المرأة الجديدة 1900 والمرأة الحديثة 1992… من قاسم أمين إلى بوعلي ياسين
بوعلي ياسين : أحد وجوه الفكر النّقديّ(3)
رباب هلال
في عام (1899) أصدر قاسم أمين أهم وأشهر كتاب في عصر النهضة، يعنى بقضيّة المرأة وحقوقها، وهو كتاب: “تحرير المرأة “، أعقبه في عام (1900) بكتاب: “المرأة الجديدة “. بعد ذلك بما يقارب القرن من الزمن سيصدر بوعلي ياسين كتابه الهام أيضاً: “أزمة المرأة في المجتمع العربي الذكوري ” 1992.
تعود أهمية كتاب: “تحرير المرأة” إلى أن قاسم أمين استطاع أن يحوّل قضية المرأة إلى قضية أساسية وجوهرية، في حين اعتبرها مفكرو عصر النهضة مسألة ثانوية أمام قضاياهم السياسية والوطنية. كما تعود تلك الأهمية إلى ريادة قاسم أمين في طرح موضوع طازج، آنذاك، بكل ما أوتي من الحماسة والجدية والتفرغ، موضوع عرف كيف ينتزعه من غياهب العيب والحرام، في عرف المجتمع العربي بسدنته البطاركة المدججين بحماية ومباركة رجال الدين والفقهاء العالمين منهم والجهّال، هؤلاء الذين لم يتورع قاسم أمين في انتقادهم وانتقاد حججهم الساذجة متهماً إياهم بالجهل. فيردّ مرة على إحدى حججهم: “والذي يقرأ هذه السطور يحق له أن يظن هذا العالم الأزهري وأمثاله لم يطلعوا على تاريخ من التواريخ ولا سفر من الأسفار ولا خبر من الأخبار!” ومرة أخرى: “… ولوكان أهل الأزهر يشتغلون بفهم مقاصد دينهم بدلاً من اشتغالهم بالألفاظ والتراكيب النحوية واللغوية لما اختلفوا معنا في شيء مما قلناه.”
يُعدّ قاسم أمين من المجددين في الإسلام- وهو المتتلمذ على يد المصلحين البارزين: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وكان لهذا الأخير الدور الكبير في توجيه فكره وفي تأييده وتقديم مختلف سبل الدعم له- بدا شديد الحماس للغرب واقعاً وفكراً في تعامله مع المرأة وقضاياها، دون الاسترسال في البحث بشأن سلبيات المجتمعات الغربية، رغبة منه بعدم تشتت ما يصبو إليه، من البحث عن السبل التي تأخذ بيد المرأة نحو إنسانيتها، والاعتراف بها وبحقوقها الطبيعية، أسوة بالنساء الغربيّات. وقد اقتصر تعليله لمساوئ الأوروبيين إلى تركيبة مجتمعهم الطبقي، حيث خصّ بنقده الطبقتين الدنيا والعليا الأهمية كونهما الأوفر حظاً بالتعلم، والأكثر فساداً، آخذاً بعين الاعتبار اختلاف كلتا الطبقتين اقتصادياً واجتماعياً.
في كتاب “المرأة الجديدة” يطرح قاسم أمين سؤالاً تمثلته، فيما بعد، العديد من الكتابات المعنية بقضية المرأة، ويشير هذا السؤال إلى طبيعة المرأة، فيقول: “ولا ريب أن المرأة اليوم أحطّ من الرجل في الجملة، ولكن هل هذه الحال طبيعية لها أو ناشئة عن طريق تربيتها؟”.
آمن قاسم أمين بأن “الحرية هي أساس كلّ عمران”، ودعا إلى امرأة حرّة، متعلّمة، مربية مثقفة تجيد صناعة تربية الأطفال جسدياً ونفسياً ومعرفياً. وقد ربط الأخلاق بالعلم والمعرفة، إذ أطلق على المرأة المتعلّمة صفة “المرأة المهذبة”، فبالعلم تصير عفة المرأة اختيارية، في حين أنها عفة قهرية لدى المرأة الجاهلة والمحجوبة. ونادى بالاختلاط بين الجنسين ولو قليلاً، وذلك كي يتسنى للمرأة والرجل التعارف قبل الزواج ويكون الاختيار مبنياً على أسس سليمة.
كانت دعوة قاسم أمين تركز على ضرورة تعليم المرأة لا من أجل ذاتها هي، بل من أجل تربية أطفالها بالدرجة الأولى، ومن أجل مصلحة الرجل/ الزوج، مما يفيد الأمة كلها، بالدرجة الثانية. عندئذٍ، لن يكون بوسعنا تجاهل البيئة المجتمعية، آنذاك، المحافظة والمتعصبة والجاهلة، كان يكفي المرأة حينذاك دعوته إلى تبني نموذج “المرأة الجديدة” التي: “هي ثمرة التمدن الحديث، بدأ ظهورها في الغرب على إثر الاكتشافات العلمية التي خلصت العقل من سلطة الأوهام والظنون والخرافات وسلمته قيادة نفسه، ورسمت له الطريق التي يجب أن يسلكها.” من هنا نلمس حيلة ذكية من قاسم أمين في تجنبه التورّط في دعوة المرأة إلى العمل بالقوة ذاتها التي دعا بها لضرورة تعليمها وسفورها، فقد اكتفى بالقول إن العمل حقّ لها وعليها أن تعمل عند الحاجة، ولاسيما للنساء اللواتي ليس لهن عائل ولا واجبات عائلية، وأولاء عددهن ليس بالقليل. لقد كان يدرك، بالتأكيد، ما الذي تفعله القراءة والمعرفة بالإنسان، رجلاً أو امرأة، من تحوّل وتطور نحو الأفضل والأسمى، كان في ذلك يعوّل على الزمن الآتي، يرى حرية المرأة شبيهة بحال: “… الإنسانية في سيرها الأدبي لا تنتقل من حال إلى حال أحسن منها إلاّ بالتدريج وبعد تمرين طويل يعرض لها فيه كثير من التخبط والاختلاف والتجارب المؤلمة حتى تستقيم في سيرها.” كما أنه بدا متفائلاً بتحقيق نموذج المرأة الجديدة لأنه: “على يقين من أمر واحد وهو أن الإنسانية سائرة بطريق الكمال، وليس علينا بعد ذلك إلا أن نأخذ نصيبنا منه.”
ولابدّ وفقاً لقانون التطور، أن تندفع الإنسانية قدماً إلى الأمام، ومعها المجتمع العربي، وخاصة في مصر حيث نشأ عصر النهضة، لتبدأ أدبيات تعنى بحرية المرأة ومساواتها بالرجل، عبر مرجعيات علمانية أو دينية متنورة. ستبدأ تلك الأدبيات مع بطرس البستاني، وأحمد فارس الشدياق، رفاعة الطهطاوي، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، وقاسم أمين، ولا تنتهي عند بوعلي ياسين، وسيتعاظم الدفاع عن حقوقها، وإن اتخذ ذلك الدفاع في مساره خطاً بيانياً غير قارّ. ذلك ما يقدمه بوعلي ياسين، باختصار مكثف وهامّ وشائق، في كتابه: “حقوق المرأة في الكتابة العربية منذ عصر النهضة”، الذي عاد فيه إلى كتّاب عصر النهضة، بل وإلى زمن أبعد، إلى الشاعر الجاهلي مسكين الدارمي، الجاحظ وإبن رشد، عرض أفكارهم ورؤاهم النيّرة إزاء المرأة. وينتقل بعد ذلك إلى عصر النهضة ومفكريها، ومن تلاهم، وبمختلف تيارتهم: من مجددين دينيين إلى ليبيراليين دينيين، إلى إنسانويين علمانيين، إلى علمانيين أيديولوجيين، بحسب تصنيفه لهم. فينظر بعين الباحث الاقتصادي، والسياسي والاجتماعي في آن معاً، مؤيداً تارة ومنتقداً تارة أخرى. وكان بوعلي ياسين قد أصدر، قبل ذلك، كتابه: “أزمة المرأة في المجتمع العربي الذكوري” في العام 1992 وإن كانت غاية اهتمامه بعصر النهضة: “فقط البحث في استعادة الثقافة العربية منذ عصر النهضة لموقفها الإنساني تجاه المرأة بعد قرون طويلة من الاستعباد لها…”؟ فما كان قصده من إصدار كتابه السابق؟ وكتب أخرى تهجس بالموضوع ذاته؟ أليس ذلك لإدراكه خطورة واقع لمرأة العربية المتردي؟ وما ينتج ذلك من أثر سلبي خطر ليس على المرأة وحسب، بل على الأسرة والمجتمع؟ ها هو يعلن في كتابه هذا أنه آن الأوان للوقوف: “… في وجه الرجل الذي تمادى في صراعه مع الطبيعة والسيطرة عليها إلى درجة تدمير هذه الطبيعة، وبالتالي تدمير المجال الحيوي الذي يهدد حضارته أو حتى وجوده بالفناء. ولا يجوز أن يخطر ببال أحد أن مسألة تلوّث البيئة في العالم العربي مسألة ثانوية…”. أليس هذا ما جنته يد الرجل، ذاك الذي يمثل المعسكر البطريركي، الممعن في عناده لتهميش المرأة وكفّ يدها عن مشاركة حقيقية وفعّالة في صنع المجتمع وتطويره؟ ولايزال يوغل في تفرّده، بشكل سافر حيناً، ومبطن أو يدعي الحيادية حيناّ آخر! إن الاستمرارية في تبني قضية المرأة والإيمان بتحقيق العدالة الإنسانية، وإعادة التوازن للحياة في الواقع العربي، أمرٌ يسجّل للباحث، غير أن أهمية الكتاب الحقيقية تكمن في أن بوعلي ياسين، وهو الرجل التقدمي المنتمي إلى معسكر الدفاع عن قضايا تحريرالمرأة، و”المؤيد لهذه المسيرة العظيمة”، يخاطب المرأة على وجه خاص، بروح الصديق الصّدوق، انتقدها، بعد أن نالت قسطاً من التعليم، وقسطاً من حقها في العمل، وآخر من حريتها، عبر مسيرة قرن من الدفاع عن حقوقها، في مختلف ميادين الحياة. إنه يخاطب المرأة المعاصرة، يهزّ أسرّة خمولها، يمزّق حجب الحرير الشفيفة أو السميكة التي تعمل هي، أحياناً، على التمسك بها راضية مطمئنة! إنه يباغتها بقوة إذ “يدعوها لأن تنزل بنفسها إلى الساحة، وتقاتل في سبيل حقوقها، ليس مع النساء ضد الرجال، ولا مع الرجال ضد النساء، بل مع الاتجاه الذي يريدها فاعلة في المجتمع، ضد الاتجاه الظلامي الذي يريد إعادتها إلى/ أو إبقاءها في عصر الحريم.” وله الريادة في ذلك على الصعيد العربي. دون إغفال أن ذلك مرّ مرور الكرام تقريباً عند آخرين سبقوه، ومنهم: السياسي والاقتصادي التونسي الطاهر الحداد، والمناضلة السياسية الشيوعية السودانية فاطمة إبراهيم، والسياسي البعثي الأردني منيف الرّزاز.
وبينما وجّه قاسم أمين خطابه إلى المجتمع عامة، والذكور خاصّة، معلناً عن العمل على تنشئة المرأة الجديدة، وبعد أن ظهرت المرأة الجديدة تلك، وأسقطت العديد من الأسئلة وأزالت الكثير من المعوقات والمثبطات أمام عزائم التحرّريين في مختلف الميادين، فإن بوعلي ياسين سيطلق عليها صفة: المرأة الحديثة.
وبعد ما يقدمه الباحث من وقائع وتوصيف دقيق لواقع المرأة الراهن، وما يذكره من معوقات لايزال كثير منها قائماً بسبب العادات الاجتماعية والتقاليد الرثة، وبسبب القوانين القضائية ولتشريعية، يجيب عن تساؤل طرح قبله بزمن قريب نسبيّاً، سؤال أصبح محوريّاً عند الكاتبة المصريّة سلوى الخماش: “هل تحرّرت المرأة فعلاً بعد دخولها الجامعة واشتراكها في الوظائف العامّة؟” وكذلك عند فاطمة إبراهيم: “هل تعني تلك التحوّلات التي حدثت بالنسبة للمرأة أنها قد تحرّرت كلّها؟” أما بوعلي ياسين، فقد وجد أن: “المرأة السورية تنتمي إلى القرن التاسع عشر، لكنها تعيش كإبنة القرن التاسع عشر في النصف الثاني من القرن العشرين.” وهو يقدّم البراهين على استنتاجه هذا، بعين المثقف الراصدة، ويشرح مكامن الأمراض الاجتماعية والاقتصادية، النفسية والفكرية، التي تعاني منها المرأة، والمجتمع السوري خاصة، والعربي عامة. ومن هنا أيضاً نجد أن مفردة “أزمة” التي تصدرت عنوان الكتاب كانت بمثابة قرع لناقوس الخطر. لنستشف بعد ذلك كله أن سخرية عاتبة لائمة تكمن وراء تلك التسمية: “المرأة الحديثة”!
ولعلّ أهم ما ورد في كتاب: “أزمة المرأة في المجتمع العربي الذكوري” هو الفصل الذي جاء تحت العنوان العريض: “مطبات في مسيرة المرأة العربية على طريق المساواة”. وتعود أهمية هذا الفصل من الكتاب إلى شمولية طروحاته والعرض التفصيلي فيه لمواطن الأزمة أسبابها ونتائجها، والبحث عن حلول ومنافذ خلاص منها.
يعود الباحث إلى أبجديّة الأزمة، إن صحّ القول، فيرى أن ابتعاد الفرد عن الطبيعة أحدث خللاً كبيراً، وذلك بتأثير المدّ المديني الحديث/ الحضاري، سواء كان جغرافياً أو نفسياّ، والانتقال من الريف إلى المدينة، بشكل قسري أحياناَ، وإرادي أحياناً أخرى. على أن ما أسقطه هجران الطبيعة، والإساءة إليها، أثّر على المرأة بشكل خاص بحكم تبعيتها الكاملة لزوجها إذ: “أن بعد المرأة عن الطبيعة لم يتعوّض بقربها الحضاري، كما أن سلبيتها هذه تنجر مع الرجل في فعله اللامسؤول تجاه البيئة وبالتالي مستقبل البشرية.” وهو بذلك لا يحمّل المرأة وحدها مسؤولية ذلك، إنما ينبهها إلى أين تسير راضية أو مرغمة، كي تعرف “وتكوّن رأياً وتصنع تصوّراً للتغيير ثم تحاول.” نلمس من ذلك إيمان بوعلي ياسين بأن المرأة هي المعنية الأولى في حل قضيتها وفي النضال من أجلها، كما أنها الأقدر على ذلك في ظل هيمنة البطريركية هذه التي لا تزال تعمل على إبقاء الحال على ما هو عليه، بل وإن استطاعت الرجوع بالمرأة لدى بعض المتطرفين إلى غياهب القرون الماضية.
إزاء هذا النوع من الخطاب الجديد الموجه إلى المرأة التي تسير في طريق النضال ومسيرة المساواة والتحرر، الخطاب الذي ينبهها إلى قضايا لاتزال تحول دون تحقيق العدالة الإنسانية في النهاية، لا تستطيع المرأة إلاّ أن تشعر بإشراقة في الروح.
كما أجاب بوعلي ياسين عن سؤال، لطالما طرح ولا يزال، سواء بنوايا خيّرة أو ظلامية خبيثة، منذ قاسم أمين حول طبيعة المرأة وقدراتها الذهنية والعقلية، فقد أدلى بو علي ياسين بدلوه بهذا الخصوص، فتحدث عن بداية الحضارة والتقسيم الجنساني للعمل الذي جاء عفوياً، كما يقال، ففرض على المرأة البقاء وقتاً أطول في المنزل لقضاء أشغاله من تنظيف وطبخ وتربية الأولاد، وفي العمل بالزراعة والرعي، ليصل بعد ذلك إلى القول: “مهما قيل في عفوية التقسيم الجنساني للعمل البشري، فإنني لا أراه إلا مرتبطاً بشكل من الأشكال بالتخصص البيولوجي الفيزيولوجي للمرأة في العمل والإرضاع، وهي عملية طبيعية يتشارك فيها الإنسان مع بقية الحيوانات الثديية… في الحقيقة لم تكن المسألة مسألة بيولوجيا أو فيزيولوجيا، بل مسألة واقع عاشته المرأة أو فرض عليها وكوّن لديها سيكولوجيا ومهارات جسمية وعقلية مناسبة.” ويرى أن تحول وسائل الإنتاج إلى ملكية خاصة بتأثير الحضارة، وانقسام المجتمع البشري إلى طبقات، سمح للمجتمع الطبقي الرجالي بترسيخ “التقسيم الجنساني للعمل وسخره لمقتضياته جاعلاً منه الأساس الذي يقوم عليه اضطهاد المرأة.” وقد استمر ذلك آلافاً من السنين، إلى أن استطاعت المرأة الخروج إلى معترك الحياة الاجتماعية، والمشاركة بالعمل الجماعي, وذلك بتأثير التحولات الاجتماعية البرجوازية الثورية وسيطرة الرأسمالية على الأنشطة الآقتصادية، إضافة إلى تأثير التقدم العلمي والصناعي ونضال الإنسان التحرري. مقابل ذلك فإن المرأة: “باتت معنية إلى درجة قصوى، باتت مسؤولة وتتحمل على عاتقها العالم الخارجي.”
من الجدير بالذكر هنا أن التحذير الذي يوجهه بوعلي ياسين إلى المرأة، ينبهها إلى خطورة بقائها في الهامش، كان قد سبقه إليه قاسم أمين إنما وجهه إلى المجتمع كله، وإلى الذكور خاصة، على اعتبار أن الدعوة إلى امرأة جديدة كانت دعوة حديثة العهد: “وأقول ولا أتردد في ما أقول: إذا لم تبلغ رقة الإحساس عندنا إلى حدّ يرتبط الرجال فيه مع النساء على نحو ما ذكرنا، واستمر الرجال على إهمال النساء وتركهن في هذه الحالة الساقطة التي يتألم الكل من آثارها وهم لايشعرون، ولم يبادوروا إلى أن تكون رفيقة مساوية للرجل، …، فكل ما فعلناه إلى الآن وكل ما نفعله في المستقبل لترقية شأن أمتنا يضيع هباء منثوراً!.”
بيد أن تحمّس بوعلي ياسين الشديد كي تحيا المرأة حياة طبيعية حقيقية وبناءة فاعلة ومسؤولة، روحاً وفكراً وجسداً، لم يمنعه من التحذير من الدعوات التي تروّج لتأنيث العالم، وقد تكررت ملاحظته هذه في كتابه عن عصر النهضة، حين أورد مأخذه على نوال السعداوي التي طالبت بتحرر المرأة ومساواتها، ويرى أنها وضعت نفسها في قطب أعداء الرجل: “حيث جعلت الأنثى هي الأصل، والذكر فرعاً، وهذا ليس في صالح المرأة ولا الرجل، لأن العلاقة بينهما سنعود بذلك إلى ما كانت عليه من الصراع في تبادل المواقع، عوضاً على أن تصبح علاقة إلفة وتعاون.” فهو ينشد عالماً متوازناً، وهذا لن يكون بغير الرجل والمرأة معاً، كعملية الإنجاب. من هنا، وحين يتعرض لمسألة مهنة المرأة، يحذّر بوعلي ياسين من خطورة اختيارها مهناً بعينها، كالتعليم والتمريض أو القبالة، التي لا تضيف إليها شيئاً أكثر مما يضيفه جوّ البيت الذي يأخذ جلّ وقتها، مما يؤدي إلى طغيان الذاتية الضعيفة والأنانية على الموضوعية الاجتماعية التي تجعل المرأة المنفعلة فاعلة حقيقية. كما حذّر من محاولة تأنيث التعليم، وذلك كي يعيش الطفل حياة صحيّة متوازنة، حياة عائلية ومجتمعية، وانطلق في ذلك من ضرورة تعليم المرأة، فقد ركز بوعلي ياسين على البحث في شؤون العائلة التي تضم المرأة المتعلمة (الحديثة)، والتغيرات التي طرأت عليها، سواء من حيث المسكن وبنائه المعماري الحديث، أو تجهيزاته الحديثة الغربية المنشأ، هذا إضافة إلى حصر انشغال المرأة الهوسي أحياناً بأعمال البيت والتنظيفات، إلى اهتمامها الزائد غير الواعي وغير التربوي بأطفالها، مما يدفعها إلى الانغلاق بين جدران البيت راضية بعيداً عن الانخراط في المجتمع وقضاياه، لإثبات ذاتها كعاملة فاعلة لتطويره. وهو يوضّح ما آل إليه وضع المرأة، وفاعليتها الحقيقية، حيال هذه الحياة المستحدثة المقلدة للغرب، بيد أنها تقلده بطريقة هوسية وسطحية شكلية وذلك في استهلاكها للمنتجات الغربية الصناعية المختلفة مع أحدث صرعات الأزياء.
كما نبّه قاسم أمين، في بداية القرن العشرين، المرأة الجديدة إلى أن تجيد استغلال وقت الفراغ وتمضيته في المطالعة لتثقف عقلها وتهذب نفسها، وهي ستجده بالتأكيد مهما عظمت أشغالها ومهما كان وضعها العائلي، فإنه يقول: “لو خصص نساؤنا للمطالعة عشر الوقت الذي يقضينه في اليوم في البطالة ولغو الكلام والخصام لارتقت بفضلهن الأمة المصرية ارتقاءً باهراً.” كذلك يخاطب بوعلي ياسين المرأة العربية الحديثة، في نهاية القرن، لافتاً انتباهها إلى وقت فراغها “الذي يذهب في سبيلين: أولاً، في انشغالات غير ضرورية موضوعياً، شبه هوسية، ثانياً: في تسليات يومية مديدة الزمن، شبه تخديرية.” من هنا هي صادقة حين تشكو من ضيق الوقت الذي لا يترك لها مجالاً للمطالعة مثلاً! في حين نجدها تتهافت على متابعة مجلات الأخبار الفنية التافهة منها، وفن الطبخ، ومجلات الأزياء وآخر الصرعات الغربية التي لا تهم المرأة الغربية المنتجة في شيء! فالمرأة السورية خاصة والعربية عامة، لا تنشغل انشغالاً فعلياً بتجربة المرأة الغربية وذلك في علاقتها مع ذاتها كأنثى، وعلاقتها بالرجل، ثم بالعمل والإنتاج. علماً أن نظرة بوعلي ياسين إلى الغرب تختلف عن نظرة قاسم أمين، ويبدو القول نافلاً، بعد مرور قرن من الزمان على تطور المجتمعات الغربية في ظل مسيرة البرجوازية والرأسمالية والحركات الثورية والفكرية العديدة وصولاً إلى الثورة التي قلبت العديد من المفاهيم والقوانين نالت المرأة الغربية بفضلها الكثير من حقوقها فعلاً، وأقصد الثورة الطلابية عام 1968 التي شهد بوعلي ياسين أحداثها وتطوراتها ونتائجها.
ولما كان بوعلي ياسين قد تتبع ما أنتجته الرأسمالية الغربية من سلبيات وأزمات جديدة، فإنه نبّه إلى أنه: “مهما كان الغرب الرأسمالي قد أفاد المرأة العربية في مسيرتها التحررية والمساواتية، فإن كل ما يفقد جذوره يكون عرضة للتشتت والاندثار عند أول هبة رياح، ناهيك عما قام به الغرب الرأسمالي من ابتعاد عن مبادئه الثورية وتنكر لها، وما يصيبه الآن من تدهور قيمي وانحلال.”
في مجال آخر من المقارنة، بين طروحات بداية القرن العشرين ونهايته، نعرّج إلى سبب آخر وخطير يخصّ الأيديولوجية العربية، التي كانت ولاتنفك تعاني من تناقضها أو ازدواجيتها، فقد تساءل قاسم أمين: “ويا عجباً! كيف نتوقع الخيبة للرجل منا إذا كان ناقص التربية، قليل المعرفة، عديم الاختيار. ولا نتوقع تلك الخيبة للمرأة إذا اشتركت معه في هذه النقائص؟” ولئن كان سؤال قاسم أمين هذا عامّاً، فإن بوعلي ياسين قد وضع النقاط على الحروف وأسهب، إذ يقول: “إلا أن الأيديولوجيا العربية غير منسجمة مع نفسها على طول الخط…” إلى أن يصل للقول: “مسكين هذا الإنسان الذي سيضطر للتوفيق بين متناقضات الأيديولوجيا العربية.” ويورد ما يؤكد رؤيته تلك، فمثلاً, مسألة المهر التي تحول المرأة إلى سلعة، شيء، وإن كانت المرأة قبل ذلك لا ناقة لها ولا جمل، كما يقال، فإن المرأة (الحديثة) تسهم في تسليع نفسها وتشييئها، حين تقبل بعد أن باتت عاملة، وبالتالي ذات دخل، بأن يدفع الرجل ثمنها، بل إن هذا المهر بات يرتفع طرداً مع شهادة المرأة العلمية، فنجد أن مهر المهندسة، مثلاً، أعلى من مهر خريجة المعهد! في المقابل، بات اختيار الرجل لزوجة المستقبل قائماً على المصالح الشخصية، مما يفقد العلاقة الزوجية الكثير من العقلانية والإنسانية والسعادة.
حالة أخرى طرحها وتبرز ذلك التناقض وهي نظرة المجتمع العربي إلى المرأة غير المتزوجة، إذ يسميها عانساً، وهي نظرة اتهام وإدانة بالإخفاق، في حين أنه يقدس العذراء! فأي لا معقولية وتناقض في ذلك! إذ: “كيف تكون العذرية مقدسة وهي توصل إلى العنوسة، إن جعلت الفتاة منها مبدأ في حياتها؟!” وتجدر الإشارة هنا، إلى أن بوعلي ياسين يدرج تعريفاً مختلفاً للمرأة العانس، فيقول: “إن “العانس” هي المرأة التي تجاوزت– في عرف المجتمع- سن الزواج دون أن تقيم علاقة جنسية مع رجل، بما فيها علاقة الزواج، فالمرأة، التي لها علاقة جنسية بزواج أو دون زواج، لا تعتبر عانساً.”
وإن ركّز بوعلي ياسين على ازدواجية الأيديولوجية العربية، في نظرتها الظالمة إلى المرأة، نجده بالمقابل ينبه إلى ازدواجية المرأة ذاتها، تلك الازدواجية التي تتمثل في اتخاذها موقفاً من بنات جنسها، يصل بها إلى مؤازرة الرجل ضدهن، ومحاربة قضيتهن. زد على ذلك طريقة تربيتها لابنها ولابنتها، ففي حين نجدها تحارب جنس الرجال ممثلاً في زوجها، إلاّ أنها تربّي ابنها على أن يكون رجلاً مثل أبيه، أي متميزاً عن النساء وممتازاً عليهن، وحين تربّي ابنتها على التكيّف مع الواقع المفروض! وهذا من جانب المرأة الحديثة، السائرة في طريق التحرر والمساواة، خطأ لا يغتفر.
بعد كل هذا، من الاختصار والإيجاز لما طرحه قاسم أمين وبوعلي ياسين، من أفكار متشابهة، نجد أنفسنا ندور في حلقة مفرغة، فما كان لا يزال معظمه قائماً! فهل نحتاج إلى تجارب إضافية تمتد لمائة عام أخرى، لتشهد المرأة قيامتها وانبعاثها الحقيقي، ويأتي زمن يحكي ذكريات عن مجتمع بطريركي استبدادي ولّى؟ نتساءل، ونحن نشهد، وقد أشرف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين على الانتهاء، هذا المدّ الأصولي المتخلف، وهذه الردّة للحجاب، وتزايد دور النشر المطبّلة لهم، والقنوات الفضائية التي تهذر أغلب الأحيان بما لا يغني أو يسمن، ودعاتها الذين يدعون إلى عالم جاهل ظالم للمرأة أولاً، وللمجتمع ثانياً، يتجاهلون قول النبيّ محمد، ويزاودون عليه، وهو الذي دعا بواو الجماعة، دون تمييز ذكر عن أنثى، قائلاً:” اطلبوا العلم ولو في الصين.” وذلك لإدراكه أن علوماً هامة وعديدة لم يرد ذكرها في كتاب القرآن، وعلى الإنسان السعي لمعرفتها وتعلمها! فما بالنا والعلم قطع بعد ذلك مسافة أربعة عشر قرناً، وصولاً إلى عصر التكنولوجيا الذي نعيشه؟ والمؤسف حقاً أن ذلك يجري تحت رعاية الحكومات العربية التي تدعي التنويرية والعلمانية ! ورغم ذلك، فإن أمثال قاسم أمين وبوعلي ياسين، بفكرهما النّير الجريء، يدفعان إلى التفاؤل، وهما اللذان كان متفائلين، وذلك لإيمانهما بتطور الإنسانية، فتلك ” سنة الفطرة”، بحسب قاسم أمين، ” وقوة الحياة”، بحسب بوعلي ياسين، التي لابد أن تظل منتصرة، وإن تعثر المسار، أو حاول الظلام أن يعتم الدرب مرة أو مرات، رغم أنف الأيديولوجيات المحافظة.
موقع الآوان