حزب الله”.. خطاب يحترف التناقضات
زياد ماجد
قد يُقال إن معظم القوى السياسية في لبنان تقدّم مواقف وخطابات متناقضة، وتُضطر بين الحين والآخر، بفعل عوامل داخلية أو خارجية، الى تغيير بعض المواقف والمصطلحات أو التراجع عن بعض ما تمسّكت به في مراحل سابقة. وهذا صحيح.
وقد يقال أيضاً إن المكوّنات الأهلية للطبقة السياسية اللبنانية في معسكريها الراهنين أقوى من المكوّنات المدنية، وإن خطابها التبسيطي هو الطاغي وهو القادر على استثارة العصبيات والاستنفارات. وهذا أيضاً صحيح، وهو بدأ يتجلّى في التحضير للانتخابات من خلال إفراغها في الكثير من الدوائر من البعد السياسي أو المواطني للتنافس الذي كان يُفترض أن تقوم عليه.
على أن ما هو صحيح أيضاً، هو تفوّق “حزب الله” على سائر مكوّنات الطبقة السياسية في قدرته على تقديم كمّ من التناقضات يكاد لا يمضي شهر دون الوقوف على أمثلة تجسّده. وهو إذ يتخبّط في تناقضاته الواحد تلو الآخر، يعوّض عن ذلك بعنف لفظي يعطفه على الهالة الدينية وعلى الشعارات الجهادية وعلى الصرامة التنظيمية والأمنية والعسكرية لإضفاء صبغة تماسك على أدائه وأدبياته.
ولعل استعراض أمثلة من الأشهر الماضية يوضح ما نذهب إليه.
– فبعد أن ركّز الحزب حملته خلال اعتصامه الشهير في وسط العاصمة على الأكثرية “الوهمية” داعياً الى انتخابات مبكّرة تثبت من هي الأكثرية “الفعلية” فتحكم الأخيرة فيما تعارض الأقلية، ها هو اليوم يتحدّث عن إلزامية المشاركة في الحكم وإلزامية الثلث “الضامن” فيه بمعزل عن الفائز أو الخاسر. وبعد أن كان الحزب يشير الى “مفصليّة” هذه الانتخابات ونحوها لتحديد موقف أغلبية اللبنانيين من المقاومة أو “العمالة”، صارت تصريحات مسؤوليه تتحدّث اليوم عن انتخابات عادية وتستنكر على من يعتبرها مصيرية أو استثنائية سعيه التعبوي.
– ولم يفوّت الحزب مناسبة في السنتين الفائتتين دون الإشارة الى ارتهان الأكثرية للمشروع الأميركي ولكونها أداة لهذا المشروع تلتقي موضوعياً مع إسرائيل. ثم انقلب بعد فترة على مؤدّيات اتهامه وراح يتحدث عن الشراكة وعن الوطن الذي لا يُبنى بالاستثناء (قابلاً مشاركة الأدوات والمرتهنين بالحكم، ومتحدّثاً عن بناء الدولة معهم). وإذا به منذ أيام، يعود ليردّد أن “الشركاء” المفترضين مستقبلاً في الحكم والوطن والعيش الكريم هم “إما عملاء وإما أغبياء” وأن لبنان لا يحتاج “لا لأغبياء ولا لعملاء”.
– ويكرّر الحزب رداً على القائلين له بإن الدولة وحدها مسؤولة عن الوطن وعن امتلاك السلاح للذود عنه: “ليش أنتو دولة؟ أعطُنا دولة وتعالوا بعد ذلك طالبونا بالسلاح!” هكذا، تصبح المشكلة أن السلاح “المقاوم” موجود لأن الدولة ضعيفة. أما أن السلاح سبب من أسباب ضعف الدولة، وأن قرار استخدامه في الداخل وفي الخارج والبنية التحتية الحاضنة له كما العلاقات الإقليمية المؤمّنة مدده والمحدّدة أوان اللجوء إليه عقبات أمام قيام أي دولة، ولو بالحد الأدنى، فالمسألة فيها نظر!
– ولطالما تباهى قادة “حزب الله” بأنهم يقاتلون باسم الأمّة (غير المحدّدة هويّتها وجغرافيتها وحيثياتها، وحتى لو زُعم أن المفردة مردودة الى معناها الديني، فالاجتهادات حول المعنى تطول وتتعدّد). لكنهم بعد “الصدام” الأخير مع مصر (وهي بالمناسبة من أكبر دول “الأمة”) وتوقيف أحد أخوانهم في الأرض المصرية، راحوا يعودون الى الوطنية، والى الحزب اللبناني “المتواضع” على ما قال السيد نصر الله. يعودون بالتالي الى هوية ترابية “ضيقة” يصعب معها وبها تبرير تدخّل في شؤون “الأمة” لا يقتصر على الكلمة والفكرة (وهما حق لا جدال فيه) بل يدعو لإرسال الصواريخ وبناء المنظومات الأمنية وشبكات تهريب السلاح دفاعاً عن قضية “الأمة” نفسها.
طبعاً كل ذلك لا ينسينا تعدّد روايات الحزب حول أسباب ملكيّته السلاح، وحول أسباب حرب تموز، وحول الاغتيالات واستنكار الاتهامات العشوائية فيها. وهذا غيض من فيض مسار طويل لم يهدأ صخبه ولم تتباطأ انفعلاته، ولو حاول الصراخ وسبّابات التهديد التعمية على هشاشته، في زمن قد لا يميّز المتوتّر فيه بين الهشاشة وسواها.
غير أن الأدهى اليوم هو أن ما يواجه “حزب الله” وركاكة مواقفه لم يعد يبدو أكثر من مشاريع بمجملها طائفية وأهلية مثله، ولو من دون سلاح وإيديولوجيا شمولية وادّعاء حقوق تخوين وتصنيف (وهذه أمور ليست تفصيليةً، وهي تكفي حالياً للاختيار)، أو فولكلورية باحثة عن عباءات دينية وعن مشروعيات عائلية آفلة لا تقوى على مواجهة الحزب ولا تملك في أعين جمهوره أو المتردّدين تجاهه أية مصداقية.
هي معضلة تبدو عصيّة على الحل إذن. وهي تكوينية ربما في بلد مثل لبنان. والبحث الوحيد الممكن صار في منعها من التحوّل منطلقاً لعنف جسدي يترجم الألفاظ العدوانية وخلفيتها الفكرية المشتتة والحبلى بالتناقضات الى أفعال في الشارع. ذلك أنه فقط في غياب العنف وفي تقلّص التوتر يمكن مواجهة الهشاشة والتناقضات والبحث في ما يتخطّاها لاحقاً، ويتخطّى شبيهاتها…