صفحات العالم

مقارنة بين خطابَيْ باراك أوباما في القاهرة وموسكو: الأمة المنافِسة غير “الأمة” المشاكسة

جهاد الزين
في خاتمة خطابه امام خريجي “المعهد الاقتصادي” NES في موسكو قبل ثلاثة ايام وصف الرئيس الاميركي باراك اوباما روسيا بأنها “شقت طريقها حتى الآن كنهر هادر في واد سحيق”.
انه تعبير ادبي دقيق عن وعي الروس – ووعي العالم – لتاريخ روسيا كتاريخ مضطرب لأمة كبيرة. وسواء كان الرئيس الاميركي المميز يستعير صيغته هذه من اسلوب روائي روسي كلاسيكي من ذلك الزمن الذي ولد فيه الأدب الروسي الكبير في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، او من اسلوب روائي اميركي طبع وصف روائيي “الريف” الاميركي لأنهار القارة الكبيرة… ايا تكن المؤثرات التي مكنت باراك اوباما من انتاج هذا الوصف. فان احد اكبر كتاب العلوم السياسية الحديثة الكسيس دو توكفيل فعل في الادب السياسي قبل اكثر من مائة وستين عاما “عكس” ما فعله اوباما. اذ بدلا من تشبيه بلد كبير بنهر قوي شبّه نهراً كبيراً بالبلد الكبير. هكذا وصف دو توكفيل نهر المسيسيبي في مؤلفه “عن الديموقراطية في اميركا” كما لو أنه يشبه اميركا عندما يبدو في بعض مراحل جريانه مترددا في اختيار الوجهة التي يتجه نحوها، الى ان يظهر وقد حسم امره فيندفع بقوة لا هوادة فيها وبتصميم لا تراجع فيه.
ماذا يمكن مراقباً قرأ خطاب اوباما الشهر المنصرم في جامعة القاهرة (4 حزيران) الذي توجه فيه الى “العالم الاسلامي” وخطاب موسكو (7 تموز) الذي توجه فيها الى “روسيا”… ان يستخلص؟
الجامع المشترك هو ان كلا الخطابين القاهما الرئيس الاميركي في صرح اكاديمي. في موسكو طغى حضور الشباب عددياً على حضور بعض الوجوه الاخرى البارزة وفي مقدمها الزعيم “السوفياتي”ميخائيل غورباتشيوف وبعض الخبراء والاساتذة في حين كانت وجوه النخبة المصرية الثقافية – السياسية – الاكاديمية والشبابية حاضرة بعدد كبير في قاعة جامعة القاهرة.
لكن “مادة” خطاب القاهرة كانت اكثر تعقيدا بنيوياً وإن كانت “مادة” خطاب موسكو اكثر تركيزاً على قضايا عصرية.
فمع “العالم الاسلامي” يتحدث اوباما الى امة مشاكسة بينما مع “روسيا” هو يتحدث الى امة منافسة ايا تكن مستويات التنافس القائمة (عسكرياً) او المحتملة (اقتصادياً). هنا في موسكو الدولة والأمة والمجتمع موجودة بوضوح في الجغرافيا والشخصية الوطنية والارث الدولتي… ويجري الكلام في العاصمة “الوحيدة” لهذه “الروسيا”. اما مع “العالم الاسلامي” فعنصر التوحيد افتراضي وحقيقي معا: ديني – سياسي غير معبر عنه في جغرافيا سياسية واحدة.
هكذا بدا خطاب موسكو متدرجاً، اكثر مقدرة على التبسيط والمباشرة. فالمخاطِب والمخاطَب على اختلافاتهما ليسا مهددين (بالفتحة على الدال) بصراع ديني أو “حضاري” (وإن كنت أفضل كلمة ثقافي) وإنما أكثر بصراع مصالح بين دولتين كبريين ذواتي ماضٍ تنافسي حتى لو كان إرثهما السياسي الداخلي متبايناً جداً من حيث التاريخ “المركزي” لروسيا الفيديرالية! والتاريخ اللامركزي الديموقراطي لاميركا الفيديرالية (بالعودة الى دو توكفيل، فقد تميز كتابه القرن التاسع عشري بوعي مبكر ونفاذ لصعود روسيا واميركا كقطبين عالميين وكان أول من تنبأ بما سيصبح الحقيقة السياسية السائدة طوال معظم القرن العشرين).
حدّث أوباما الشباب الروس بإسهاب عن مخاطر الانتشار النووي وكشف أمامهم ما لم يسبق أن كشفه أي مسؤول أميركي بهذا الشكل: استعداد واشنطن لمقايضة مشروع نشر الدرع الصاروخية في أوروبا، أي سحبها، مقابل مساعدة روسيا لاميركا على إلغاء المشروع النووي العسكري لايران. الرئيس الاميركي حدّث مستمعيه في موسكو عن أولوية منع الانتشار النووي في العالم مسمياً عدة دول إنما لم يأت على ذكر اسرائيل كدولة نووية أو – وهذا منطقي أكثر – على أية اشارة غير مباشرة لاحتمال دورها النووي إذا كان كمسؤول اميركي  لا يريد ولا يستطيع ان يعلنها رسمياً دولة نووية. في حين أن “روحية” كلامه حول الانتشار النووي في خطاب القاهرة كان يتضمن الايحاء بالموضوع الاسرائيلي. الاشارة الوحيدة الى اسرائيل وفلسطين في خطاب موسكو جاءت في سياق التأكيد على “حل الدولتين”.
تحضر موضوعات “الحرية الدينية” و”حقوق المرأة” و”الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي” بصفتها موضوعات الخطاب الاولى والأقوى الى جانب العراق وأفغانستان في “مرافعة” جامعة القاهرة. وإذا كان الحديث الاقتصادي هو “منطقة” المصالحة العصرية الطبيعية بين رئيس اميركي و”العالم الاسلامي” تحت عنوان “التنمية الاقتصادية” كما ورد في خطاب القاهرة، فإن “المادة” الاقتصادية في خطاب موسكو ليست موضوعاً واحداً، بل هي شبكة من الموضوعات المتصلة في هموم نخبة دولتين عظميين أياً تكن حدود التفوق لصالح المخاطِب على المخاطَب.
حتى اللحظة، يذهب هذا المقال في مقارنة المشترك والمختلف بين الخطابين تبعاً لـ”منطق” الاختلاف بين “روسيا” الكيان الفعلي الواحد وبين “العالم الاسلامي” الكيان الافتراضي الواحد. في حين أن هناك عنصراً قوياً مشتركاً في خطابي الرئيس أوباما يتعلق بخصوصية – بل بميزة – أميركية طليعية جداً في تكوين “دولة” القرن الحادي والعشرين. ففي الخطابين يتحدث أوباما مع الروس ومع المسلمين باعتبار أن هناك روساً كثراً ومسلمين كثراً هم جزء لا يتجزأ من أميركا، من التجربة التاريخية الاميركية. إنهم أميركيون من أصل روسي وأميركيون من أصل (بلد ما) مسلم. هذه الميزة الطليعية تسمح للرئيس المخاطِب بأن يدعي مقدرة لبلده على فهم هذا “الآخر” الروسي و”الآخر” المسلم بطريقة لا يستطيعها “الآخران”. هو يحدث المسلمين – ولو بروح ايجابية اكيدة – عن اهمية التعددية الدينية ويشير اليها بعناوين مسيحية كما مذهبية في حين انه مع “روسيا” يثير اكثر قضايا الديموقراطية ذات الاتصال الوثيق بمكامن خلل التجربة الروسية الراهنة من حيث التأكيد على “اقتصادات تعمل في نطاق سيادة القانون” وفضح الفساد دون ان يغيب النقد الذاتي للتجربة الاميركية نفسها لا سيما حين يطمئن “المنافس” الى التخلي عن مشروع فرض الحكومات الديموقراطية بالقوة على دول اخرى. غير ان الذهنية الاساسية في التخاطب مع روسيا هي اعتبار البلدين معاً معنيين بنشر الرخاء والازدهار في العالم كدولتين كبيرتين، بينما تنحصر النيات الطيبة مع “العالم الاسلامي” في “روحية” دعوته الى تطوير نفسه قبل اي شيء آخر.
بأختصار: خطاب القاهرة – بسبب التحدي الفكري – كان اقوى وحتى في مجال الايحاءات… اكثر شجاعة وخلقا.
لم يكن يحتاج الى ذلك في خطاب موسكو. كان يحتاج الى “برنامج سياسي”… فقدمه.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى