صبحي حديديصفحات أخرى

قتال أبيض

null
صبحي حديدي
عند قراءة هذه السطور تكون كأس الأمم الأوروبية لكرة القدم قد غادرت الجزر اليونانية، وعادت مجدداً إلي أوروبا الغربية، إسبانيا أو ألمانيا، بعد أن انتصر المفضَّلون ، بحسب المصطلح الشائع في رطانة نقّاد اللعبة، وفشل الدخلاء علي أمجاد الكرة (تركيا والإتحاد الروسي) في تعكير صفو المبدأ التراتبي بين محتكري حيازة الكأس والطامحين إلي كسر ذلك الإحتكار. وأمّا الجديد ـ القديم فهو الأرقام الفلكية التي اكتنفت بطولة هذه السنة: قرابة تسعة مليارات مشاهد علي شاشات التلفزة، في 180 بلداً؛ 100 مليون زائر للموقع الإلكتروني الخاصّ باتحاد الكرة الأوروبي، 12 مليار صفحة تمّ تصفّحها، أيّ بمعدّل يزيد أربعة أضعاف عن بطولة 2004؛ و234 مليون دولار مقدار الميزانية التنفيذية للبطولة، كما قدّرها الإتحاد.
وفي مناسبات كروية كهذه، حيث تتجسّد جاذبية اللعبة مثل اقتصادها السياسي، من الإنصاف أن يعيد المرء اقتباس مقالة قصيرة كتبها الروائي الأمريكي بول أوستير حول أبرز دروس الألفية المنصرمة، اعتبر في سطورها أنّ هذه الرياضة هي البديل عن سفك الدماء في الحروب الكونية، وكذلك في الحروب الأهلية. إنها معجزة الأمم الأوروبية في ممارسة كراهية الآخر دون الإضطرار إلي تمزيق أوصاله في ساحة قتال، و البلدان اليوم تخوض حروبها في ملاعب كرة القدم، بجنود يرتدون السروال القصير. والمفترض أنّ هذه لعبة، وأنّ التسلية هي هدفها. لكنّ الذاكرة الخفية لتناحرات الماضي تخيّم علي كلّ مباراة، وكلما سُجّل هدف ترددت معه الأصداء القديمة للإنتصارات والهزائم .
من جانبه يري ألبريخت سونتاغ، الكاتب والأكاديمي الألماني ـ الفرنسي، أنّ كرة القدم ليست أفيون الشعوب بقدر ما هي الملاط الذي يرصّ حجارة الفخار القومي في بنيان فريد من نوعه، عابر للحساسيات السياسية والإجتماعية والفكرية والطبقية، ولهذا لا يتردد في إطلاق العبارة الدراماتيكية: كرة القدم هي إسمنت الأمم ! وهو يقتبس فوز ألمانيا بكأس العالم سنة 1954 بوصفه حدثاً فارقاً لا يقلّ أهمية في ضمائر الألمان عن انتخاب المستشار كونراد أديناور: السياسيّ الذي أعاد المانيا إلي صفّ الأمم الكبري بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، ومثله فعلت الكرة! وليس غريباً، بذلك، أن تكون مظاهر تكريم أديناور (الطوابع التذكارية، النصب التذكارية، المتاحف والمراكز…) ليست دائماً أرفع، في الكمّ أو في النوع، من مظاهر تكريم المدرّب الألماني الشهير سيب هيربرغر الذي قاد الفريق الوطني إلي الظفر تلك السنة.
وفي الصدد ذاته، قد يصلح ملعب كرة القدم نموذجاً أمثل لبرلمان جامع لشعوب العالم قاطبة، أو ربما مجلس أمن دولي نموذجي تتساوي فيه الدول من حيث الخضوع لقوانين احتساب الهدف والخطأ وضربة الجزاء، وحيث لا كيل بمكيالين، وليس لأمّة أن تحتلّ عضوية دائمة وتسلط سيف الـ فيتو علي رؤوس الآخرين. ومن الواضح أن البُعد التعددي بالذات كان في أذهان الفرنسيين حين نظّموا بطولة 1998 وحرصوا أن تكون الإحتفالات التمهيدية ليلة افتتاح المباريات بمثابة احتفاء بتعدّد الثقافات والهويات أكثر بكثير من الامتداح الروتيني المعتاد لـ وحدة قارّات العالم تحت راية الرياضة (كما في الشعار الأوليمبي علي سبيل المثال). وفي ساحة الكونكورد وقف العمالقة الأربعة ـ بابلو الأمرو ـ هندي، و موسي الأفريقي، و هو الآسيوي، و روميو القوقازي ـ لا لكي يعانق واحدهم الآخر كما يمكن أن يحدث في الكليشيه الميلودرامية لوحدة الإنسانية، بل لكي يتقابلوا وجهاً لوجه، ولكي يمثّل كلّ منهم مزيجاً حضارياً وثقافياً وعرقياً مختلفاً، ثم لكي يتقابلوا معاً غير بعيد عن… مسلّة فرعونية تنتصب في ساحة فرنسية!
ومما له دلالة خاصة، في بطولات كأس أوروبا تحديداً، أنّ الأمم الأوروبية التي تسعي لإنجاز المزيد من خطوات التوحيد في مختلف الميادين السياسية والمالية والإجتماعية والدستورية، لا تبدو في المباريات مستقلة الأعلام والأناشيد الوطنية فحسب، بل إننا نري إنكلترا إسوة باسكتلندا، ويوغوسلافيا مثل كرواتيا. والذين أتيح لهم أن يشاهدوا ذات يوم مباراة كرة القدم الأخيرة (لأنها لم تتكرّر بعدئذ!) بين فريق النجمة الحمراء الممثل لمدينة بلغراد الصربية، وفريق دينامو زغرب الممثل للمدينة الكرواتية، استبطنوا ـ بسهولة فائقة ـ أنّ هذه الأمّة التي تبدو واحدة، ليست موحّدة أبداً، وأنها لا محالة سائرة إلي حرب أهلية.
وإذا جاز أن تكون كرة القدم أكثر جدّية من مسألة حياة أو موت، كما رأي وليام (بيل) شانكلي لاعب الكرة الأسكتلندي والمدرّب الأسبق لفريق ليفربول البريطاني، فالأرجح أنّ جوهر السبب يعود إلي علم اجتماع اللعبة، وإلي السياسة الكامنة في خلفيات قتال ضارٍ شرس لا يستخدم من الأسلحة إلا كرة بيضاء. ولهذا حرص اتحاد الكرة الأوروبي علي توزيع لافتات ضدّ العنصرية في مباراة ألمانيا ـ تركيا قبل أيام، كما تلي قائدا الفريقين بياناً قصيراً بهذا المعني علي الجمهور. ثمة فخار قومي وراء هذا التصارع الرياضي الطبيعي، والملعب كفيل دائماً بالإنقلاب إلي ميدان استذكار الخصوصيات القومية والإثنية والثقافية، حيث ينخرط اللاعبون في تنافس محموم للبرهنة علي امتياز أممهم وهوياتهم وانتماءاتهم.
وثمة، بالطبع، ممارسة تلك الهواية البشرية العتيقة: خوض الحرب الطاحنة، وإنْ بوسائل أخري!
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى