72) فلا يعود الزنا “هو الدخول دون موافقة مسبقة من أهل المرأة والرجل، بل هو الدخول دون رغبة من الرجل والمرأة على حد سواء. الزنا هو الاغتصاب، ولو كان بين الأزواج” (ص 156)
التحرر الاقتصادي يرسي الأساس لتحرر الإنسان من وعيه الخاطئ والموهوم، ويمكِّن من تنظيم الجنس تبعاً لحاجة الإنسان بوصفه عضواً في مجتمع لا يستغل الجنس لمصلحة المستبدين والمتسلطين، ما في ذلك شك. لكن التحرر الاقتصادي ذاته، أي التحرر من العوز والفاقة والفقر والاستغلال والذل والخضوع، أعني خضوع الإنسان لمنتجات عمله، يحتاج إلى أساس مكين يقوم عليه. هذا الأساس، في نظر الكاتب، هو الحرية. فقد آن لنا أن نستبدل مطلب الحرية بمطلب التحرر من، هذا المطلب الأخير، الذي استغرق منا أكثر من نصف قرن انتهى بنا إلى ما سماه الراحل ممدوح عدوان “حيونة الإنسان”. الحرية شرط التحرر من الاستعمار وشرط التحرر من الإقطاع وشرط التحرر من الهيمنة الإمبريالية وشرط تحرر المرأة، الحرية شارطة وغير مشروطة. المقدمة الأولى لاستبدال الحرية بـ (التحرر من) هي وعي القانون على أنه حرية موضوعية وعلى أنه روح الشعب وماهية الدولة. عندئذ لا يمكن أن تكون الدولة سوى دولة علمانية تصون حرية الدين في رحاب المجتمع المدني، مثلما تصون حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن. الدولة هنا ليست أداة قهر طبقية، بل هي الحياة الأخلاقية للشعب، لأنها تجريد المجتمع المدني وتجريد كل فرد من أفراده، أو لأنها الإنسان مموضعاً، بتعبير كارل ماركس.
“لكل مجتمع نظام معين للحقيقة وسياسة للمعرفة وأنواع من الخطابات يقبلها ويسمح بتداولها على أنها خطاب الحقيقة”، بتعبير فوكو. ومهمة المثقف الجدير بهذا الاسم هي العمل من أجل تغيير النظام الذي ينتج “الحقيقة”، ويعممها ويذود عنها، وإنشاء نظام جديد للفكر، ومضمون جديد للثقافة، وسياسة جديدة للمعرفة تنفتح على منجزات الفكر الإنساني وفتوحاته في مختلف الحقول انفتاحها على تطور الواقع ونمو الخبرة الإنسانية ونمو العمل الإنساني. هنا قد يكون طرح السؤال الممنوع أو المحرم، على نحو ما فعل بوعلي ياسين، بداية ضرورية.
أحد وجهي تكريم بوعلي ياسين هو نشر أعماله وإعادة طرح أسئلته وأفكاره؛ والوجه الثاني، الذي لا يقل أهمية عن الأول، هو نقد أفكاره من أجل الانتصار لقضيته، قضية التنوير مقدمةً ضروريةً لعلمنة السياسة وعقلنتها والمضي بها نحو أفق ديمقراطي إنساني؛ إذ الديمقراطية عنده “شكل معين للإنسانوية (الهيومانية)، (الديمقراطية) هي الإنسانوية بمنظور سياسي اجتماعي أو اقتصادي اجتماعي …”5 هذا التحديد غاية في الأهمية، لأنه غاية في الجذرية، وليس من شيء جذري في عالم الإنسان، أي في المجتمع والدولة، سوى الإنسان ذاته، بتعبير ماركس.
انطلاقاً من هذا الجذر، من الإنسان الواقعي، أي الفرد، الذي ليس سوى تعيُّن النوع وتجلي الماهية الإنسانية، ماهية جميع أفراد النوع، تنبغي إعادة النظر في الفهم الدارج عندنا لقضية الصراع الطبقي ولمسائل الدين والجنس والسياسة وغيرها من المسائل. على هذا الصعيد لا يزال بوعلي ياسين راهناً ولا يزال استئناف المشروع التنويري راهناً وملحاً.
قال بوعلي ياسين كلمته ومضى، فماذا عسى أن نقول؟!
موقع الآوان