سلالة الحرية
بوعلي ياسين : أحد وجوه الفكر النّقديّ(5)
كريم أبو حلاوة
تبدو فكرة التحرّر الإنساني قارّة في تفكير “بوعلي ياسين” وكتاباته، على ما تشهد به مؤلّفاته ذات الطابع الاقتصادي، حيث يشكّل الاستغلال والبؤس الإنساني وأشكال التخلّص منهما، أحد هواجسه البارزة، في حين ينصبّ اهتمامه على التحرّر العقلي عبر نقد وتحليل كلّ ما يحول دون انعتاق الوعي الإنساني، سواء تستّر بلبوس الدين أو السياسة أو الجنس في ثالوثه المحرّم الشهير. أما التحرّر الاجتماعي من الظلم والجهل والتمييز فقد كان حاضراً، بتلاوين ومستويات متعدّدة، بسلوكه ومؤلفاته ومواقفه الحياتية.
فهل يشكّل هذا الانشغال العميق المديد بشرط التحرّر الإنساني البؤرة المركزية التي أضفت الانسجام والتماسك على مؤلفاته، وجعلت منه داعية للحرية وحاملاً للوائها، رغم كلّ ما يباعد بينه وبين الليبرالية التي احتكرت تاريخياً حقّ الدفاع عن الحريات والحقوق الفردية؟ أم أنّ رؤيته للعالم قد تجاوزت سقف الحريات الليبرالية؛ من خلال العناية بحرية الشعوب والأمم، واعتبار حقوقها الأساسية في الاستقلال وتقرير المصير والتنمية هي خطوة جوهرية باتجاه تجذّر الحريات، وتمكين البشر من نقلها وتحويلها من حقوق وحريات “صورية” إلى ممارسات ملموسة، على ما تشكو من نواقص، كما حدث في مجتمعات وبلدان دولة الرفاه والضمان أو بلدان “الدولة الراعية”؟
سنترك الإجابة على التساؤلات السابقة للقارئ المهتمّ، مع إشارة إلى أنّ أهمية السؤال مع ما يفتحه من أفق، أو ما يخلخله من وعي سائد، تفوق في أحيان كثيرة الإجابات السهلة أو الجاهزة التي يستند فيها أصحابها إلى يقين ثابت، يقصي القلق الملهم واللوبان المستمر في معانٍ وأسئلةٍ وفضاءات، لا يوفّرها اليقين المطمئن.
وتماشياً مع هذا الوعي المفخّخ والحذر، وفي محاولة لاختبار قدراته الأدائية، سنقارب فكرة محورية برزت في مؤلف بوعلي ياسين: “خير الزاد من حكايا شهرزاد” مؤدّاها أنّ شخصية شهرزاد بما تملكه من مهارات سردية آسرة ومواهب تمزج غوايات الجسد الأنثوي بغوايات القول والبوح، والتي تحوز في عوالم ألف ليلة وليلة نفوذاً وتأثيراً وحضوراً لا يضاهى، قد تحولت في الوعي اللاحق إلى رمز لتحرّر النساء، يضاهي رمزية سبارتكوس الذي قاد ثورة العبيد ضدّ روما وبرهن، رغم الفشل الذريع الذي مني به مع الآلاف من العبيد، أن الحرية ممكنة ومطلوبة، بل إنها نسيج الوجود الإنساني بحسب تعبير سارتر.
ولعلّ أوّل قطع مع الوعي النسوي السائد، يتمثّل في النظر إلى شخصية شهرزاد بصورة مغايرة، الأمر الذي أفضى إلى تحولٍ جذريّ في الحيثيات والأسلوب والنتائج، فحسب تأويل بوعلي ياسين لا تستحقّ شهرزاد هذه المكانة التي تبوأتها بوصفها رمزاً لتحرّر المرأة، أكثر من ذلك، تعتبر الشخصية الشهرزادية متواطئة مع الذكورة والمجتمع الأبويّ ضدّ بنات جنسها، فهي بممارساتها وسلوكها قد استبطنت رغبات الرجال وأرضتها بما يفوق توقّعاتهم، أي أنها استخدمت ذكاءها وجمالها للقيام بأدوار نمطية تحاكي ما يريده الرجال وتكرّسه بوصفه تعبيراً عن طبيعة الأمور. وبصيغة ما استخدمت شهرزاد ما يسمى “سلطة المداورة” التي تعتمد الاتكاء على أنوثتها أو دهائها، وكيّفت رغباتها بما لا يتعارض مع ما هو مطلوب منها في الثقافة الذكورية، واعتبرت ذلك نصراً لها ولبنات جنسها، في حين أن ذلك يشكّل في عمقه الفكريّ والنفسي استلاباً وجودياً، وشكلاً من أشكال الوعي الشقيّ الذي يفضي بصاحبه إلى أن يكون ملكياً أكثر من الملك! الأمر الذي يتجلّى في سلوك غالبية النساء المعاصرات اللواتي يُعدن، بوعي أو بدونه، إنتاج نظام الرموز وتكريسه عبر التربية والتكيّف والاندماج، أو عبر التسليم بصلابة الأمر الواقع وعبثية مواجهته، أو حتى من خلال التمرّد الفردي، والذي غالباً ما يرتدّ على القائمات به ثمناً كبيراً يصعب تحمله.
وإذا كان التحرّر من ضرورة ما، طبيعية كانت أم اجتماعية، يشترط وعيها، فإننا نسارع إلى القول بأن وعي النساء بخصوصية تحرّرهن لا يشكّل للأسف سوى مدخلٍ أوّليٍّ لقضية محفوفة بالاشتراطات التاريخية والثقافية والاقتصادية والحضارية، الأمر الذي يجعل تحرّر النساء، برأينا، في آخر قائمة قضايا التحرّر المنتصرة وتتويجاً لها. فقد قطع البشر شوطاً كبيراً في وعي الإكراه الاقتصادي وصيغ الاستغلال، على الرغم من استمرار التفاوت واللامساواة على نطاق واسع في عالم اليوم، وقطعت قضية التمييز بسبب اللون أشواطاً مهمّة لدرجة أصبح فيها الاعتراف بالتمييز العنصري مخجلاً في الوعي السائد، لكن التمييز الجنسي بقي منشراً ومقبولاً، وفي أحسن الحالات مسكوتاً عنه، في مناطق وثقافات واسعة حول العالم بما فيها المجتمعات الغربية المتقدّمة، الأمر الذي يشير على خصوصية وتعقيد القضية النسوية وتشعباتها.
لكن، ومن جانب آخر، ألا يمكن لشخصية شهرزاد أن تكون ملهماً إذا ما أخذنا شرطها التاريخي بعين الاعتبار؟ أليس القول سلطة، والقصّ معرفة وغواية في آن معاً؟ وهل النسوية في عمقها سوى امتلاك وعي مغاير يسهم في تقويض الوعي البطريركي، ويعمل على كشف تناقضاته وتراتبيته التي ما فتأت تخص الرجل بالعقل والمركز والأهمية، وتعطي النساء بالمقابل صفات العاطفية والهامش والشرّ؟ وهل تسهم خلخلة هذه العلاقة وتبيان لا منطقيتها في انتشار خطاب أكثر رحابة وإنسانية، يشترك في صوغه الرجال والنساء معاً، على ما فعلت الكتابات الما بعد حداثية المعاصرة؟
وإلى أن تعي شهرزاد شرط تحرّرها بذاتها، سيبقى الانعتاق الإنساني مثلوماً وناقصاً، بل سيبقى شاهداً وجودياً على ما خلقته عصور العبودية الطويلة في نفوسنا نحن المعاصرين.
كفى بوعلي ياسين أنه من سلالة الحرية وحسبه أنه قد بدأ!!.
موقع الاوان