بوعلي ياسين مترجماً
نبيل الحفار
بوعلي ياسين أحد وجوه الفكر النقديّ(6)
يحتاج المترجم الجيّد، ليقوم بعمله على أحسن وجه، إلى معرفة وثيقة باللغتين اللتين يتعامل معهما، لغة المصدر التي يترجم منها ولغة الهدف التي يترجم إليها. وهما في حالتنا هذه بشأن بوعلي ياسين الألمانية والعربية. وهذه المعرفة تنطوي بداهة على تضلّع في الحقل المعرفي الذي يتعامل معه، سواء أكان الفلسفة أم الاقتصاد أم الأدب، فمن دون توفّر الاختصاص يتعرّض النص المزمع ترجمته إلى ولادة عسيرة يحتمل أن تؤدّي إلى تشوهات مسيئة إلى النص نفسه وإلى القارئ أيضاً، مما يلحق ضرراً بعملية التلقي، لا تعرف أبعاده.
إنّ ما استوقفني وأثار انتباهي في عمل بوعلي ياسين، هو توفّر هذه الشروط في ترجماته المختلفة على مدى ثلاثة عقود، رغم تعدّد الحقول المعرفية التي خاض غمارها بروح المثقف الناقد ذي الموقف التنويريّ، الملتزم بقضايا ناسه الملحّة على جميع الأصعدة الفكرية والمعيشية. وانطلاقاً من هذا الموقف جاءت خياراته الترجمية، فهو لم يترجم لتلبية حاجة السوق ولا ليكسب مادياً، ولا نتيجة ولع شخصي بكتاب معيّن أحبّه فرغب في ترجمته، وإنما نتيجة إدراكه المعرفي لما يحتاجه القارئ في هذه المرحلة من أجل تكوين وعيه وثقافته وتأسيس موقفه تجاه العالم من حوله.
لقد قرأت معظم كتاباته المؤلفة، ولاسيما ما كان منها في النقد الأدبي، والأدب الشعبي، وعلم الاجتماع، أما من ترجماته فقد قرأت خمسة كتب هي: “المادية الجدلية والتحليل النفسي” لفيلهلم رايش في الفلسفة وعلم النفس، “نمط الإنتاج الآسيوي” المؤلف من نصين، أولهما لكارل ماركس في الاقتصاد السياسي وثانيهما لهلموت رايش في علم الاجتماع، و”الطوطم والتابو” لسيغموند فرويد في علم النفس الاجتماعي، و”مستقبل الحياة في الغرب” للكاتبين غيرد غيركن وميشائيل كونيتس في علم الاجتماع السياسي، و”قصص من الروزنامة” وهي مجموعة من القصص الطويلة والقصيرة لبرتولت بريشت.
ومن باب الفضول، وحبّاً في المزيد من المعرفة، أجريت بعض المقارنات بين الترجمات وأصولها، فكان أوّل ما لفت نظري هو رشاقة لغة الترجمة ووضوح معانيها من غير لبس، ولا سيما عند ترجمة المصطلحات من العلوم المختلفة في صيغ سهلة التناول والحفظ والاشتقاق، ثم تركيزه على نقل روح الجملة ومعناها وليس مبناها، إذ أن لبناء الجملة في الألمانية خصوصية تختلف عن العربية، متجنباً بذلك “الدقة العمياء” التي غالباً ما تفقد الترجمة جماليتها وسلاستها.
أما مخزون مفرداته في العربية فهو في المتداول في الفكر العربي الحديث، مبتعداً عن حواشي الكلام، إذ أن هدفه الجليّ هو إيصال المعنى المباشر دون لفّ أو دوران. لكنه قد يلجأ أحياناً، في الترجمة الأدبية، إلى استخدام مفردات من المحكية المحلية تمنح السياق نكهة خاصة مستحبة، ولا سيما عندما يتولد معناها من جرسها الصوتي. واللافت في هذه الترجمة الأدبية هو تصحيحها للصورة التي روّجتها بعض الترجمات المصرية عن لغة برتولت بريشت بوصفها جافّة باردة عصيّة على الترجمة.
لاشك في أنّ ترجمات بوعلي ياسين قد أغنت الساحة الثقافية المحلية والعربية، وأنها دليل ناصع على إسهام المثقف العضوي في حركة مجتمعه.
موقع الآوان