حين يكون العنف هو- ذاته- قوة اقتصادية
موفق نيربية
حصلت شركة الهند الشرقية الإنكليزية، كما هو معروف، إلى جانب السلطة السياسية لحكم الهند الشرقية، على الاحتكار المطلق لتجارة الشاي، إضافة إلى احتكار التجارة مع الصين عموماً، واحتكار نقل البضائع من أوروبا وإليها، ولكن الملاحة قرب سواحل الهند وبين الجزر، وكذلك التجارة داخل الهند، كانتا احتكاراً مقصوراً على كبار موظفي الشركة، وكان احتكار الملح والأفيون والتامول وغير ذلك من السلع مصدر ثراء لا ينضب، وكان الموظفون ذاتهم يقررون الأسعار، وينهبون الهنود التعساء على هواهم، وكان الحاكم العام يشارك في هذه التجارة الخاصة. المقربون إليه يحظون بالعقود وفق شروط تتيح لهم، خيراً من الخيميائيين، ان يصنعوا الذهب من العدم. وكانت ثروات طائلة تنبت كالفطر في نهار واحد، بينما يمضي التراكم الأولي قدماً من دون تسليف شلن واحد»، كارل ماركس.
وقد أطلقت عدة تسميات على هذا التراكم الأولي، أو البدائي. فهو «الأصلي» مثلاً، أو «المسبق» كما عند آدم سميث. هو -باختصار معاصر- تلك الكتلة المالية الأولية اللازمة للإقلاع بالاستثمار الرأسمالي، أو الحديث. وقد ارتبطت القرصنة وتجارة العبيد وتشغيل الأطفال بهذا المفهوم، لكن عناصره اختصرت في أربعة رئيسية: نظام المستعمرات، ونظام الاقتراض (والإقراض) الحكومي، ونظام الضرائب الحديث، ونظام الحماية الجمركية.
وحديثاً ظهر «الفساد» شكلاً للتراكم الأولي، تنهب فيه نخبة محظية البلد والمجتمع بأشكال متعددة، كما حصل في الاتحاد السوفييتي السابق. قرأنا أن خبيراً أميركياً كبيراً نصح بالتأني في محاربة الفساد حتى تنضج أحجام عائداته وإمكاناته على «التحديث».
حتى أن «نظام المستعمرات» يمكن ترجمته بالنظام الذي يتعامل مع شعبه بانفصام وبرّانية وهيمنة مشذّبة قليلا عن حالة الاستعمار، و«نظام الضرائب» يستطيع الاقتطاع من معيشة الناس بشكل غير مباشر وعنيف في الوقت نفسه، ونظام الاقتراض الحكومي يتجلّى في حجم الدين العام الذي هو «جباية» أخرى مسبقة، والإقراض موجّه الى المحاسيب ومفتوح عليهم، مغلق على غيرهم، في حين يعمل «نظام الحماية الجمركية» كغطاء لتوزيع احتكارات الاستيراد والتصدير والصناعات الأولى التي يشملها الرضا لأسباب عضوية أو تكتيكية.
سليمان كريموف رجل أعمال روسي شاب، تُقدّر ثروته بسبعة عشر ملياراً من الدولارات في آخر جدول حسابات. يزاحم الآن على حصص في «دويتشه بنك»، وهو يركّز الآن على مثل هذه الاستثمارات في القطاعات المالية ذات السمعة المحترمة. أمّا من أين أتت تلك الثروة، ولم يكن المفهوم ذاته موجوداً منذ سنوات؟ فلم أبحث. لكنه علة علاقة قوية بعالم السياسة، وفي روسيا وطاجكستان في الوقت نفسه.
أوليغ فورونين، ابن رئيس مولدوفا، معروف بأنه أغنى شخص في بلده، المعروف أيضاً بأنه أفقر بلد في أوروبا، يصر أيضاً على أنه لا يسرق الشركات الأخرى. أبوه شيوعي- لازال- وجنرال سوفييتي سابق، وهذه ليست مفارقة في هذا الباب. وهو جامعي تخرج بصعوبة متخصصاً في البيولوجيا، وأسهم في تحقيق معجزة أبيه الثانية بصعود ثرائه الفاحش في ظل رئاسته، إضافة إلى المعجزة الأولى بتسريع إفقار الشعب إلى حدود باهرة.
الرئيس نزار باييف في جمهوريته كازاخستان، ليس لديه أولاد ذكور كما يشتهي أي شرقي مثلنا. لديه بنتان متزوجتان، تلتزمان الشرع فيما يبدو، وتتركان لزوجيهما العنان. أكبرهما السيد علييف، رجل أعمال وسياسي، استطاع تكوين امبراطورية في مجال المصارف والإعلام والاتصالات وخدمات النفط وغير ذلك، بعد أن بدأ حظه مع تعيينه مسؤولاً عن لجنة لمكافحة الفساد في أوائل التسعينيات. وساء حظه ذاك حين أعرب عن رغبته في مزاحمة حميه على الرئاسة، وكانت غلطة الشاطر غير المحسوبة بشكل جيد، كما يبدو.
في الجزائر، كان عبدالحميد الإبراهيمي الوزير الأول في عهد الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد- والفساد في بواكيره، قد «فجر قنبلة حجمها 26 مليار دولار» في إشارة إلى حجم الفساد الاقتصادي في الجزائر، علما بأن حجم الدين الخارجي الجزائري في ذلك الوقت كان يساوي 26 مليار دولار، ذلك الفساد يتكون كما هو في بلاد أخرى- عربية- من عمولات هائلة النسبة والانحراف عن المصلحة الوطنية.
يتصدر الأقربون، من أخوة وأبناء وأبناء عمّ وعمّة وخال وخالة، المراكز السياسية والأمنية في بلادنا، ويتحول هنا التراكم البدائي- المتوحش- في ديارنا من النهب العاري إلى النهب المنظم مع الإقطاع وتوزيع المزايا والاحتكارات الاستثمارية، ثم يبدأ بتكوين غشاء قانوني يمكن الطعن فيه أحياناً. جبهة الفساد والإفساد هذه، أما آن لها أن تكتفي وتكف عن اعتبار البدائي نهائياً، فتعود إلى الحاضر بين الناس، وتخلد إلى سيادة القانون ومبادئ بناء الدولة الحديثة؟!
كاتب سوري