بوعلي ياسين والحفر في الثقافة الشعبية
بوعلي ياسين: أحد وجوه الفكر النقديّ (5)
خضر الآغا
دخل بوعلي ياسين حقل الثقافة الشعبية من باب دراسة العقل الشعبي وآليات اشتغاله، مستنداً على القول الشعبيّ الأكثر تعبيراً عن ذلك: النكتة، بوصفها ذلك القول الذي يضمر، تحت يافطة الإضحاك المجرد الخادعة، ثقافة شعب برمّته، وموقفه من معظم الظواهر التي تحدث معه أو عليه، وبصفة خاصة، تلك المتعلقة بالسلطة السياسية والدينية، وبخطابها أيضاً، وبموقفها وموقف المجتمع بكامل مستوياته من الجنس، على أنّ هذا الثالوث المحرّم قد تمّ، منذ البداية، اختراقه من خلال هذا القول المراوغ: النكتة. لذلك فإنّ دراستها تتطلّب جهداً مكثفاً للكشف عن البنية الخفية فيها واستكناه مضمراتها، بوصفها نصاً شفاهياً مشفّراً، ينطوي، كالنص المكتوب، على بؤر دلالية شديدة الغنى.
كشف ياسين، من خلال دراستها بتلك الصيغة المعمقة، آليات السيطرة التي بواسطتها تتم قيادة وتحريك المجتمعات العربية، كاشفاً أن تاريخها الحقيقيّ، بما يتعلّق بذلك الثالوث، هو تاريخ قمع متنام.
وضع، ضمن هذا المنحى، ثلاثة كتب: بيان الحدّ بين الهزل والجدّ: دراسة في أدب النكتة، عين الزهور: سيرة ضاحكة، شمسات شباطية: ديوان المفارقات العربية الحديثة. سنجد عدة دراسات لها في هذا الكتاب. ويُعتبر الكتابان الأوّلان، برأي جميع الكتاب الذين تطرّقوا إليهما، وبرأيي الشخصي، من أهمّ ما أنتجه الفكر العربي، في هذا النوع، منذ الجاحظ ربما، وحتى تاريخ كتابتهما. وبالإمكان أن نضيف إليهما كتابه شديد التميّز: خير الزاد من حكايات شهرزاد: دراسة في مجتمع ألف ليلة وليلة، الذي، وإن كان ينتمي إلى التراث، فإنه يُعتبر دراسة حقيقية في الثقافة الشعبية، نظراً لطبيعة حكايات شهرزاد الشعبية من جهة، وللدراسة الاجتماعية التي قدمها الكاتب، والتي كانت تتكشف، في كثير من جوانبها، كدراسة في الثقافة الشعبية من جهة أخرى. وربما تكون هذه الدراسة البوابة التي جعلت من بوعلي ياسين، بعد أن دخلها هذا الدخول الواثق، مهتمّاً حقيقياًً بالثقافة الشعبية. وقد وضع، في كتابه الهامّ “ينابيع الثقافة…” فصلاً خاصاً عن الثقافة الشعبية، واعتبر أنّه من العقوق ألا يصار إلى كتابتها1، وأكد أنّ أيّ عملية بناء ثقافي حقيقي يجب أن تبنى على الثقافة الشعبية2. فكتاب “خير الزاد…” كتب قبل “ينابيع الثقافة…”، لكنه نشر بعده.3
إنّ دخول حقل الثقافة الشعبية هو دخول في حقل المحرّمات. لكن، هذه المرّة، لا ليكشف، كما فعل في الثالوث المحرّم، عن تحريمها فحسب، بل ليكشف عن اختراقها. فالثقافة الشعبية، كما يقول، “نشأت بالأصل حرّة دون حسيب ورقيب”4، ما يعني أنها لم تراع وجود هذه المحرّمات وتعمل بالتالي على تجاوزها إرضاء لأية سلطة أو تقيّة منها، أو مراعاة لأيّ وضع اجتماعي أو ثقافي أو سياسي أو ديني أو أخلاقي…
لقد أعاد بوعلي ياسين، طرح موضوع المحرّمات، انطلاقاً من مبدأ أساسيّ هو أنّ الطريقة الأجدى لدراستها ليس نقدها فحسب، بل التشكيك فيها. فالحداثة التي ينتمي إليها الكاتب بمرجعية كارل ماركس، والتي لم تمنعه من ولوج الثقافة الشعبية وفق الرؤية التي ذكرنا، لا تكتفي بنقد المقدّس، بل تشكّك فيه، من حيث أنّ المحرّمات لا تصير هكذا إلا انطلاقاً من تقديسها. كأن ياسين، بتشكيكه هذا، أراد القول إنّه لا جدوى ولا طائل من أيّ تحريم، فالأمر مكشوف ومخترق منذ البداية، منذ التشكّل الأوّل للثقافة الشعبية. فالنكتة على الأقلّ، كمستوى رئيسي من مستويات هذه الثقافة، تخترق، على الدوام، كافّة المحرّمات.
اكتشف المفكّر أنّ المحرّمات، في ظلّ تنامي الدور الوصائي للسلطات الاجتماعية والدينية والسياسية، لم تعد ثلاثة، بل أضيف إليها محرّم رابع هو البذاءة5. فيحرّم، باسم العفّة والشرف العامّ والحياء: هذه المفاهيم الداخلة قسرياً على المجتمعات العربية، من حيث إن هذه المجتمعات، وعبر ثقافتها، لم تقم وزناً من أيّ نوع لهذه المفاهيم، بدليل أنّ هذه الثقافة تنطوي على الكثير مما يعتبر بذيئاً: إمّا لقلته في هذه المجتمعات وبالتالي الرغبة فيه، أو لكثرته وبالتالي فإنّ وجوده اعتياديّ، يحرّم، باسم تلك المفاهيم إذاً، الاقتراب من هذه المنطقة التي تعتبر “بذيئة”. وبالتالي فإن هذه السلطات تقف، قسرياً، ضد ثقافة مجتمعاتها وتوجّهاتها.
الدخول في حقل الثقافة الشعبية دخول في مفهوم الكتابة. يتساءل في مقدمة كتابه (بيان الحد بين الهزل والجد: دراسة في أدب النكتة): “يروون ـ أي عامة الناس ـ لك النكات المحرمة والبذيئة، ثم يغضبون ويحتجون إذا نشرتها. لماذا هذه الازدواجية؟ ولماذا هذا الإصرار على شفهية الثقافة الشعبية؟”6. قد يكون هذا التساؤل هو الأكثر أهمية، ليس على مستوى الثقافة الشعبية فحسب، بل على مستوى الكتابة برمتها.
في روايته “الوشيجة” يقول هنري ميلر: “نحن لم نحدث لأننا لم نكن موضوعاً لتفكير أحد”7. مثير جداً هذا القول، وينطبق في جزء منه، ولاسيما في عبارة “نحن لم نحدث” على العرب في صيغتهم الراهنة، والمستمرة منذ قرون، منذ انحلال حضارتهم الكلاسيكية. في الحقيقة، إن العرب لم يحدثوا. لكن ليس لأنهم لم يكونوا “موضوعاً لتفكير أحد”، على العكس، إنهم موضوع لتفكير الكثيرين، وهنا تكمن المشكلة: إنهم موضوع وليسوا ذاتاً. فالذات تمتلك ما تقول وتمتلك إمكانية قوله، شريطة أن تكون حرة. وهي مثلما تأخذ تعطي، وهذا شرط أي وجود. أما الموضوع فهو بيد الآخرين، إنه عرضة لأهوائهم ومصالحهم وتوجهاتهم، بصرف النظر عن هذا الآخر، وعن طبيعة العلاقة معه. وحتى تتحول أمة ما من موضوع إلى ذات عليها أن تكتب نفسها. فبالكتابة تقدّم نفسها وتطرح مشاريعها في الوجود.
والكتابة كما تحقق وجوداً، فإنها تفضح وجوداً قائماً، لذلك، فإن السلطات بمختلف أشكالها تقف ضد هذا النوع من الكتابة، إذ أنها تفضح وجودها القائم، ولا تعدها بوجود آخر. فإذا كانت الكتابة إعادة صياغة للأمة، بما تنطوي عليه إعادة الصياغة من إعادة خلق، فإنها تتطلب انعدام وجود سلطات تفرض أيديولوجيتها على الكتابة، فإعادة الخلق فعل حرية. من هنا يتبدى السبب في وقوف هذه السلطات المتواصل ضد هذا النوع الكتابة.
على هذا، فإن الكتابة فعل حدوث. وباعتبار أن الناس، وفق ابن خلدون، “على دين ملوكها”8 فإن الموقف من الكتابة واحد: لدى الملوك كما لدى الناس.
هذا من جانب. من جانب آخر، فإن الشفاهي عرضة للتقولات والإضافات والحذف، التي يمارسها، باستمرار، الراوي بما ينسجم مع تطلعاته وأهوائه ومصالحه وانتمائه ونظامه السلطوي: سياسياً كان أم دينياً أم اجتماعياً… وقد نقل لنا التاريخ، بما فيه الكفاية، أن الرواية الواحدة تتبدل تبعاً للراوي المتغير، وتبعاً للراوي نفسه في كل مرة ينقلها فيها، وذلك حسب مجمل ظروفه الذاتية والموضوعية وتبدلاتها. والكتابة بوصفها، حسب بول ريكور، تثبيت القول9، فإنها تمنع عليه- على القول الشفاهي- التقولات والإضافات والحذف التي يمارسها الراوي، باستمرار، وتمنع عليه، بالتالي، أن يكون عرضة لتطلعات ذلك الراوي وأهوائه ومصالحه وانتمائه… وتثبته كقول للأمة بوصفها ذاتاً وليست موضوعاً. الكتابة تمارس عزلاً متواصلاً للقول الشفاهي من دائرة الإهمال التي لم تنفك تلك السلطات عن وضعه داخلها، لاسيما إذا كان مما يهدد وجودها. لذلك أنشأت أجهزتها الرقابية على كل ما يكتب، فتمنع أو توافق بحسب اقترابه أو ابتعاده من مصالحها ووجودها. لذلك فإن “عامة الناس”، وضمن علاقة ابن خلدون تلك، تمارس ما تمارسه سلطاتها تجاه الكتابة.
الدخول في حقل الثقافة الشعبية ينطوي على انبثاق سلطات جديدة، تتمفصل وتتبادل الأدوار مع السلطة السياسية. إذ أن هذه الثقافة تتضمن كل ما من شأنه أن يثير، بشكل مباشر، حساسيات السلطتين الاجتماعية والدينية، وذلك ضمن نشوئها وتكونها شديدي الحرية، الأمر الذي يعني عدم مراعاتها لأية سلطة مفروضة بمختلف أشكالها، أو لأي محرّم مفروض كذلك. هذا الشكل المباشر من إثارة حساسيات تينك السلطتين، يجعل السلطة السياسية تبدو، ظاهرياً، وكأنها لم تتعرض لأية مشكلة جراء ذلك. من هذا القبيل، كمثال، أن الثقافة الشعبية العربية، وخاصة النكتة، تنطوي على تهكم عال من رجال الدين المحليين. هنا تنسحب السلطة السياسية، ظاهرياً، من ساحة الصراع، وتحل محلها، كقفا لها، السلطتان الاجتماعية والدينية اللتان تعملان بعنفوان يضاهي، بل ربما يفوق،عنفوان السلطة السياسية، إذ أن لهذه الأخيرة، أحياناً، بعض الحسابات تجاه المجتمع والرأي العام، فيما ليس لدى السلطتين الأخريين، غالباً، أية حسابات من هذا النوع.
إن ظهور هاتين السلطتين بهذا الشكل المباشر غير متحقق، على الأغلب، خارج الثقافة الشعبية. أو أنه قد يحدث ويتحقق في مستويات ثقافية أخرى، إنما جزئياً.
الدخول في حقل الثقافة الشعبية يعني دخولاً في كتاب المتعة. تجربتي بذلك مرتبطة حصرياً بكتابات بوعلي ياسين. قلما يجد القارئ كتاباً ذا صلة بالشأن الاجتماعي والاقتصادي والفكري والسياسي ينطوي على هذا النوع من المتعة، فعدا عن المتعة التي تحققها المعرفة بصفة عامة، فإن المتعة التي أقصدها هي تلك المتعة المباشرة القريبة، حقاً، من السعادة بالمعنى البسيط للكلمة: الضحك، تحديداً. أن يقرأ القارئ كتاباً بالغ الجدية والرصانة والفائدة أيضاً، وهو يضحك على طول الخط، ذلك أمر نادر الحدوث. الثقافة الشعبية تحقق ذلك بامتياز.
كتابة الثقافة الشعبية، تعني كتابة المسكوت عنه. يروي الكاتب أن أحدهم سأله ماذا يكتب، فأجاب: كتاباً عن النكتة. فتململ هذا ثم قال: أنت أكبر من هذا. لم يجد المفكر في هذا إطراءً، إذ يقول: وهل أنا أكبر من الجاحظ10. باسم الثقافة الرفيعة والثقافة السياسية، إذاً، يترفّع بعض الكتّاب على الثقافة الشعبية، ويبتعد بعضهم عنها مراعاة لبعض الوضعيات السائدة، وقد يفعل ذلك بعض آخر لقلة المصادر والمراجع العربية المتعلقة بها، أو لأسباب أخرى. النتيجة إن هذه الثقافة بقيت في ذاكرة الشعوب والرياح. الأمر الذي يعني أن الغنى المعرفي والروحي للأمة، والذي يجعل من إمكانية بناء ثقافي حقيقي عليه أمراً ممكناً، محمول على الريح. من هنا، ومهما تعددت الأسباب، فقد بقي هذا الحقل شديد الثراء مسكوتاً عنه. لذلك، فإن كتابته تعني إنشاء/ أو الحفاظ على مخزون معرفي وروحي من الصعوبة، بل من المستحيل، أن ينضب. هذا المخزون هو ذاكرة الشعوب الأكثر رسوخاً.
قد يكون ذلك كله هو ما دفع بوعلي ياسين للدخول، كشفاً ونقداً، في هذه المنطقة الغامضة والخصبة والممتعة بآن معاً، عدا عن كونها مهملة، كما ذكرنا، ومسكوتاً عنها.
هذا النّصّ مقتطف مقدمة لكتاب: ثقافة العصيان/ قراءات في فكر وحياة بوعلي ياسين- إعداد وتقديم خضر الآغا دار عين الزهور- دمشق- 2005، وقد أذن صاحبه بنشره ضمن الملفّ.
موقع الاوان