لبنان وسوريا: الدولة والمشاع
سليمان تقي الدين
مؤتمر العلاقات اللبنانية السورية الذي انعقد في دمشق الأسبوع الماضي ولأيام عدة يكاد يختصر باللقاء الذي تمّ مع الرئيس بشار الأسد.
باستثناء بعض المداخلات التي تناولت أزمة العلاقات في العقود الثلاثة الماضية فقد كان المؤتمر محكوماً بموضوعات تاريخية تجاوزها الزمن وليست صالحة لفهم المشكلة الراهنة. الحدث بحد ذاته مهم والرغبة المشتركة في تصحيح العلاقات أهم. لكن الأسئلة التي تحتاج إلى إجابة ظلت مكبوتة ومسكوتاً عنها لأن كلا الفريقين في لبنان وفي سوريا لم يقدما على مراجعة نقدية لتاريخ العلاقة ومفاصلها ومحطاتها الأساسية.
نحن الآن أمام مطالعتين قاصرتين: الأولى سورية تختصر أسباب تصدّع العلاقات في الهجمة الاستعمارية من جهة وفي مسؤولية بعض الرموز السورية التي أدارت هذا الملف وتسبّبت بالأخطاء… والثانية لبنانية أسوأ من ذلك بكثير ما زالت تعتقد أن لدى سوريا رغبة في استتباع لبنان لدواعِ عقائدية وتسيء التعاطي معه لأنها تريده مجرد حديقة خلفية لمصالح نظامها.
على مستوى العلاقة التاريخية بين لبنان وسوريا هناك تكامل بين الموقعين في مواجهة التحديات الاستعمارية منذ الثورة على الانتداب الفرنسي مروراً بمواجهة الأحلاف عام 1958 وصولاً إلى أطوار الحرب الأهلية المختلفة منذ العام 1975 حتى الآن. لبنان بوابة سوريا والمشرق العربي وسوريا العمق الاستراتيجي للبنان. لقد كانت على الدوام للبنان قضية وطنية نهض بها شعبه وأخذ الدعم من سوريا ولم يكن لبنان مجرد ساحة للنزاعات الإقليمية كما يحاول البعض أن يروّج. ولا يمكن تجاهل الوجه الإيجابي من التدخل السوري لمنع تقسيم لبنان ووقف الفوضى فيه والمساهمة في دعم مقاومته لتحرير أرضه.
لكن الإدارة السياسية والأمنية والاقتصادية بعد الطائف انطبعت بطابع الوصاية المشتركة السعودية السورية مع رضى إقليمي ودولي وبإنتاج طبقة سياسية تقاسمت المصالح مع الفريق السوري الذي تولّى إدارة الملف اللبناني بشقيه السياسي والأمني. المحصلة الأولى التي جناها اللبنانيون هي في تعطيل نظامهم السياسي الديموقراطي لأن القبضة الأمنية السورية هي التي أدارت هذا النظام ورتبت مواقع النفوذ ووزعت المسؤوليات وركزت القوى وصنعت الزعامات وجعلت منها دكتاتوريات خارج المساءلة والمحاسبة وهمّشت قوى وأقصت أخرى وأقامت آليات للنزاع الطائفي وللمصالح تسبّبت بالفوضى الكيانية الباردة. لقد أدى هذا الوضع إلى عدم رضى عام حتى من قبل المستفيدين والمحظيين الذين يطمحون إلى المزيد والذين أنشأوا نظاماً من المافيا لا تهمه القضية الوطنية أو بناء الدولة أو حماية الوطن. لقد تمّ إفساد الحياة السياسية بتشويه قيم اللبنانيين وأخلاقهم وبالعبث بالقواعد والمعايير. لقد أصبح المال السياسي من جهة والنفوذ الأمني من جهة ثانية واستباحة القانون مصدراً لبناء نخبة حاكمة منفصلة عن هموم شعبها مستهترة بأية اعتبارات غير الحصول على دعم أصحاب الوكالات الطائفية المحتكرة لقرار الدولة.
لقد تمّ تطويع المجتمع المدني وتفكيكه. فلا الأحزاب ولا النقابات ولا الهيئات الأهلية كانت قادرة على الصمود في وجه الزحف الهادر للقوى الطائفية التي تقاسمت الدولة ومواردها في المجالس والصناديق ورسمت لنفسها قوانين انتخابات تؤمن تجديد سلطتها ولم يفكّر أحد في تطبيق الدستور ولا إصلاحات الطائف.
اللبنانيون اليوم هم فئات عدة ثمرة هذا التاريخ العكر. انتهازيون ذهبوا في اتجاه الرياح الإقليمية والدولية. طائفيون ومذهبيون ورثوا لعبة الصراع على السلطة من خلال زعمائهم لأن هؤلاء الزعماء هم ملاذهم وليس الدولة. مهمّشون وأيتام لم يعد النظام السياسي الطائفي يسمح لهم بالحضور والفعل، تطوّقهم العصبيات وتحاصرهم المصالح. مراهنون على الفريق الآخر الذي ما زال يغتذي من دعم سوريا وما وراء سوريا. يائسون منكفئون منسحبون من المشاركة في الحياة الوطنية. وطنيون عروبيون مغلوبون بلعبة السلطة والتحالفات المتناقضة وغياب المشروع الوطني والإصلاحي. لبنان وسوريا حكاية دولة قوية وبلد ضعيف لم يبلغ الوطنية والدولة.