جاحظ الكتابة الحديثة
محمد جمال باروت
بوعلي ياسين: أحد وجوه الفكر النقديّ (7)
تنتمي كتابة بوعلي ياسين في” عين الزهور: سيرة ضاحكة”1 على المستوى النوعي الكتابي إلى نوع السيرة الذاتية، وهو نوع كتابيّ سرديّ يمكننا أن نميّز فيه بين نوعين فرعين أساسيين هما: نوع السيرة الذاتية التي تقوم بتحوير السيري إلى سردي- روائي فني، ونوع السيرة الذاتية الموجّهة لغايات التاريخ. إنّ النوع الأول فنّي تخييليّ بمعنى أن السيرة تحوّر السيري إلى روائي أو سردي فني، لكنها تحوّر في الوقت نفسه السردي إلى سيري. فهو في ذلك ينتمي إلى الفضاء السردي الفني، وإلى شكله المميّز المتواتر في الكتابة العربية الحديثة، وهو شكل الرواية، لكنّ النوع الثاني وإن كان يستخدم تقانات الكتابة السردية التخييلية بحكم طبيعة قوانين السرد ينتمي إلى التاريخ. وفي الوقت الذي لا يصلح فيه النوع الأول للمقاربة التاريخية والسوسيولوجية، فإن النوع الثاني يصلح لذلك على سبيل المقاربة.
هذا التمييز المنهجي الأساسي ضروري لفهم تجربة بوعلي ياسين في” عين الزهور”، ويفيد في عملية تجنيس هذا النوع من الكتابة في فضاء النوع الثاني الموجه لغايات التاريخ، وبالتالي ” الوثيقة” المساعدة، فمهما ارتقى هذا النوع يبقى مساعداً في المقاربة التاريخية، وليس مصدراً أساسياً. ولكن أهميته تتعاظم حين يلتقي مع قرائن المداخل والمقاربات الأخرى التاريخية. وبذلك فإن هذا النوع من الكتابة نوع فرعيّ ممّا يمكن تسميته: التاريخ بالسيرة، على غرار التاريخ بالأثر وبالوثيقة..إلخ.
لربما اختار بوعلي ياسين ” هذا النوع من الكتابة كفضاء لجهره كتعويضٍ عن طبيعته” الكتومة” الميّالة إلى” الصمت، واختار الوجه الباسم كتعويض عن وجهه الجدي شديد” العبوس”. وفي ذلك تحتلّ” عين الزهور” في تجربة بوعلي الكتابية منزلة إعادة اكتشاف الذات نفسها في وجهها المخبوء أو” غير الظاهر”، إذ قد تمثل” عين الزهور” في هذا السياق المحدد وجهه السيري الصائت.
ويبدو أن بحث بوعلي عن الوجه الصائت لـ” جديته” و”صرامته” و”عبوسه”، لكن الجميل والأخّاذ الحميم إلى أسئلة القلب، لم يكن مدفوعاً ببناء سيرة ملحمية لشخصيته- هو الزاهد بالمجد والمتصوف والناسك والمترهبن على طريقته، وهذه صفات جمع بينها بوعلي ياسين تلقائياً في شخصيته الحيّة- بل ببناء سيرة ذاتية- موضوعية بالمعنى الأنتروبولوجي العميق والواسع للكلمة. وللوهلة الأولى فإن تركيب سيرة ذاتية- موضوعية هو تركيب مختل ويناقض قواعد المنطق في أبسط أشكاله وهي أشكال المنطق الصوري. لكن في التعمق حاول بوعلي ياسين في ” عين الزهور” أن يضع سيرته الذاتية الشخصية في سياق سيرةٍ أشمل لتحولات مجتمعه.
لم يكن بوعلي غافلاً عن ذلك، ولقد لجأ إلى حل تقني لذلك، يتمثل بالتمييز بين زمنين هما الزمن السيري الشخصي والزمن الموضوعي. سمح ذلك لبوعلي بإبراز التفاعل بين الزمنين مع إبقاء مساحة مستقلة لكل منهما من دون ” خيانة” أي منهما. نحن نعرف بحكم تقدم علوم النص المراوغة القائمة بين الزمنين، ولذلك فإن بوعلي ياسين حاول، قدر ما يستطيع، التمييز. لكن التمييز المطلق التام مستحيل، فالزمن الموضوعي في” عين الزهور” محكوم بدوره ببؤرة الراوي/ السيري.
بكل بساطة أراد بوعلي ياسين، وهو ابن العلوم الاقتصادية والاجتماعية الحديثة من ناحية مدركاته المفاهيمية والمنهجية، أن يضع سيرته في إطار تاريخها الألصق بها، وكان يحاول أن يقول إن تجربته ليست تجربة” فريدة” هو الذي نفر دوماً من أوهام” الفرادة” في كل مستوياتها. وفي سيرته الضاحكة لا يبرز بوعلي ياسين ملحمياً بطولياً صاحب أمجاد يلاحم فيها هذا وذاك، بل إنساناً يغوص في أدق حالات السرد النثري. السرد البطولي حتى في شكل السيرة الذاتية الموجهة لغايات التاريخ مقابل لهذا النوع الجديد من السرد الذاتي- الموضوعي.
مما لا ريب فيه أننا نجد في” عين الزهور” أساس أية معلومة بيوغرافية( سيرية) عن بوعلي ياسين، تمكّننا من إعادة بنائها وفهمها في إطار عصرها. ولكن” عين الزهور” لا تنحصر هنا في جانب ما تخبرنا به عن تاريخ الشخصية، ولا عن أفكارها ومعتقداتها وتصوراتها تجاه العالم والمجتمع وتقلبات السياسة والمجتمع والأفكار، بقدر ما تمتد أهميتها إلى بناء سيرة أنتروبولوجية مركبة تمتزج فيها السيرة الذاتية مع السير الاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية والوجدانية والطوبوغرافية، ومع الأدوات المستخدمة وعلاقات الملكية والحراك الجغرافي والمهني.. والتي تعتبر شديدة الأهمية بالنسبة إلى الاقتصادي والمؤرخ والبيئي والثقافي. وفي” عين الزهور” مادة ثرة هائلة تسمح باعتمادها مصدراً مساعداً في الفهم المعمق للتحولات الأنتروبولوجية في المجتمع الفلاحي السوري الحديث، وفي شرائحه التي تنتمي إليها شريحة بوعلي ياسين ابن الملاك المتوسط السهلي لكنه الفقير. وعلاقة هذه التحولات في التأثير في المدينة وتأثير المدينة( على هشاشتها في مجتمعاتنا) فيها.
ومثل كل سيرة تتحدث عن زمن المنزل” الأول”، فإن زمان القرية يمثل هذا الزمان. إنه في ثنائية الملحمي/ النثري، الزمن الشعري للذات السيرية، حين كانت بهيجة في زمنها الأول البسيط، وقريبة من التناغم بينها وبين العالم، بينما النثري يشير إلى انحلال هذا التناغم واصطدامه بالشروخ والتمزقات. والحق أن بوعلي قد استعاد زمنه الشعري الملحمي الأول محملاً بهذه الشروخات التي شكّلت أحد محدّدات قراءته للتحولات الاجتماعية الذاتية والموضوعية الجارية. زمن الملحمة شعري سعيد وبهيج، وزمن النثر اغترابي ومتشرخ. ينتقم الوجه الباسم من القساوة. الطريقة الباسمة طريقة للسيطرة على العالم، بالأحرى اغتراب الإنسان في حمى نثريات الاغتراب. ولايدعو بوعلي ياسين إلى الحفاظ على زمان المنزل الأول بقدر ما يرصد تحولاته من خلال سيرته الذاتية- الموضوعية.
حاول بوعلي بناء سيرة ذاتية صادقة فيما سرده، ولكنه أسلوبياً صنع نوعاً من استئناف محدث لكتابة عربية كلاسيكية تقترب من الكتابة الجاحظية. بوعلي ميز بين الزمنيين السيري الشخصي والموضوعي، لكنه اتبع منهجاً قريباً من منهج الجاحظ في” البخلاء” و” البيان والتبيين” وغيره. هذا إنجاز لبوعلي ياسين في إعادة صوغ الكتابة جاحظياً. وهي عملية إعادة صوغ جديدة في عالم الكتابة العربية وفي عالم نوع كتابة السيرة الذاتية. ما كتبه مترابط بشدة، لكنه في عمقه جاحظي يحتوي على معلومات كثيرة شديدة الأهمية. خلافاً لمنهجيته الفكرية التي تمضي من الكلي إلى التفصيلي انطلق بوعلي ياسين هنا من التفصيلي إلى الكلي، فهي سيرة ضاحكة.
في هذه المغامرة أطلق بوعلي ياسين الشعبي، وغاص في العالم السفلي للحياة الاجتماعية، وفي العودة إلى الشعبي عودة إلى المحكي وإلى اللغة الجارية بكل مجازاتها وأمثلتها. بوعلي ابن الثقافة العالمة لكنه في” عين الزهور” ابن إبراز القاع السفلي الحي الجاري. ومكّنه ذلك من تقديم” المبتذل” بشكل جميل. ليس المقصود بالشكل التزيين البلاغي بل البحث في المبتذل نفسه عن حقيقة الحياة الجارية. العودة إلى المحكية هي خرق لنطاقات هيمنة الثقافة العالمة ونمط سيطرتها الاجتماعي المنافق الذي يقابل بين الأخلاقي/ غير الأخلاقي، وبين القيّم/ المبتذل. كسر بوعلي هذه الثنائية، وبالأحرى حطّمها. اللغة المحكية لغة ثقافة ومجتمع. ما يجمع بوعلي ياسين مع الجاحظ هو أن الجاحظ مؤسس البيان العربي أو إبيستمولوجيه المؤسس أو أصوليه بالمعنى العلمي للأصولي أو للأسسي هو أنه لم يقم كبير وزنٍ للتناغم بين الفصاحة والبلاغة. وبوعلي بطبيعة الحال لا يقيم أي وزن لذلك، لكنه أخذ من الجاحظ منهجه العام. فالبلاغة موجودة في الشعبي التلقائي العامي والبسيط واللحظوي، وليس في الصنعة والعمل المتقن والفصيح. الحياة الحقيقية كما أحسها بوعلي ياسين هي فضاء تجربته في” عين الزهور”.
قد يكون مبالغةً القول إن بوعلي ياسين قد حاول في ” عين الزهور” أن يكتب سيرة خمسين عاماً من سيرة المجتمع السوري، لكن ليس مبالغةً القول إن” عين الزهور” مقاربة مهمة في هذه السيرة كما تبدو في خبرة بوعلي ياسين، واستئناف” منفرد” لكتابة جاحظية عريقة في تراثنا. لمن يريد توثقاً أكبر كان بوعلي ياسين يرى في الصفحات الداخلية للصحف الرسمية مصادر بيانات واتجاهات أساسية في البحث السوسيولوجي- الاقتصادي، ولربما ساعدته هذه الصحافة على إنجاز عدة كتب. ليس هنا مدار دقة أرقام هذه الصفحات بل والاتجاهات. وأعترف بأن بوعلي ياسين قد وجّهني هنا وجهة جديدة أنا الممعن في تلك الصفحات.
يقف بوعلي المثقف الرائد والنزيه، الإنسان الزاهد والمستقيم، المؤمن بجدية بأفكاره والبسيط المتواضع للغاية، العالم والمتواضع، الصموت والباسم على كل مشارف حياة من أحبوه. في زنزانةٍ جمعتني معه صدفةً، كنت أباسمه: هذا كله بسبب فطورك يا بوعلي( دعانا يومها للفطور في منزله) كان يبسم على طريقته، ولكنه أخرج ” تتن” اللف وشرع يدخن. وحين تمادينا بالحديث عن النساء، ماذا تقول يا صاحب” الثالوث المحرّم”. قال في النساء أنا أبحث. أنا نظريُُ باحث ولست عملياً. ولقد كان بوعلي في الخلاصة صوفياً عميقاً على طريقته، يحمل المعرفة كجمرة، وهو من صوفيي المجتمع الحديث العميقين الذين يتخطون العقل الأدواتي إلى العقل الإنساني الشامل. ليس ذلك شطحة فبوعلي المتصل بمدرسة فرانكفورت كان من أوائل الذين تعلموا هتك العقل الأدواتي. ولو لم يكن بوعلي ماركسياً نقدياً لكان كاهناً أعني شيخاً، متصوفاً أو ناسكاً. لكنه كان هذا الناسك والمتصوف داخل الماركسية النقدية. فبتقديري لم يكن بحاجة من نثر الحياة سوى إلى القليل من” المضغة”، وظلت روحه” رهبانية” مع أنه يتلذذ، ولكن لم يكن شهوانياً. وقد لا يحبّ الحديث عن “المتفرّدين” ولكنه كان متفرّداً. بوعلي لا شك هو نمط ناسك الثقافة، نستذكر معه هادي العلوي، لكن قد لا نستطيع بطلاقة استذكار غيرهما.
أبتعد في هذه العجالة عن” عين الزهور” وأستذكر أنه حين اختار أن يكون نباتياً، وكان يمقت أيّ قتل ولو حتى قتل صرصور، كان يعطي العقل معنى الإنسان. رجل أسست فعالية الفكر حياته. كان يرى في نفسه دوماً” عبد الله تعالى ” بالمعنى المجازي لكنه كان مؤسساً لمناقبية فكرية وبحثية وسلوكية، ولإنجاز كبير. ونحن اليوم بحاجة إلى بوعلي أكثر مما كان بحاجة إلينا، مع أنه يخجلنا. رجل عاش دون مسودات ومبيضات( بالمناسبة كان يكتب بحوثه دفعة واحدة وبهندسة جميلة وبحبر أثير إلى حساسية يده وتفكيره). هذا الشكل الهندسي يعبّر عن اتقاد فكره وتنظيمه الهائل، ولكنه في” عين الزهور” يقول لنا ما هو باسم، وعبره حياة مجتمع وتحولات. لم يكن بوعلي مكترثاًَ بمن يكتشفه لكننا الآن سنكتشفه لأننا بحاجة إليه في مفارق الدروب الصعبة التي لم” تتوّه” بوعلي يوماً، بل بقي بـ” جمرة المعرفة” في داخله الرائع والعظيم.
موقع الآوان